نجح المحتل الأمريكي بتكبيل الشعب العراقي بأغلال ليس من السهولة كسرها وإيجاد منافذ لتحرره وخلاصه منها، ويمكن القول إن الخراب الذي بدأ منذ مؤتمر لندن بقيادة المندوب الأمريكي  زلماي خليل زاده في 15 ديسمبر عام 2002 وتوج بعد ذلك بصياغة طرق المحاصصة الطائفية والعرقية بعد الإطاحة بسلطة حزب البعث، ثم فصل لهذه التشكيلة دستورا يعتبر أحد أعظم مكامن العثرات وإثارة النزاعات وخديعة الشعب وقنبلة موقوتة ممكن لها أن تفجر الأوضاع لو أريد إعادة صياغته.

دفع المحتل الأمريكي الكثير من الأموال لحشد الجهود ووضع العديد من الخطط وقدم الضحايا لأجل بناء قاعدته الاجتماعية والسياسية بين أوساط المجتمع العراق، وقد استطاع أن يكسب بعض النجاح في مسعاه ذلك، خاصة بين أوساط النخب السياسية من خلال إفسادهم بالمال والوعود، ولكن كل ذلك لم يجني النجاح المتوقع الذي كان يبحث عنه. بسبب المنافسة الإيرانية وبعض دول الإقليم الأخرى وأيضا تقلب الأهواء وضعف ولاء الكثير من أبناء الشعب العراقي وقواه السياسية حتى لوطنهم فكيف مع المحتل.

منذ ما قبل مؤتمر لندن أكتشف المحتل الأمريكي، إن سياسي العراق مجاميع من الكذابين المخادعين لا بل الأوغاد حتى تجاه أبناء جلدتهم ووطنهم، لذا كانت نظرية الفوضى الخلاقة (المنفلتة ) التي أقترحها وزير الدفاع رامسفيلد، أسلوبا ومقدمة لتشتيت كتل المجتمع ورفع سقف تناحرها وتنازعها، وأيضا مقدمة لصياغة تراكيب سلطوية بعيدة كل البعد عن بناء أسس دولة حضارية.

 مع تشتت ولاء أصحاب تلك السلطة وتنوع هوياتهم،فضل المحتل صناعة إدارة سلطة جديدة من جميع هؤلاء رغم عللهم، ليكون  للمحتل من خلالهم بعض فروض يتم فيها إخضاعهم وتوجيههم نحو سلوك يتناسب وصناعة آلية تضمن مصالحه، وفي ذات الوقت تصعد حالة التنافس والشك والريبة والعصبية الطائفية والقومية ومثلها المناطقية فيما بينهم وكذلك بين أوساط الشعب العراقي.

مجموعة القيادات والشخصيات السياسية وبمختلف توجهاتها والتي شاركت المحتل وعملت تحت شروطه ووصايته،  شرعت بوضع آلية اختزال الحراك المجتمعي وتقنينه عبر تصعيد الانفعالات ونوازع الشد والرعب والنفرة والتطير الطائفي والقومي ، ومع الأسف الشديد نجحت محاولاتها تلك في شطر لحمة المجتمع العراقي على هشاشتها إلى أنداد وخصوم وأعداء، لتطفو على السطح بشكل فج وقبيح تلك التشوهات وتصبح  قواعد  ومعايير في   احتساب الولاء للجماعة،  أو ما روج له وأطلق عليه التخندق أو التآزر المجتمعي القومي والطائفي ومثله المناطقي. ومع ضعف السلطة صعدت العشائر من سطوتها ومكانتها كمنظومة اجتماعية سياسية تتماثل وسلطات المؤسسات الحكومية ومثلها فعلت المؤسسة الدينية وساعد هذا التصعيد والسيطرة، على استشراء قبح تلك الظواهر، ولعبت البطالة والجهل المجتمعي الفعل المؤثر في تفجير الخصومات وشق الصفوف وبناء استحكامات خاصة بالضد من المخالف أي كانت طبيعته.

شكل ظهور الفصائل المسلحة وبالذات التابعة للتنظيمات والأحزاب الدينية، الملمح الأكثر سطوة ونفاذا في تفجير الخطر الداخلي ورفع مستوى العداء تجاه الأخر أو ما يسمى بالمخالف فكريا وعقائديا. وبمواجهة إدعاءات الخوف من الأخطار المحدقة وتضخيم  عداء ومحاولات انتقام الخصوم. وتأكيدا وترسيخا لتلك الهواجس المرضية وتعميما للغة الترقب والخوف، فرض على الكثيرين أن يسلموا زمام قيادتهم ورضوا بالخضوع لقانون الولاء الأعمى للعقيدة  وقبول ما يملى عليهم، ليتحول الفرد إلى رقم في مجموعة القطيع المسلح والمدجن. وربما يصل في بعض الحالات إلى ما يشبه حالة الاخصاء، حيث يسلم الفرد مصيره إلى الما فوق، دون إثارة التساؤلات أو الشكوك، وعندها لا يجد الفرد ضيرا في حالات التبخيس التي يتعرض لها، ولا حتى من حالة فقدان قيمته الإنسانية. ففي مثل هذا الولاء الأعمى يكون التنظيم القوي المدجج بالسلاح والمانح للمال هو الأهل والعشيرة التي تضمن للفرد الحماية قبل أية مؤسسة أخرى. وولاء الفرد فيها يصبح ناجزا وغير خاضعا للريبة والتطير والشك. فالتنظيم يكون مصدرا للاحتماء من الخصوم وفي ذات الوقت مصدرا للرزق، ويجد الفرد في ذلك الحيز ما يضفي عليه نوع من التوازن النفسي ويبعد عنه التهديد الذي يراه حسب التفسير العقائدي قادم لا محال من الطرف الأخر .

لا تبتعد مؤسسات الشرطة وقوى الأمن الداخلي لا ولا حتى قطعات كثيرة من الجيش عن مثل تلك الحالات المعقدة والمشوهة. فأوامر وتوجيهات الأحزاب المشاركة بالسلطة تلعب أدوارا مؤثرة في تراتيبية  وسلوك تلك الوحدات، وغالبا ما يكون ولاء قادتها و الكثير من إفرادها ناجزا وحاسما لجهة حزبية بعينها ويتقدم ذلك قبل أي ولاء أخر.

هذا الولاء التام يخضع لشروط  لازالت في الغالب تحكمها أو تديرها تقاليد العسكرياتية الصدامية، الخاصة بالضبط عبر الخوف والتهديد والتخوين والاتهام، وأغلب قادة المؤسسة الأمنية و العسكرية الحالية هم بقايا المؤسسة  العسكرية لصدام، ودائما ما يجدون أنفسهم في حومة هذه التهمة وتلك، رغم خلع جلودهم وإبدالها بثياب تتناسب وظرف المرحلة السياسية الجديدة. أيضا ينتاب الغالبية منهم الإحساس بمقدار الخيبة من كثرة الخسائر التي تعرضوا لها إثر الهزائم المتكررة منذ هزيمة غزو الكويت حتى ما قبل سقوط الموصل وأثناءها. وتجد تلك المؤسسة الكبيرة ما هو مبعث للرضا والاطمئنان  وكبح لعوامل العجز والضعف عبر التصاقها بالسلطة وأحزابها والتي تمثل لقادتها وجود حيوي يمنح الشرعية وأيضا يكون مصدرا للرزق،وعندها تكون السلطة السياسية الأب الراعي والواهب وصاحب المعيار الوحيد لقياس الإخلاص والسلوك العام والمهنية.  وبدورها فالسلطة تتعامل مع تلك المؤسسة بمختلف صنوفها وفروعها، كمؤسسة فاعلة يتم مراعاتها كونها أحدى أهم مؤسسات القمع لدى دولة في طور النشوء،أيضا بسبب هواجس الخوف والتوجس منها، لذا يغدق على قادتها وأفرادها الخير الكثير ولا يخضعون في الغالب للمسائلة على ما يرتكبونه من أفعال شائنة وغير سوية، وعبر هذا يتم شراء ولائهم وصمتهم وزجهم في سياسات السلطة حتى الوحشية منها.

هذه الصورة المشوهة للانتماء الوطني والمتخمة بالنماذج السلبية التي تكتنف مؤسسات المجتمع العراقي،  يبدو إنها الوجه السافر والكامل والحقيقي للمآل الذي خطته الإدارة الأمريكية وإيران وساعدتها في ذلك دول الإقليم ولعبت الدور المنفذ فيها سلطة الأحزاب وأذرعها الضاربة.

ومن خلال كل ما ورد أعلاه نكتشف السبب في ضعف الحراك الجماهيري واقتصاره على مجاميع ليست بالكبيرة نسبة لأعداد للمتضررين من الشعب العراقي، ولذا أقول من الخطأ منهجيا دراسة حراك الشارع العراقي دون البحث في العلاقة الجدلية بين جميع تلك الولاءات الفردية  والجماعية وتشكيلاتها وتقسيماتها، حين نريد قراءة لوحة  تظاهرات الجماهير الداعية والمطالبة بالحقوق المدنية والحريات وتصحيح العملية السياسية وتقديم الخدمات. حيث نرى التظاهرات تنحسر حينا وتقوى حينا آخر، ونشعر بذلك التشتت داخل تلك المجاميع وانعدام الشعار الموحد،وبقاء التظاهرات على شكل جزر موزعة في تلك المدينة أو الأخرى،وعزوف أعداد كبيرة عن المشاركة فيها تبعا لولائهم لهذا الحزب أو تلك القوى رغم كونهم وعوائلهم ضمن مشروع الجوع والإيذاء اليومي الذي تقدمه السلطة للشعب. ونشاهد اقتصار التظاهرات على مجاميع من الشباب المهمش العاطل عن العمل،  المنسلخ أو غير الراغب بالعمل ضمن آلية تلك الولاءات القبيحة.

ولكن يمكن القول مع استمرار زخم التظاهرات وتكرارها فإن ذلك سوف يساعد على ظهور  قيادات ذكية من رحمها ويجلب الكثير من قطاعات الشعب المتضررة للمشاركة في الاعتراض والتظاهر حتى من بين من يوالي الأحزاب الحاكمة أو ينضوي في أحدى تشكيلاتها.

عرض مقالات: