اعتبر التوقف عن الكتابة اثناء احتدام الأوضاع في العراق واختلاط الحابل بالنابل وتبعثر الأوراق، مثلما يحصل دائما، بحيث يعود امساك "راس الشليلة" أمرا متعذرا، ولهذا فأن الترقب يكون سيد المواقف لاسترجاع الأنفاس لنتبين الخيط الأبيض من الأسود، سيما في ظروف بالغة التعقيد والغموض تلك التي يمر بها العراق هذه الأيام، لهذا اعتذر للأصدقاء من الكتاب والقراء لهذا التوقف بعد أن توصلت بخطابات عتاب منهم تلومني عن هذا العزوف الذي اعتبروه غير مبرر عكس ما اعتقد شخصيا.

إن عشرات المقالات التي اجهدتنا كتابتها والتي تصدت وناقشت وعالجت وانتقدت ما يدور في العراق بين الفينة والأخرى، لم تجد نفعا ولم تجد من يعير لها أي اهتمام أسوة بما يساهم به كل الكتاب العراقيين بجهودهم في رصد الأحداث وتبيان السلبيات والايجابيات ووضع الحلول والمقترحات، سيما في ظروف يغلي فيها الوضع السياسي الذي ينذر بالكوارث القريبة جدا من أجساد السياسيين وملاذاتهم ومن يدور في فلكهم، لكنهم دائما يديرون ظهورهم للاحتدامات وأساليب الرفض الصارخة، لكون آذانهم قد اعتراها وقر وكأن الأمر لا يعنيهم وليسوا هم المستهدفون، وهذا ما يثير الدهشة والاستغراب، بل والأنكى من ذلك، يتخلى معظمهم عن جلبابه المدجج بالفساد وخيانة الأمانة التي وضعها الناس فيهم ندماً، ويدعون أنهم مع المحتجين والمظلومين والمطالب المشروعة للمتظاهرين، علما أن الأطفال الرضع باتوا يعرفون أن هؤلاء هم سبب البلاء والكوارث التي تعم العراق منذ تسلمهم لمقاليد القرار على امتداد الثمانية عشر عاما ليومنا الأسود هذا.

أن الأمر الأدهى والأمر في الوضع العراقي الراهن هو أنك لم تعد تميز الصادق من الكاذب من السياسيين وهم ينتقلون من اقصى اليمين لأقصى السيار وبالعكس، تبعا لبوصلة المد الجماهيري، بحيث ان البسطاء عادوا في حيص بيص من فهم ما يدور، وكأن من فعل كل هذا الخراب هي مخلوقات كونية هبطت من اجرام بعيدة وليس من صال وجال وطالت يداه الى مديات مخيفة لنهب كل ما يمكن نهبه وتشتيته من ثروات واموال وسيادة وآمال وطموحات، كلها قد تنكر لها هؤلاء الفاسدون دون أن يرف لهم جفن أو يتحرك لهم ضمير، وهم يقفون على التراجع الخطير في أوضاع البلد من تردي خدمات بكل تنوعها الى افلاس الخزينة، وصولا لصعود مخلوقات ينفر منها حتى الدواب بحيث بات ديدن المراقب المحتقن مما يرى ويشاهد ويعيش، لا يتردد أن يبصق على هذه الوجوه التي وصلت بها الوقاحة وانعدام النظر الذي يغيب عنهم تماما لكثرة ما يتمادون به من أفعال وخسة ونذالة يندى لها جبين البعيد قبل القريب.   

تكررت كثيرا وسائل الاحتجاجات التي كانت بمثابة جرس الإنذار للطبقة السياسية الغافلة عما يدور حولها والمتفرغة للنهب والسرقات وتهريب الأموال والثراء غير المشروع وخلق طبقات شرهة من اللصوص والفاسدين بعد أن قربوهم وأخذوا يغدقون عليهم الأموال والهبات والامتيازات غير الشريفة نهبا لخزينة البلد التي تؤكد كل التقارير بأنها كانت مملوءة بعائدات البترول الذي تقول بعض هذه التقارير أنها وصلت الى الاف المليارات من الدولارات، الأمر الذي دفع بأصحاب القرار من الفاسدين وعديمي الذمة والضمير الى تقريب الانتهازيين والمنتفعين واشراكهم في سلطة القرار العراقي من خلال نظام محاصصة مقيت وراحوا يبددون الأموال كيفما اتفق ولأي كان، ولا من حسيب ولا رقيب، والبلد يحتاج الى الدينار الواحد لإعادة بنائه وتوفير الخدمات لأبنائه المسحوقين والمعدمين، الذين لا يحتكمون حتى على رغيف الخبز لسد رمقهم واولادهم، والفاسدون يعلمون علم اليقين بانتشار الفاقة في أوساط الملايين من العراقيين، ومع ذلك تبددت ثروة العراق بينهم واعوانهم  وتوقفت كل مشاريع التنمية، فكيف والحالة هذه أن نطلب من الجائعين أن يلوذوا بالصمت ويندبوا حظهم في هذا الافقار المتعمد والعيش في هكذا ظروف حياتية بالغة التعقيد؟

إن الحراك الجماهيري المبارك اليوم هو امتداد للحراك المدني منذ العام 2011، حين خرجت القوى المدنية بعد أن انضم لهم الصدريون للمطالبة بتصحيح المسارات وازاحة الفاسدين ومحاسبة أسس البلاء وإلغاء نظام المحاصصة الذي جلب كل هذا الدمار وهذه الكوارث، فتحرك المنتفعون مدافعين عن امتيازاتهم وبكل الوسائل الرثة، بما فيها الاعتداءات والملاحقات وايداع المنتفضين المعتقلات، بل وتوجيه اخطر الاتهامات للرافضين لسياسة المحاصصة الذي أراد له الفاسدون أن يكون أمرا واقعا غير قابل للرفض واضعين كل الموانع لإلغائه، ورغم هذا الهياج الجماهيري الذي بلغ ذروته اليوم وما قدمه المحتجون من ضحايا وشهداء، فأن الوقاحة لا زالت تلازم من يريد إتمام مسلسل الخراب العراقي، ولم نجد وللأسف الشديد من يتبنى المطاليب المشروعة لفقراء العراق، سوى التيار المدني متمثلا بقواه الحية ليعمل منفردا والبقية في حالة إما المتفرج أو القامع لهذه الاحتجاجات السلمية المباركة، تاركين البوصلة تتجه نحو المجهول ولا من يصحح المسار الذي قد يحرق الأخضر واليابس.

نقول للطبقة السياسية العراقية، اياكم وتجاهل الغضب الجماهيري أن أنتم تماديتم في غيكم، لأن الطوفان قادم، بعد أن تراكمت كل أسبابه ليبلغ اقوى مدياته فيجرفكم جميعا إن لم تتعظوا وتعودوا لعقولكم التي تم توظيفها لممارسة كل الشرور الكوني الذي وصل في توصيفه حد الهمجية والتوحش البهيمي.

إنه الدرس الأخير والفرصة النهائية لسماع صوت العقل والحكمة للتخلي عن هذا التمادي الخطير في مواقفكم الخبيثة، وان وسائل الترقيع التي تمارسونها بلادة، هي مجرد ذر الرماد في العيون، فانتبهوا قبل أن يجرفكم التيار حيث مصيركم المحتوم لتظل اللعنات تلاحقكم ما حييتم وحتى بعد هلاككم كمن سيقوكم.

عرض مقالات: