تمر خلال الشهر الجاري على التوالي الذكرى الستون لثورة 14 تموز من عام 1958 العراقية ، والذكرى السادسة والستون لثورة  23 يوليو ( تموز ) من عام 1952 المصرية ، وغني عن القول أن ثمة أوجه تشابه عديدة بين الثورتين ، سواء من حيث اقترابهما الزمني ، أم من حيث الظروف التاريخية السياسية التي تفجرتا في ظلها ، أم من حيث الطابع الوطني السياسي لكلتيهما حيث استهدفتا اساساً من خلال اداة الثورة ( الانقلاب العسكري )  إلى تحرير البلاد من ربقة الاستعمار المشترك الإنجليزي ؛ وكذلك تخليص الشعبين من نظامين ملكيين رجعيين فاسدين يستظلان بحمايته ويرتهنان لإرادته بمظلة ديمقراطية صورية مزيفة ، كما أن كلتيهما حققتا تحولات اجتماعية تقدمية لصالح شعبيهما تمثلت في التأميمات للمؤسسات الاقتصادية الكبرى الخاصة ، ومصادرة الاراضي الواسعة والهائلة التي استولى عليها رموز الاقطاع الكُبار استيلاءً فاحشاً غير مشروع من خلال استغلال نفوذهم وتشابك مصالحهم مع النظام القائم وذلك على حساب جمهرة ملايين الفلاحين المهمشين والمسحوقين ودون أدنى اعتبار لمعايير العدالة الإنسانية الاجتماعية في توزيع الثروة .

على أن سياقات كلتا الثورتين أنتهت للأسف سريعاً إلى ارتدادات  مأساوية عن مبادئهما ومُثلهما الوطنية الثورية العُليا التي  قامتا من أجلها ؛ ناهيك عن نهايات تراجيدية لرموز قيادتيهما ؛ كما تجلى ذلك على وجه الخصوص في العراق بالانقلاب الدموي الفاشي الاسود للبعث في شباط  1963 على حكم الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أعدمه الانقلابيون بدم بارد في دار الإذاعة في نهار يوم رمضاني ، فضلاً عن حملات الإبادة التي طاولت آلاف الشيوعيين والديمقراطيين الوطنيين  ؛ في حين تجلت نهاية الثورة في مصر بوفاة قائدها جمال عبد الناصر المفاجئ في ايلول 1970 بعد ثلاث سنوات فقط من هزيمة حزيران 1967 التي قصمت ظهره ، ومن ثمَ استلام الحكم من بعده نائبه اليميني الانتهازي أنور السادات والذي سرعان نفّذ انقلاباً ماكراً  في أيار ( مايو ) 1971 على رفاق عبد التاصر في السلطة والذين كانوا الاكثر إخلاصاً ووفاءً لمبادئها ، وعلى رأسهم علي صبري ليتفرد السادات بعدئذ لتصفية مكتسبات ثورة يوليو الاجتماعية من خلال ما عُرف بسياسة الانفتاح الاقتصادي على الغرب ، وعلى رأسه أمريكا والارتماء في احضانها وصولاً إلى عقد صلح منفرد مع العدو الاسرائيلي عام 1979 . 

وهكذا  فإن المكتسبات والتحولات الاجتماعية التي حققتهما كلتا الثورتين في فترة وجيزة  ( المصرية على امتداد عشر سنوات من 1961 إلى 1971 ، والعراقية على امتداد خمس سنوات فقط من 1958 إلى 1963 ) سرعان ما تم الإجهاز عليهما من قوى الردة في كلا البلدين ودون استكمال المهام الآنية لحركة التحرر الوطني في كلا البلدين . ومن نافلة القول أن تلك الارتدادات عن مبادئ الثورتين في العدالة الاجتماعية إنما جاءت على خلفية تغييب الديمقراطية السياسية في النظامين وتسييد حكم الفرد الاستبدادي - قاسم وناصر - بديلاً عن الحكم الدستوري التعددي  وعدائهما - بدرجات متفاوتة - لأهم حلفاء الثورتين في الداخل  ،  ألا هو اليسار في بلديهما ، وبصورة أشد في مصر إبان الحكم القاسمي في العراق ، حيث أودع عبد الناصر الآلاف من رموز اليسار ومناضليه في المعتقلات في حملة فجر الاول من كانون الثاني / يناير 1959بحجة عدائهم للوحدة مع سوريا وأبقاهم فيها حتى عام 1964. ومن المفارقات الجديرة بالذكر ان الصراع بين قيادتي الثورتين المرير على خلفية الموقف من الوحدة مع سوريا وإشراك العراق فيها ذاتها فضلاً عن مسببات اخرى مختلف عليها كل ذلك ساهم بدوره موضوعياً في زرع بذور انهاكهما أيضاً  . 

والحال فإنه رغم الدروس والعِبر المستلهمة من تجربة تحالف اليسار في مصر والعراق مع النظامين الناصري والقاسمي إبان ثورتي تموز ( يوليو ) بمختلف جوانبها الإيجابية والسلبية إلا ان الدور الكبير الذي لعبه اليسار خلالهما مازال مُغيّباً في التاريخ العربي المعاصر بوجه عام وفي إعلام وتاريخ كلا البلدين بشكل خاص ، على الرغم من أن هذا الدور موثّق ومعروف تاريخياً  والكثير من عايشوه أو كانوا شهوداً عليه كتبوا  مذكراتهم عنه ؛  ففي مصر كان من المعروف أن عدداً من تنظيم الضباط الاحرار قريبون أو أعضاء من التنظيمات اليسارية ؛ وخاصةً " حدتو " ، بل إن واحداً من الأعضاء الخمسة للخلية الأولى التأسيسية التي اجتمعت في بيت عبد الناصر خريف 1949 ينتمي لليسار ألا هو خالد محي الدين الذي توفي في ايار الماضي ، والذي لعب هو وضباط يساريون آخرون -  وعلى الأخص يوسف صدّيق الذي استولى على مبنى هيئة الاركان - دوراً مهماً في إنجاح عملية الاستيلاء على السلطة ليلة 23 يوليو ( تموز ) . كما وقف مُحي الدين موقفاً حازماً في الدفاع عن تشييد نظام ديمقراطي جديد خلال ازمة مجلس قيادة الثورة 1954 مع الفريق المنادي بعودة الضباط إلى ثكناتهم  مما دفع عبد الناصر إلى نفيه إلى سويسرا بعد انتصار فريقه الذي كان على رأسه والذي أصر على تمسك الضباط بالسلطة ، كما ساهم   اليسار المصري والشيوعيون  في أعقاب إطلاق سراحهم من المعتقلات في تطوير وتثوير المنحى اليساري لكوادر حزب السلطة الناصريين  داخل الاتحاد الاشتراكي وداخل المعهد الاشتراكي ، وكان الكثير من أفكار الثورة واجراءاتها التقدمية سياسياً واجتماعياً لليسار بصمات واضحة فيها ، بما في ذلك في  ذلك دور أقلامهم الفكرية المميزة في صحافة وإعلام النظام الناصري ، وكذا أدوارهم في التبشير بالثورة بآفاقها التقدمية والدفاع عنها في حقول الادب والابداع والفن السينمائي والمسرحي والموسيقي والغنائي والتصدي للقوى المضادة لها داخلياً وخارجياً . 

أما دور اليسار العراقي ، وتحديداً الحزب الشيوعي العراقي ، في ثورة تموز رغم عهدها القصير المؤود ( 1958- 1963 ) فلا يقل أهميةً وقوة عن اليسار المصري ، إن لم يفقه ، وذلك منذ التحضيرات الاولية لاداة الثورة ممثلة في الانقلاب العسكري فجر الرابع عشر من تموز،  إذ من المعروف بأن قاسم حرص على إبلاغ الحزب سرياً عن تلك التحضيرات الجارية للتخطيط للإنقلاب ، وعلى إبلاغهم بموعدها المضروب ، كما كان العديد من الضباط الاحرار  أعضاءً أو قريبين من الحزب ، ومثلما كان لليسار المصري دور في افكار ومشاريع الثورة وإعلامها ؛ فقد كان لليسار العراقي كذلك ، وعلى الأخص الحزب الشيوعي  ، مثل هذا الدور إعلامياً وثقافياً وفنياً وفكرياً في ثورة تموز وفي العديد من برامجها ولحمايتها والجمهورية الفتية الوليدة من القوى المضادة ، وكان الحزب هو أبرز القوى التي تصدت بصدورها العارية للانقلاب البعثي الرمضاني الغادر عليها في 8 شباط 1963 ، بل ان زعيم الثورة عبد الكريم قاسم  استعان بعدد من كوادر اليسار والحزب الشيوعي خصوصاً في تولي المناصب والسلطات التنفيذية ، ولعل أشهرها توزير نزيهة الدليمي وهي أول إمرأة عربية تصبح وزيرة ( للبلديات ) .

 وإذا كانت واحدة من أكبر أخطاء الشيوعيين المصريين قبولهم فور الافراج عنهم 1964 تحت ضغوط عبد الناصر بحل الحزب والالتحاق بتنظيم السلطة كأفراد " الاتحاد الاشتراكي العربي " رغم ما تعرضوا له في المعتقلات من تعذيب اُستشهد فيها عدد منهم أبرزهم القائد الشيوعي الفذ شهدي عطية ، فإن من أبرز أخطاء الشيوعيين العراقيين قبولهم بالدخول في تحالف مع حزب السلطة البعثي بعد انقلابه الثاني ( تموز 1968 ) في إطار ما عُرف ب " الجبهة الوطنية والقومية التقدمية مما مكّنه بعدئذً من تجريد حملات جديدة لتصفيتهم في أواخر السبعينيات عشية انقلاب صدام حسين على الرئيس أحمد حسن البكر وفي أعقاب تفرده بالحكم الدموي المطلق . 

ولئن كانت الدروس السياسية المستفادة  من تجربة مشاركة اليسار في ثورتي تموز المصرية والعراقية مازالت حية جديرة بالدروس والعِبر حتى في ظل الواقع المرير الذي بات عليه وضع  اليسار في مصر والعراق وعلى مستوى العالم العربي عامةً فإنه من الأهمية بمكان أن يقوم اليسار في البلدين المعنيين -  كلاً على حدة -  بتدوين تلك التجربة ،   والنضال بكل السبل الممكنة لإيصال ونشر حصاد هذا التدوين وتأريخ دور اليسار في كلتا التجربتين ليس إلى الإعلام الرسمي والخاص ، بل ولتوعية الاجيال الشابة الجديدة به ، ومن أجل أن يُدّرس - الدور - في مناهج التاريخ في سياق الصفحات المجيدة المضيئة لحركات التحرر الوطنية العربية بموضوعية وأمانة علمية بكل مالها وما عليها .      

* باحث سياسي بحريني  

عرض مقالات: