
العمل النقابي الاشتراكي: الماضي والحاضر
إلى جانب الانتخابات، تعتبر حركة العمال والنقابات من أهم مجالات النشاط والتركيز بالنسبة للحركات الاشتراكية حول العالم. ولا تزال مسألة النقابات ذات أهمية مركزية للاشتراكيين في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فقد تغير تركيز التنظيم الاشتراكي في مكان العمل بشكل ملحوظ خلال القرن الماضي. فاليوم، يركز أعضاء "منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين" في أمريكا، الناشطون في النقابات، أساساً على:
تحويل النقابات القائمة إلى منظمات أكثر ديمقراطية ونضالية، وتوجيهها بشكل أكبر نحو تلبية احتياجات أعضائها واحتياجات الطبقة العاملة بأكملها.
ويتمثل عملهم في دمج العمال غير النقابيين داخل النقابات، وفي الوقت نفسه ممارسة الضغط من الداخل على القيادات النقابية المحافظة عبر مبادرات إصلاحية.
على النقيض من ذلك، كان الحزب الاشتراكي الأمريكي (SP) وغيره من القوى اليسارية منقسمين بشدة حول نوع النقابات التي ينبغي تأسيسها وأي الاتحادات النقابية يجب دعمها.
إن فهم هذا التحوّل – من الجدالات الحادة والمفرّقة حول أي النقابات يجب على الاشتراكيين دعمها إلى التوافق على ضرورة إصلاح النقابات القائمة – يساعد على تفسير كيفية عمل منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا داخل الحركة النقابية.
كما يظهر بوضوح مدى تأثير التركيز على الخلافات الداخلية في تشويه وجهات النظر إلى الإجماع الواسع الذي يسود داخل المنظمة.
اليسار وحركة العمال في القرن التاسع عشر
لنبدأ بنشوء النقابات في الولايات المتحدة وعلاقة الاشتراكيين الأوائل بالحركة العمالية المُنظمة.
منذ الحرب الأهلية الأمريكية، جرت عدة محاولات لتأسيس اتحاد نقابي وطني.
وكان من بين أكثرها راديكالية اتحاد فرسان العمل (Knights of Labor) قصير العمر.
ومع ذلك، سيطرت النقابات الأكثر محافظة وذات التوجه التجاري على المشهد، على حساب التيارات الراديكالية مثل "فرسان العمل"، كما أقر فيرنر سومبارت عام 1906 في كتابه الشهير: "لماذا لا توجد اشتراكية في الولايات المتحدة؟".
أما الاتحاد الأمريكي للعمل (AFL) الذي تأسس عام 1886، ونقاباته المهنية للعمال المهرة، فقد جسّد نوع ما يُعرف بـ "النقابة التجارية" (business unionism).
فهو مفتوح تقليدياً فقط للعاملين في مهن معينة، وليس لجميع الموظفين في منشأة أو قطاع،
ويتميّز غالباً بـ التقييد الأكبر والتوجه الأيديولوجي المحافظ.
وقد ترك القمع العنيف للنقابات الوطنية الراديكالية السابقة لـ الاتحاد الأمريكي للعمل ، مثل "فرسان العمل"، أثراً واضحاً على النقاشات الاشتراكية المبكرة حول الاستراتيجيات النقابية.
وبغياب اتحاد نقابي يساري قوي ومستقر، واجه الاشتراكيون صعوبة في إيجاد نقطة انطلاق استراتيجية لعملهم النقابي، وزيادة نفوذهم بين العمال الواعيين طبقياً.
وبالتالي، دارت الجدالات حول ما إذا كان ينبغي تأسيس نقابات جديدة أكثر نضالية، أم تغيير النقابات القائمة والمحافظة من الداخل.
بلغ النقاش حول استراتيجيات النقابات ذروته في أوائل القرن العشرين. وكان اتحاد العمال الصناعيين في العالم (IWW)، الذي تأسس عام 1905، هو المُثير المباشر للصراع.
فقد عَرف عدد كبير من الاشتراكيين أنفسهم على أنهم ينتمون إلى التيار المعتدل داخل الحزب، ودعموا الاتحاد الأمريكي للعمل (AFL)، لكنهم لم ينووا تنظيم العمال غير النقابيين.
أما التيار الأكثر راديكالية داخل الحزب، فقد اتجه نحو اتحاد العمال الصناعيين في العالم ، الذي كان يمارس العمل التنظيمي خارج التوجه النقابي المهني التقليدي لـ الاتحاد الأمريكي للعمل.
كما دعا أعضاء اتحاد العمال الصناعيين في العالم، المعروفون باسم "ووبليز" (Wobblies)، إلى فتح النقابات أمام مجموعات المهاجرين – مثل اليهود، والصينيين، وغيرهم من العمال ذوي الأصول غير الأوروبية الغربية. (وكان أغلب أعضاء الاتحاد الأمريكي للعمل في ذلك الوقت من مجموعات مهاجرة قديمة، بما في ذلك من إيرلندا وألمانيا).
ورغم أن الخطاب الثوري لـ "اتحاد العمال الصناعيين في العالم"، كان غالباً يتناقض مع ممارستهم التنظيمية العملية وإيمانهم بسيادة القانون، فإنهم نجحوا في تحريك العمال في القطاعات التي تجاهلها الاتحاد الأمريكي للعمل ونقاباتها المهنية.
أما موقفهم العدائي تجاه الحركة النقابية التقليدية والحزب الاشتراكي المتحالف معها، فقد جعل حتى أصدقاء "اتحاد العمال الصناعيين في العالم" ينظرون إليهم كمدافعين عن "النقابية المزدوجة" (dual unionism)، أي تأسيس أو الانتماء إلى نقابات منافسة داخل نفس القطاعات تقريباً.
ومن بين هؤلاء الأصدقاء كان يوجين ديبس، الذي حضر تأسيس "اتحاد العمال الصناعيين في العالم."
فالتطور الذي شهده ديبس من ديمقراطي ونقابي محافظ إلى مرشح رئاسي اشتراكي خمس مرات ومنظم عمالي ثوري، يمثل تحول العديد من العمال آنذاك نحو مواقف أكثرراديكالية.
وكان هدفه تأسيس اتحاد ثوري. ويرى أن إصلاح الاتحاد الأمريكي للعمل أشبه بـ "محاولة إزالة رائحة مجاري بماء الورد".
لا يزال يوجين ديبس يُعتبر حتى اليوم – وخصوصاً داخل اليسار – رمزاً أيقونياً للحركة النقابية الأمريكية.
لكن ليس كل الاشتراكيين البارزين في زمانه أو بعده شاركوه التوجه نحو "اتحاد العمال الصناعيين في العالم".
ومن أبرز المعارضين له كان فيكتور بيرغر، ناشط من أصل نمساوي وعضو بارز فيما يُعرف بـ الاشتراكيين القنواتيين (Sewer Socialists) والحزب الاشتراكي في ولاية ويسكونسن.
كان بيرغر راسخاً داخل الحركة النقابية التقليدية، بما فيها "الاتحاد الأمريكي للعمل"، وكان من بين القيادات الحزبية التي فضّلت التعاون مع "الاتحاد الأمريكي للعمل" على التعاون مع "اتحاد العمال الصناعيين في العالم".
ومن بين الاشتراكيين المؤيدين لـ الاتحاد الأمريكي للعمل أيضاً، كان موريس هيلكويت من نيويورك، وهو ماركسي أرثوذكسي من أصول روسية، الذي أطلق على الاشتراكيين القنواتيين لقبهم الهزلي "Sewer Socialists" .
سعى هيلكويت في بعض الأحيان إلى فتح حوار مع صمويل غومبرز، الذي ترأس AFL تقريباً منذ تأسيسه حتى وفاته عام 1924.
ومع ذلك، كان الاشتراكيون داخل الاتحاد الأمريكي للعمل يتجادلون مع غومبرز حول توجه المنظمة.
فعلى سبيل المثال، في عام 1912، وفي ذروة التأثير الاشتراكي، حصل ماكس هايز، وهو عضو عادي في الحزب ترشح لمنصب رئاسة الاتحاد الأمريكي للعمل ضد غومبرز، على نحو ثلث الأصوات تقريباً.
كان من المفترض أن توضح النقاشات بين الاتحاد الأمريكي للعمل و"اتحاد العمال الصناعيين في العالم" أي الطرق تؤدي إلى تحسين النقابات وظروف العمل، وتنتهي عند ذلك. لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى جاء قبل هذه المصالحة.
فقد أدت حملات القمع الوحشية من الدولة ضد الحزب الاشتراكي و – اتحاد العمال الصناعيين في العالم وكلاهما كانا ضد الحرب – إلى إضعاف المنظمات بشكل كبير.
وعلى الرغم من المحاولات التي بُذلت لتوحيد القوى اليسارية لمواجهة القمع، إلا أن التضامن كان ضعيفاً وغير قادر على مواجهة القمع من القوى اليمينية.
وبالفعل، تم تدمير البنية التحتية والقدرة التنظيمية لـ اتحاد العمال الصناعيين في العالم تقريباً بشكل كامل.
تراجع الحزب الاشتراكي داخل الحركة النقابية
تزامن – وليس بشكل مفاجئ – ميلاد وصعود الحزب الشيوعي مع تراجع الحزب الاشتراكي.
فقد تلاشت الحماسة الأولية للاشتراكيين تجاه الثورة الروسية عندما فقد الاتحاد السوفيتي جاذبيته كنموذج يُحتذى به للولايات المتحدة لدى العديد من الأعضاء.
وقد أدى ذلك إلى توترات داخل الحزب وخارجه، وخلق علاقة مواجهة متزايدة مع الشيوعيين المتزايدين قوة والذين انفصلوا عن الحزب الأشتراكي SP.
وساهمت هذه التوترات في تشكيل عمل الحزب داخل النقابات خلال عشرينيات القرن العشرين.
أما في ثلاثينيات القرن العشرين، فقدَ الاشتراكيون تأثيرهم في العديد من النقابات الرائدة، وخصوصاً في مؤتمر المنظمات الصناعية (Congress of Industrial Organizations – CIO)، لصالح الشيوعيين.
وقد تأسس CIO عام 1935 من نقابات سَعت إلى تنظيم العمال في القطاعات الصناعية بما في ذلك العمال غير المهرة – وهي شكل من التنظيم الذي تجنبه الاتحاد الأمريكي للعمل لفترة طويلة.
نحو استراتيجية نقابية موحدة
نظراً لضعفها وتراجع عدد أعضائها، ركز الحزب الاشتراكي (SP) في العقود التالية أساساً على الهياكل القيادية للنقابات بدلاً من العمل على القاعدة الشعبية.
وعندما انقسم الحزب في السبعينيات، ركزت المنظمتان الرئيسيتان – وهما الأشتراكي الديمقراطي في أميركا واللجنة التنظيمية الأشتراكية الديمقراطية – على كسب تأييد قيادات النقابات والمسؤولين الدائمين.
ومن خلال هذه الاستراتيجية من الأعلى إلى الأسفل (Top-down)، كانوا يأملون في تأثير السياسة الداخلية والخارجية للنقابات من القمة.
واستمر هذا المفهوم بعد أن اندمجت اللجنة التنظيمية الأشتراكية الديمقراطية مع الحركة الأمريكية الجديدة (New American Movement) لتشكيل "الأشتراكيون الديمقراطيون في أميركا" Democratic Socialists of America - DSA، وقد شكل التوجه النقابي للمنظمة الجديدة حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ونتج عن ذلك نوع من النفور الى الانخراط في الانتخابات الداخلية للنقابات لدعم مبادرات الإصلاح – وهو أمر كان أكثر شيوعاً في المبادرات التي تعتمد القاعدة الشعبية مثل المجلة النقابية الإصلاحية "Labor Notes" .
حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ركزت منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا وقسمها الشبابي بشكل أساسي على حملات لتنظيم الموظفين الجُدد وتسليط الضوء على الاستغلال في أماكن العمل، مع العمل قدر الإمكان على مستوى القاعدة الشعبية.
وقد تم اعتماد هذه الاستراتيجية رسمياً في مؤتمر منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا عام 2019، عندما قرر المندوبون جعل ما يُعرف بـ "استراتيجية القاعدة الشعبية" أي التوجه المركزي للعمل النقابي.
وهي استراتيجية تشجع الاشتراكيين وحلفاءهم على بناء علاقات مع العمال النشطين بالفعل في النقابات. والهدف منها هو دعم نضالاتهم في تنظيم العمل في أماكنهم، وتحدي القيادات النقابية المحافظة على المدى الطويل واستبدالها.
وقد زادت جاذبية استراتيجية القاعدة الشعبية منذ منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عندما فاز المعلمون التقدميون والاشتراكيون في انتخابات قيادة اتحاد معلمي شيكاغو (CTU).وبقيادتهم، حققوا عدة تحسينات كبيرة لأعضائهم ولقطاع التعليم من خلال إضرابات واسعة وناجحة.
التحديات والموافقة على استراتيجية القاعدة الشعبية داخل منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا
لم تكن استراتيجية القاعدة الشعبية عام 2019 خالية من الجدل. فقد وجد العديد من أعضاء منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا ذوي الخبرة صعوبة في البداية في التدخل العلني في النزاعات والانتخابات الداخلية للنقابات وتأييد جانب معين.
لكن في السنوات الأخيرة، حظيت الاستراتيجية بقبول واسع بين مختلف الفصائل والكتل داخل المنظمة.
ومن اللافت للنظر أن المؤيدين والمنتقدين لا يمكن تصنيفهم بسهولة ضمن فئة ديموغرافية واحدة. حيث يمكن العثور على موظفين نقابيين دائمين يدعمون استراتيجية القاعدة الشعبية، وفي الوقت نفسه أعضاء نقابيين عاديين ينظرون إليها بتشكك.
كما أن الاهتمام المتزايد بالإصلاح النقابي لم يؤد إلى تراجع العمل التنظيمي في الشركات غير النقابية.
فأعضاء الاشتراكيون الديمقراطيون في أميركا DSA، على سبيل المثال، ينشطون في ما يُعرف بحملات "Salting"، أي إدخال منظّمين بشكل مستهدف داخل شركات مثل ستاربكس أو أمازون لتأسيس نقابات هناك.
ويجب التأكيد أن اختلاف الأولويات هذه لا يعني انقساماً، إذ يشترك جميع أعضاء DSA تقريباً في الرأي القائل بأن العمل التنظيمي يجب أن يتم داخل النقابات القائمة وكذلك في أماكن العمل غير المنظمة.
بشكل عام، الاختلافات داخل منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا حول التوجه النقابي أقل عمقاً بكثير مما كانت عليه في الحزب الاشتراكي القديم.
فلا يطالب أحد بتأسيس اتحاد نقابي جديد، حتى لو كان بعضهم يشكك في قيادة الاتحاد الأمريكي للعمل -CIO أو يرفضها.
ويظهر وجود توافق داخل منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا في هذا المجال جلياً في الأزمات السياسية في الولايات المتحدة:
فعند كتابة هذا النص، دعمت اللجنة الوطنية للعمل (National Labor Commission – NLC) التابعة لـ منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا بشكل فعال المقاومة ضد هجمات الحكومة الفيدرالية على المهاجرين – وهو عمل يحظى بدعم واسع داخل المنظمة.
----------------------
ديفيد دوهالدي*: هو رئيس "صندوق الأشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين"، وهي منظمة تعليمية غير ربحية شقيقة للحزب الاشتراكي الأمريكي. وهو المدير السياسي السابق للحزب الاشتراكي الأمريكي.
يتبع







