
يعدّ الخبير التأميني الصديق والزميل العزيز مصباح كمال، أحد أبرز الباحثين المتخصصين في دراسة قطاع التأمين العراقي العام والخاص، وقد عرف بمنهجية التحليل الرصين وحرصه على توثيق كل ما يتصل بتاريخ وتحّولات هذا القطاع الحيوي. وفي كتابه الأخير المعنون" تعين المديرين العامين لشركات التأمين الحكومية في العراق منذ 2003، وقضايا ذات صلة: رصد نقدي. يقدم الكاتب دراسة معمّقة حول قضية محورية تمس جوهر الأداء المؤسسي والإداري لشركات التامين الحكومية. وهي آليات تعيين المديرين العامين وما يرافقها من أبعاد مهنية وسياسية واقتصادية.
أولا: لمحة تاريخية مختصرة عن شركات التأمين العامة في العراق
يعود تأسيس قطاع التأمين العراقي الحديث الى أربعينيات القرن الماضي، حيث ظهرت أولى الشركات الوطنية الى جانب الشركات الأجنبية التي كانت تهيمن على سوق في فترة ما قبل تأميم الاقتصادي. وفي عام 1964 تم تأميم النشاط التأميني بصدور قانون رقم 49 لسنة 1964، لتنشأ ثلاث شركات عامة، وهي:
1. شركة التأمين الوطنية 1964، التي أصبحت لاحقاً العمود الفقري للقطاع العام؛
2. شركة التأمين العراقية، التي تولت تغطية التأمينات الداخلية والخارجية لحين حصر عملها بتأمينات الحياة (1964 ـ- 1988)؛
3. شركة إعادة التأمين العراقية، التي أنشئت لدعم إعادة التأمين داخل وخارج البلاد.
طول العقود اللاحقة، ظل هذا القطاع جزءاً من المنظومة الاقتصادية المملوكة للدولة، يتمتع بدرجة عالية من الكفاءة والاستقرار النسبي، ويساهم في تمويل مشروعات التنمية العامة. إلا أن التحولات السياسية والاقتصادية التي أعقبت الاحتلال الانكلوا ـ- امريكي للعراق عام 2003، أحدثت تغيراً جذرياً في بنيته الإدارية والتشريعية.
ثانياً: التحولات بعد عام 2003، تفكيك الدولة وإرباك المؤسسات
مع سقوط الدولة المركزية وتحّول النظام الاقتصادي نحو "اللبرالية الجديدة"، واجه قطاع التأمين العام تحديات مؤسسية كبيرة، تمثلت في:
ـــ ضعف الإشراف الحكومي وتعدد الجهات الوصائية؛
ـــ غياب السياسة التأمينية الوطنية الشاملة؛
ـــ تقليص الدور الاستثماري والإنتاجي لشركات التأمين العامة؛
ـــ دخول شركات خاصة جديدة في سوق غير منظم بالكامل.
في هذا السياق، ركز الكاتب على قضية التعيينات الإدارية التي تمّت منذ عام 2003 وحتى اليوم، مبينناً كيف تحولت عملية اختيار المدراء العامين الى ملف حساس يعكس علاقة الدولة بالقطاع الاقتصادي العام.
ثالثاً: منهج الكتاب وتساؤلاته الجوهرية
ينطلق الكاتب في أطروحته من سؤال مركزي، وهو:
هل تحتاج شركة التأمين العراقية العامة الى مدير عام من داخل القطاع أم من خارجه؟
ومن خلال هذا التساؤل، يتفرع النقاش الى جملة من الأسئلة الفرعية تتناول: الكفاءة، الخبرة، النزاهة، ومعايير الاختيار. يعتمد الكاتب منهجاً تحليلياً وصفياً مدعوماً بالوثائق والجداول والملاحق، مقدماً عرضاً تفصيلياً لتاريخ المدراء العامين، مؤهلاتهم، إنجازاتهم أو إخفاقاتهم، كما خصص محوراً كاملاً لمقارنة تجارب التعيين في الشركات الثلاث بين الفترات السابقة واللاحقة لعام 2003.
رابعاً: آليات التعيين من داخل القطاع أم خارجه
من أبرز ما يرصد الكاتب هو الاختلاف في أسلوب التعيين بعد عام 2003، حيث انتقلت الممارسة تدريجياً من اختيار المدراء من داخل شركات التأمين نفسها، ممن يمتلكون خبرة ميدانية طويلة، الى تعيين شخصيات من خارج القطاع التأميني، استنادا الى الولاءات السياسية أو المحاصصة الحزبية والمذهبية والاثنية. ويبين الكاتب أن هذا التوجه أدى الى تراجع الكفاءات الإدارية والفنية، وانفصال الإدارة عن البيئة المهنية والمؤسساتية التي يفترض أن تقودها.
في المقابل، يذكر نماذج إيجابية، مثل الأستاذ عبد الباقي رضا، الذي عين مديراً عاماً لشركة التأمين الوطنية، ونجح في تعزيز الانضباط والفاعلية، مما يثبت أن القيادة المؤهلة قادرة على إحداث فارق ملموس في الأداء العام.
خامساً: دور المدراء العامين وشروط التعيين:
يحدد الكاتب في الصفحات 42 – 74، مجموعة من المهام والشروط التي ينبغي أن تتوفر في المدير العام لشركة التأمين، من بينها
1. امتلاك خبرة متخصصة في مجالات التأمين وإعادة التأمين؛
2. الإلمام بالقوانيين المحلية والدولية ذات الصلة؛
3. القدرة على إدارة المخاطر وتطوير المنتجات التأمينية؛
4. الالتزام بالشفافية والحوكمة؛
5. بناء شركات استثمارية داخلية وخارجية.
ويرى الكاتب أن تجاهل هذه المعايير لصالح التعيينات السياسية، يضعف البنية المهنية، ويقوض استقلالية القرار الإداري.
سادساً: الدور الاستثماري والاقتصادي لشركات التأمين العامة:
على الرغم من تقلص مساهمة شركات التأمين العامة في الناتج المحلي الإجمالي خلال العقدين الماضيين، فإنها ما زالت تمثل الركيزة الأساسية للسوق التأمين العراقي. وتشير تقديرات متفرقة الى أن مساهمة قطاع التأمين في الناتج المحلي لا تتجاوز (0.3 – 0.5) ٪، وهي نسبة متواضعة مقارنة بالدول المجاورة، ما يعكس محدودية وضعف الثقة في البيئة التأمينية.
مع ذلك، تلعب الشركات العامة دوراً مهماً في إدارة محافظ استثمارية في الداخل، تشمل ودائع مصرفية واستثمارات عقارية وسندات حكومية، فضلاً عن علاقات إعادة تأمين مؤسسات إقليمية ودولية. غير أن الكاتب يلاحظ أن غياب الاستقلال المالي والإداري وعدم تحديث التشريعات قد حدّ من قدرة هذه الشركات على منافسة القطاع الخاص، الذي توسع بعد 2003، وإن كان الأخير يفتقر الى راس المال والخبرة الكافية.
سابعاً: ملاحظات نقدية على أداء الشركات العامة
يخصص الكاتب في الصفحات 94 – 105 فصلاً لنقد المثالب الإدارية في شركات التامين الوطنية، متناولاً قضايا تتعلق بضعف الرقابة الداخلية، وتشتت القرار الإداري، وعدم كفاية برامج التدريب المهني. كما يعرض في الصفحات 105 – 120 ملاحظات حول التعيينات الاخيرة في شركة التأمين العراقية، مشيراً الى غياب رؤية حكومية واضحة تجاه تطوير هذا القطاع الاستراتيجي.
ثامناً: خلاصة وتقيم نقدي
يتميز هذا الكتاب بكونه أول دراسة متكاملة ترصد التطورات الإدارية والمؤسسية في شركات التأمين الحكومية بعد عام 2003، بأسلوب نقدي موثق. ولا يكتفي الكاتب بوصف الواقع، بل يسعي إلى تحفيز النقاش المهني داخل الأواسط التأمينية، حول أهمية الإصلاح المؤسسي، وتبني سياسات تعيين قائمة على الكفاءة والجدارة، بعيداً عن المحاصصة المقيتة.
إن القيمة المضافة لهذا العمل تكمن في تاريخه التحليلي المقارن، وجرأته في طرح الأسئلة الجوهرية التي تتجنب المجاملة، وتضع مصلحة القطاع فوق أي اعتبارات أخرى. ومن شأن هذا الكتاب أن يشكل مرجعاً أساسياً للباحثين وصناع القرار في مجالات الاقتصادية والحوكمة، إذ يكشف بعمق كيف أن البنية الإدارية السليمة، هي الشرط الأول لأي إصلاح اقتصادي حقيقي.
خاتمة
يمثل كتاب مصباح كمال مساهمة فكرية ومهنية متميزة في فهم التحولات التي أصابت قطاع التأمين العراقي، خلال العقدين الماضيين. ويذكرنا بأن الإصلاح لا يبدأ فقط من اللوائح أو القوانيين فحسب، بل من الإنسان المؤهل القادر على القيادة والمساءلة. ومع كل التقدير للكاتب على جهوده المتواصلة في توثيق تاريخ هذا القطاع وإثراء المعرفة التأمينية العراقية، يبقى الأمل معقوداً على أن تجد دراسته صدى عملياً في إعادة بناء قطاع التأمين، كأحد روافد الاقتصاد الوطني المستدام.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أتقدم بتهنئتي الحارة على هذه الدراسة القيّمة التي تثري المعرفة التأمينية والاقتصادية، وأتمنى لعزيزنا مصباح كمال دوام الصحة والسعادة والعطاء المثمر والنجاح المتواصل على كافة الصعد والعمر المديد.
----------------------------------------------------------------------------
* المقال منشور على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، بتاريخ 14/11/2025
رابط الكتاب:







