
شكلت الانتخابات البرلمانية في العراق بعد عام 2003 أحدى الركائز التأسيسية للعملية السياسية، الا أنها لم تستطع – رغم تكرارها (6 دورات)– أن تتحول إلى أداة فعّالة لإنتاج تمثيل حقيقي أو لتجديد النخب، بسبب تشوّه بنيتها القانونية والتنظيمية، واستمرار تأثير المال السياسي والسلاح المنفلت والسلطات التنفيذية على آليات ومسارات كل الدروات الانتخابية. وضمن هذا السياق، كثيرا ما يبرز جدل واسع حول ما جدوى مشاركة القوى المدنية ؟ و ما حجم دورها وتأثيرها في تغيير تلك الاليات والمسارات ومحاولة تعديلها ؟ وما إذا كان يحق لها انتقاد البيئة الانتخابية ؟ أم أن مشاركتها تُعدّ قبولاً ضمنياً بقواعد اللعبة وشروطها.
ترى بعض الخطابات السياسية والإعلامية أنّ القوى التي تدخل الانتخابات تُسقط عن نفسها حقّ نقد قانون الانتخابات أو آليات إدارته، لأنها بمشاركتها تلك، تكون قد قبلت – بشكل أو بآخر – بالبنية الانتخابية القائمة. غير أن هذا الفهم لا يعكس حقيقة المشاركة السياسية في الأنظمة المختلّة، ويتغافل عن طبيعة البنية السياسية العراقية. حيث لا تمتلك القوى المدنية أو الديمقراطية بدائل فعّالة (للتغيير) خارج العملية الانتخابية، وحيث تؤدي المقاطعة في كثير من الأحيان إلى تعزيز نفوذ القوى المسيطرة بدلاً من إضعافها.
وتؤكد الأدبيات السياسية ضرورة التمييز ما بين شرعية النظام السياسي وبين شرعية المشاركة السياسية.
شرعية النظام تمثل درجة القبول العام ببنيته وقواعده، بينما شرعية المشاركة تُعدّ جزءاً من المساهمة العملية في ممارسة الديمقراطية حتى في ظل أنظمة مختلّة. ووفقاً لهذا المنطق، فإنّ دخول الانتخابات لا يعني الموافقة على القانون الانتخابي أو البيئة المحيطة به، بل قد يشكّل أحياناً أداة نقدية من داخل المؤسسات، ووسيلة لطرح بدائل إصلاحية.
في التجربة العراقية، تتعامل قوى سياسية عديدة مع الانتخابات باعتبارها خياراً اضطرارياً يهدف إلى ضمان الحد الأدنى من الحضور السياسي، أكثر من كونها عملية تنافسية عادلة. فغياب البدائل الديمقراطية خارج النظام، وضعف المجتمع المدني، وتسيّد شبكات الزبائنية والمحاصصة، يجعل الامتناع عن المشاركة أشبه بالانسحاب من المجال السياسي بالكامل. ولهذا، فإنّ المشاركة هنا لا يمكن تفسيرها بوصفها قبولاً بالقانون الانتخابي أو بتشوهات البيئة الانتخابية، بل تعد تعبيراً عن محاولة تجنب الإقصاء ومواصلة الضغط من داخل المؤسسات الرسمية.
و تُظهر تجارب دولية عديدة، مثل بولندا وصربيا وأوكرانيا وتونس والمغرب وإندونيسيا وجنوب افريقيا وغيرها، أن المشاركة في انتخابات غير عادلة لا تعني قبول النظام القائم، بل يمكن أن تكون وسيلة لإحداث تغييرات حقيقية. فقد استطاعت القوى السياسية في هذه الدول، من خلال المشاركة، كشف الانتهاكات، ومساءلة الجهات المشرفة على الانتخابات، وتعديل القوانين والآليات لضمان مزيد من الشفافية. وينطبق هذا على العراق أيضاً، حيث تمنح المشاركة ، القوى السياسية موقعاً يمكنها من كشف أوجه الخلل في العملية الانتخابية، والمساهمة في تعديل القوانين، وممارسة رقابة على الانتخابات. وعلى الرغم من خصوصية الوضع العراقي، مثل سيطرة المحاصصة وتداخل النفوذ المسلّح مع السياسة، فإن المقاطعة الكاملة تترك المجال للقوى المهيمنة دون أي رادع، بينما المشاركة - حتى مع وجود عيوب - تتيح فرصة للضغط نحو إصلاحات تدريجية وزيادة الشفافية.
وعلى هذا المنوال ، فإنّ مشاركة القوى المدنية في الانتخابات العراقية تمنحها موقعاً مؤسسياً يسمح لها بتعرية أوجه الخلل، واقتراح تعديلات قانونية، ودفع العملية الانتخابية نحو مزيد من الشفافية.
إنّ الادعاء بأن المشاركة تسقط حقّ النقد يمثل منطقاً سلطوياً يهدف إلى إسكات المعارضة وتقوية بنية المحاصصة، إذ يحوّل المشاركة من ممارسة ديمقراطية إلى آلية لإضفاء الشرعية على الخلل القائم. أما في الأنظمة الديمقراطية، فيُعدّ النقد حقاً أصيلاً لا يتعارض مع المشاركة، بل يكتسب أهميته من داخل العملية السياسية نفسها. وبالتالي، فإنّ القوى التي شاركت في الانتخابات العراقية لا تفقد حقها في الاعتراض على القانون أو في كشف استخدام المال العام أو السلاح السياسي أو تزوير الإرادة الشعبية.
وهذا ما نبه اليه الحزب الشيوعي العراقي (وقد شارك في الانتخابات ضمن تحالف البديل ولم يحصل التحالف على اي مقعد) في بيانه بعد اعلان النتائج ، جاء فيه : [لقد كنا ندرك المقدمات التي سبقت هذا الاستحقاق، وما يكتنف العملية الانتخابية من اختلالات بنيوية، ومع ذلك خضنا المنافسة بهمة عالية وروح مسؤولة، إيماناً منا بضرورة الدفاع عن خيار الدولة المدنية الديمقراطية، وبحق الشعب في بديل وطني نزيه.]
خلاصة القول ، إنّ مشاركة القوى المدنية والديمقراطية في الانتخابات العراقية لا تمثل قبولاً ضمنياً بالقانون الانتخابي أو البيئة الانتخابية، بل تُعدّ خياراً سياسياً تفرضه طبيعة النظام الهجين وغياب البدائل الديمقراطية. كما أنّ المشاركة هي التي تمنح هذه القوى القدرة على تشخيص الخلل (ذاتيا وموضوعيا) والعمل على إصلاحه. وعلى هذا الأساس، يصبح وجود نقد من داخل العملية الانتخابية ضرورياً لتطوير النظام السياسي، وليس نقيضاً للمشاركة، كما تحاول بعض الخطابات تبسيطه أو توظيفه.
16 / 11 / 2025







