‏بعد إسدال الستار على جولة انتخابية جديدة، يجد العراق نفسه مرة أخرى على مفترق طرق حاسم، حيث تتشابك خيوط المشهد السياسي المعقد بين بصيص أمل في الاستقرار وهاجس العودة إلى دوامة الصراع المألوفة.
‏إن العنوان الأبرز الذي يهيمن على الساحة الآن ليس نتائج الصناديق فحسب، بل هو التساؤل العميق حول طبيعة الهدوء الذي خيم على المشهد ما بعد إعلان النتائج، هل هي تهدئة مؤقتة فرضتها ضرورات اللحظة السياسية وحسابات القوة، أم إنها حقاً بداية فصل جديد يضع أسساً لمقاربة مختلفة لإدارة الدولة والخلافات؟
‏إن تحليل ما يجري يتطلب نظرة متعمقة إلى ميكانيكا النظام السياسي العراقي؛ فالانتخابات في جوهرها لم تكن أبداً نهاية المطاف، بل كانت دائماً مجرد بداية لمرحلة جديدة من المفاوضات الشاقة وتوزيع النفوذ داخل "لعبة الكتل" المتجذرة.
‏ما نشهده الآن هو ليس غياب الصراع، بل هو تحول في طبيعته من المواجهة العلنية والصريحة إلى التنازع الهادئ والمضني خلف الأبواب المغلقة، القوى الفاعلة التي أظهرت قدرة هائلة على التكيف والبقاء، تدرك أن الاستنزاف المباشر بعد العملية الانتخابية قد يهدد مكاسب الجميع، لذا، يُفضل تكتيك "التطويق السياسي" على "الاشتباك المباشر"، وهو ما يمنح المشهد سمة الهدوء الزائف، هذا الهدوء لا يُترجم إلى ثقة شعبية أو إجماع وطني حقيقي، بل يظل مرتبطاً بموازين القوى الهشة والتفاهمات المبرمة بين النخب.
‏في الوقت ذاته، لا يمكن إغفال التراكمات التي قد تدفع باتجاه فصل جديد، هناك أصوات جديدة صعدت، وإن لم تغير المشهد جذرياً فإنها أدخلت عناصر ضغط جديدة على الفاعلين التقليديين؛ الشارع العراقي الذي أثبت في السنوات الأخيرة قدرته على التحرك والتأثير، يراقب بتمعن، إن مطالب الإصلاح الحقيقي، ومكافحة الفساد، وتحسين الخدمات، لم تختفِ بالانتهاء من التصويت، بل إنها تظل وقوداً محتملاً لأي تصعيد مستقبلي؛ ولذلك فإن استمرار الطبقة السياسية في الاعتماد على سياسات المحاصصة التقليدية، وتجاهل الإرادة الشعبية نحو بناء دولة مؤسسات لا دولة مكونات، سيجعل من التهدئة الحالية مجرد فترة لالتقاط الأنفاس قبل اشتعال موجة جديدة من الاحتجاجات أو التوترات الداخلية.
‏التحدي الأكبر يكمن في قدرة الأطراف الفائزة والخاسرة على تجاوز منطق الغلبة، والعمل على تشكيل حكومة قادرة على التفرغ للقضايا الوطنية الملحة بدلاً من الانغماس في توزيع المناصب، إذا تحول الهدوء إلى استثمار حقيقي في الحوار الوطني البناء الذي يشمل الجميع، ويُقِر بخارطة طريق واضحة للإصلاح الاقتصادي والسيادي، فحينها يمكن القول بأن العراق قد بدأ فعلاً فصلاً جديداً، أما إذا كان هذا الهدوء مجرد فترة لإعادة ترتيب صفوف الأجنحة المتصارعة استعداداً لجولة مقبلة من الكسر والهزيمة، فإن المشهد سيعود حتماً إلى الصراع، ولكن هذه المرة قد يكون أكثر حدة وبعواقب أعمق على مستقبل الدولة العراقية ووحدتها، إن الساعات والأيام القادمة ستحمل الإجابة، وستكشف ما إذا كانت المصالح العليا للبلاد ستنتصر على المصالح الحزبية الضيقة.