احتفاءً بالأميركي «مستر جارلس كراين»، بمناسبة زيارته بغداد عام 1929 ، القى الشاعر الشيخ  محمد باقر الشبيبي ( شغل عدّة مناصب دينيّة وسياسيّة) قصيدة كانت إحدى أبياتها تقول:" المستشار هو الذي شرب الطِلا...  فعلامَ يا هذا الوزير تُعربدُ؟". وهذا البيت الشعري وصف حالة الدولة العراقية وقتها، مشيرا فيها الى كذبة الإستقلال في تشرين أوّل 1932 بإنظمام البلاد الى عصبة الأمم. والبيت كان دقيقا في وصفه الإستقلال من أنّه شكلي، لأنّ المستشارون البريطانيون ظلّوا يديرون الوزارات والبلاط الملكي حتى صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 ، علاوة على بقاء بريطانيا تدير العراق سياسيا وأقتصاديا مع تواجد عسكري على الأرض كمعسكر الحبانيّة وغيرها. 

واليوم، وبعد نحو قرن يعاد إنتاج نفس الكذبة، ولكن هذه المرة ليس بأيدي المستعمر، بل بأيدي من يفترض أنهم أبناء البلد.  حين تُفصّل الرموز  والأعياد الوطنية على  مقاسات المرجعيات والأحزاب والميليشيات، ولا تعبّر عن إرادة الشعب وتطلعاته.

حين استبدلت حكومة المحاصصة ذات الأغلبية الشيعية العيد الوطني العراقي من 14 تموز (1958) يوم الثورة التي أسقطت النظام الملكي، إلى 3 تشرين الأول (1932) يوم الانضمام الشكلي إلى عصبة الأمم، فأنّها لم تكن تريد تصحيح التاريخ، بل كانت فعلًا سياسيًا ذا دلالة واضحة وهي: تغييب يوم الثورة من تاريخ البلاد والعقل الجمعي للجماهير لصالح الدولة الملكية المرتبطة بالانتداب البريطاني وعضويته في عصبة الأمم، بإعتباره عيدا وطنيا!!

إن إنتخابها تاريخ تأسست فيه دولة تحت وصاية، على تاريخ ثورة شعبية أنهت تلك الوصاية، يكشف عن حقد دفين تكنّه القوى الحاكمة والشيعية على رأسها اليوم لثورة تموز، لا سيما أنها وضعت اللبنات الأولى لمشروع دولة مدنية عادلة، قبل أن يتمّ إغتيالها من قبل البعث وبقايا الإقطاع والمؤسسة الدينية وقتها.

لم يكن الضبّاط الأحرار ومنهم عبد الكريم قاسم مجرد ضباط نفّذوا انقلابًا، بل كانوا أصحاب مشروع تحرري تقدمي، اصطدم مباشرة بالمصالح العميقة للمؤسسة الدينية والعشائرية، حين أطلقوا سلسلة قوانين هزّت بنية السلطة التقليدية في العراق كـ : قانون الأحوال الشخصية (رقم 188 لسنة 1959) الذي نظّم الزواج والطلاق والميراث على أسس مدنية، واعتبرته المرجعية الدينية وقتها  تجاوزًا على "الشرع"، ومذّاك بدأت المعركة لإسقاطه واستبداله، والتي انتهت لاحقًا بفرض "القانون الجعفري" والمدونة الجعفرية. وقانون الإصلاح الزراعي: الذي وزّع الأراضي على الفلاحين، منهياً سلطة الإقطاع وحلفائه من شيوخ العشائر. وإلغاء قانون دعاوى العشائر: الذي حدّ من سلطة العشيرة في إدارة النزاعات فيما بينها، وأعاد للدولة هيبتها.

هذه القوانين لم تُغفر للثورة، فبعد 2003، جاء "الرد" متأخرًا لكنه واضح من خلال ما نراه اليوم. فقد عادت العشائر إلى الواجهة، وعادت المرجعية لتصوغ القوانين، وعادت الدگة العشائرية من ضمن أعراف عشائرية أخر كالفصول التي وصلت بعضها الى مليارات الدنانير،  وتُنشر هذه الفصول  صوتا وصورة في وسائل التواصل الأجتماعي كعرف مقبول ( هذا يعني ضعف الدولة أو تواطئها مع العشائر والمؤسسة الدينية)، كما صار رأس الدولة نفسه يدافع عنها علنًا من خلال عشيرته، بينما تُقتحم منازل السياسيين والناشطين مثل غالب الشاه بندر، بحجة "تهديد الأمن"، وهي دلالة على غرق العراق في مستنقع العشائرية.

نعتقد أنّ الأمر لا يبدوا مستغرَبًا أن تُطرَح مستقبلاً، إقتراحات من قبل الإسلاميين ورعاتهم في أن يقترحوا بأن يكون يوم ميلاد أحد الأئمة الأثني عشر (ع)، عيدا وطنيّا للعراق.. وبدلاً من عيد وطني يوحد العراقيين حول قيم الاستقلال الحقيقي والعدالة الاجتماعية، يُكرّس عيد وطني رسمي يخدم فئة دينية وحزبية واحدة.

ما قاله الشبيبي عام 1929 لا يزال صالحًا اليوم:" المستشار هو الذي شرب الطِلا...  فعلامَ يا هذا الوزير تُعربدُ.  فالوزير العراقي (آنذاك والآن)  لا يملك سلطة إتخاذ القرار، بل يتلقى أوامره من خارج الحدود، أو من داخل الحوزات والمكاتب السياسية والولائية. فالسيادة كما الأمس مجرد شعار، والاستقلال مجرد وثيقة. أما تموز، الذي مثّل أول محاولة حقيقية لبناء دولة مواطنة، فقد حُذِف من الذاكرة الرسمية مع محاولات لحذفه من الذاكرة الشعبية خصوصا في ظلِّ مدِّ ديني وهيمنة عشائرية وغياب وعي،  أو العمل على تغييب الوعي عند الجماهير، من خلال شبكات إعلاميّة واسعة وكبيرة، لأنه أي تموزسعى لبناء دولة لكل العراقيين، لا لدولة طوائف وقوميّات.

 لو فرضنا إنّ تموز لم يكن مثاليا، لكنه كان عراقيًا. أما تشرين، فكان شهادة زور على استقلال وهمي. والفرق بينهما هو الفرق بين من يكتب التاريخ بالدم، ومن يكتبه بالحبر الأجنبي.

 بلادك أصبحـت وطناً مريباً   ***   وأكثر ما يريب بــها يلوحُ

ظلام في سياستنا مخــــيف   ***   وظلم فــــــي إدارتــنا قبيح

أبيات من قصيدة للشاعر الشيخ محمد باقر الشبيبي.

عرض مقالات: