26/1/2020

 " لو كنت ترغب أن يكون الحاضر مختلفا عن الماضي، ادرس الماضي" 

                                                            سبينوزا

 عندما ننظر الى الوراء، نظرة تأمل، وهي من أولويّات المعرفة، ومن المهام الرئيسية التي ينبغي على كل مثقف ان يوليها الاهتمام الأكبر، وأن يكون على دراية واطلاع دقيق على التأريخ برؤية واضحة لا ضبابيّة فيها، ولا يشوبها غبار، ولا حساسية تعتريها وبتجرد تام. فالتأريخ مهم لكل إنسان طالب علم يريد ان يعرف ماضي امته وتأريخها، أمّا بالنسبة للمثقف فأهمية التأريخ له، بكل أبعاده وعمقه المادي والمعنوي، أكبر وأهم من غيره من الآخرين. فأهمية التأريخ كأهمية الماء والغذاء بالنسبة للإنسان والكائنات الحية بشكل عام.  ومثلما حاجة الأنسان للماء النقي  والغذاء  الصحي والغير فاسد، وغير الملوث،  ليُشْبِعَ بطنه، وليطفأ ظمأه ويروي غليله، وليغذي به كيانه العضوي ويعيش سالما معافى، كذلك حاجة المثقف وطالب العلم للتأريخ  ليغذي به  عقله وروحه بالمعرفة ،  والحقائق البيّنة والنيّرة الساطعة،  وليس التأريخ السطحي، أو التأريخ الذي يشوبه التحريف والدجل والأكاذيب، وكحدٍّ  أدنى لنا من المعرفة  كمثقفين، ما نحتاجه  هو معرفة تأريخنا المعاصر الذي يرتبط  بحاضرنا وما تجري فيه من مستجدات على الساحة العراقية، ذات العلاقة والصلة المباشرة  بالتآمر الدولي المحموم  والطامع  بخيراتنا  وحياتنا وعيشنا  وكل ما يتعلق  بكرامتنا  ومستقبلنا، وفي الوقت ذاته  يجب معرفة أسباب هذا التآمر الدولي على العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأمتنا بشكل عام، الذي هو مرتبط بالقضية الفلسطينية، ولا ينفصل عنها، وما تسعى اليه  قوى الشر العالمي، المتمثلة بأمريكا وحلفائها، من أجل بقاء ودعم الكيان الصهيوني الغاصب.

 فالتأريخ  هو الإرث الحضاري الغني بالدروس والعِبَر للحاضر  والمستقبل، والاطلاع على  التأريخ  لمعرفة الوقائع التي حصلت آنذاك، إيجابيّاتها وسلبيّاتها  لكي يُستفاد منها، وحتى لا تتكرر الهفوات والأخطاء التي مرّ  بها من سبقونا، وان لا نقع في مصايد المتصيدين في الماء العكر من الأعداء،  والضياع في متاهات ملتوية، ومفاهيم خاطئة ومزيفة،  وان لا تنطلي علينا  محاولات  الأقلام المأجورة التي كانت تكتب التأريخ على مقاسات أسيادها وأولياء  نعمتها، انطلاقا من عبوديتها  للدرهم والدينار والدولار، أخذت تلك الأقلام المأجورة  بالإكثار من خربشات حروفها  وخُزَعْبلاتها، كي تُبعِد الحقيقة عما يجري  في قصور السلاطين من فساد وموبقات وبالوعات الدم النتنة ، ظنّاً منها أنّ هذه الخربشات ستكون تأريخاً  يخدع الأجيال القادمة ، وتحجب الحقيقة عنه .  فكل واع  منّا يعرف جيداً التأريخ المعاصر بعد انتهاء الدولة العثمانية والاحتلال الغاشم  للعراق  من قِبَل الجيوش  البريطانية  الغازية ،  وكيف  نشأت  حينذاك الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار، والنضال من أجل التحرر الوطني  من الهيمنة الاستعمارية والتبعية ، وكما هو معلوم أن المستعمرين دائما لا يكتفون بجيوشهم الغازية ، بل يجدون من البلدان التي يستعمرونها أو تلك التي يريدون  استعمارها، ثلة من شذاذ الآفاق والضمائر الميتة، ومن أشباه الرجال وأنصاف المثقفين، ويرسموا لهم خططا  وتشكيلات وتنظيمات على شكل عصابات أو أحزاب  والى غير ذلك من التسميات ، ليعطوها الطابع الشرعي ، ويمولوها بالمال الحرام، ودسّهم في المجتمع ، ليكونوا الجبهة المضادة لحركة التحرر الوطني ، والوطنيين الذين لا يرضون أن يكونوا عبيدا لقوى الشر والعدوان .

وهذا ما سجله التأريخ المعاصر عن الدور القذر الذي لعبته عصابات البعث في الخمسينيات وكيف كانت تخلق البلبلة والاضطرابات في الشارع العراقي قبل ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة 1958، وبعد انتصارها، ومن ثم التآمر عليها وإجهاضها، بأكبر جريمة شهدها تأريخ العراق المعاصر حين جيء بهم بقطار انجلو- أمريكي، وباعتراف قائد من قياداتهم (علي صالح السعدي)، في الثامن من شباط الأسود 1963، وتصفية رموزها الأبطال وعلى رأسهم الشهيد البطل عبد الكريم قاسم ورفاقه الأبطال.

وبعد أن نبذهم الشارع العراقي عندما تلطخت أياديهم بدماء الشرفاء وبوضح النهار، أطاح بهم رفيق جريمتهم النكراء عبد السلام محمد عارف، ليس بدافع الاستنكار ورفض ما فعلوه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، وإنّما خوفاً منهم على عرشه المنتصب على الجريمة والغدر والخيانة.

وكما هو معروف سلوك العصابات في كل زمان ومكان في القتل وارتكاب الجرائم بحق الآخرين، وكذلك في ما بينهم من غدر وتصفيات.

فتلك العصابة التي صنعتها الأجهزة الخفية في دوائر قوى الشر، وأعطتها أسم حزب البعث، عادت الى الحكم مرة ثانية باغتيال رفيق تآمرهم على ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة، عبد السلام عارف بقتله في الجو بتفجير مروحيته في 13نيسان 1966، ومن ثم قيامهم بعزل أخيه عبد الرحمن عارف ونفيه الى الخارج في السابع عشر من تموز 1968 المشؤوم.

وبدأت جرائمهم بفصل مسرحي جديد وسيناريو آخر، لا يختلف عن نهجهم الإجرامي الدموي السابق المتأصل في نفوسهم اللئيمة إلاّ بالمظهر، وبأساليب خادعة وماكرة. والكل يعرف كيف كانت بدايتهم باغتيالات غامضة، لكنها معروفة للوطنيين الواعين وللشرفاء والشيوعيين والأحزاب الأخرى وكذلك رجال الدين، وفي ذات الوقت جرت تصفية الحسابات فيما بين بعضهم البعض من البعثيين، والعصابة المتسلطة الحاكمة نفسها، حتى انفجر هذا الصراع وظهر للعلن حين قام أحد أكبر مجرميهم المقبور ناظم كزار بمخطط لاستلام السلطة، بتصفية أحمد حسن البكر وصدام حسين. وهكذا استمر القتل والأجرام في اغتيال كل عراقي شريف، وكذلك تصفية عناصرهم (العصابة - البعثية) بقيادة صدام، حتى وصل الى رئاسة الدولة وعزل البكر ومن ثم تسميمه والتخلص منه نهائيّاً.

وعندما قفز صدام على قمة العصابة، واستفرد بها، والتحكم بزمام الأمور كاملة بدأ الفصل المسرحي الدموي المسمى (مجزرة قاعة الخلد) بإعدام أقرب رفاقه 1979، والكل يعرف كيف نصب صدام فخّا لرفاق دربه، باجتماع الدم والموت الذي ما كان يخطر على بال أحد منهم، وما سيلاقوا حتفهم المخبّأ لهم في تلك المسرحية الدموية الغادرة.

ولم يكتف ذلك المجرم الأرعن بتصفية كل رفاقه وهيمنته على قمة العصابة المسماة حزبا، والاستحواذ على السلطة في العراق بكل مرافقها، كل ذلك لم يشبع نهمه وشراهته المريضة، بل دفعته نفسه اللئيمة وعدوانيته ، بتوسيع رقعة شره وجرائمه، فبدأ بشنه الحرب على الثورة الفتية  في إيران التي اعلنت وقوفها الى جانب القضية الفلسطينية  في أيلول  1980 وانتهت في آب 1988، وما خلّفت تلك الحرب من دمار شامل على كل المستويات، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية ، وإبادة  نحو مليون ضحية  من شباب العراق في محرقة حربه المجنونة، وخسارة  400 مليار دولار حينها، ولمدة ثماني سنوات من الخراب والدمار، بعدها استسلم ، واعترف بتنفيذه مؤامرة دفعته اليها قوى خارجية، و بعد كل ذلك الخراب والدمار، تنازل الى إيران من حيث بدأ عدوانه عليها، وتلك القوى الإقليمية والدولية التي اشار اليها صدام، هي نفسها التي تتآمر اليوم على العراق ارضا وشعبا وسيادة .

وكما بيّنت ان المستعمرين والطامعين لا تغمض لهم عين ولا يغفو لهم جفن. فهم دائما وأبدا يصنعون أدوات لهم بمختلف الوجوه والتسميات، ووضع سيناريوهات لهم وخلق مناخات لإعطائهم تبريرات مقنعة خادعة لقيامهم بتنفيذ جرائمهم وتآمرهم على أوطانهم وشعوبهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، مقابل اموال السحت، اضافة الى التغطية الإعلامية المكثفة. وهؤلاء الذين ينفذون المؤامرات ويرتكبون الجرائم تلو الجرائم على مدى تأريخ العراق المعاصر الذين عرفهم القاصي والداني هم عصابة ما يسمى بحزب البعث الصدامي وأيتامه المنبوذين، وهم المطايا الرخيصة الإيجار للقوى المعادية للشعوب وللأحرار.

فبعد أن أندحر سيدهم الجرذ  بتلك  الأيادي التي أتت بهم  وبعصابة البعث بشكل عام وبالجرذ المقبور بشكل خاص، فها هم اليوم مرة أخرى أداة قتل وذبح وخراب ودمار وكل ما يجري على الساحة العراقية وخارجها هم وراء كل ما يجري من قتل وسفك دم ، وفي كل يوم بمسرحية دموية ولباس وأقنعة ، وكما بالأمس البستهم قوى التآمر والعدوان الخارجي اللباس الأسود واللحى الوسخة الطويلة، واعطتهم الراية السوداء كوجوههم، وشحنتهم بالطائفية البغيضة، فتصدى ابناء العراق الغيارى لهم ولكل البهائم الضالة ومن خلفها، بجهود خيرة وإرادة فولاذية، وبتكاتف كل الخيرين بحشد شعبي بطل يشبه الأساطير بملاحمه البطولية، تلبية لفتوى المرجعية الرشيدة، والشخصية المقدسة ، الأمام السيستاني حفظه الله ورعاه ، فأفشلت المؤامرة الكبرى على العراق والعراقيين ، وبهذا اندحرت قوى الشر البهيمية المسماة داعش .

ولكن يا ترى هل انتهت مؤامرات قوى الشر والعدوان على العراق بعد فشلهم باستخدام أيتام الجرذ المقبور التي البستهم غطاء مذهبياً وشحنتهم بالحقد الطائفي المسموم؟

كلا..

العدو الخارجي الطامع بخيرات الشعوب ، والخبير بممارسات الغدر والتآمر والعدوان والخديعة بكل الأساليب الحديثة والمتطورة ، لا يتوقف عن التآمر بتحريك المجرمين والقتلة واللصوص وكل شذاذ الآفاق المنبوذة والضالة مهما كلف الأمر، فهم يستخدمون كل الأساليب القذرة الى جانب غسيل الأدمغة بأساليب متطورة، فيقع فيها بعض المغفلين الذين يبحثون عن خلاص من معاناتهم والمطالبة بحقوقهم المشروعة  من السلطة الحاكمة بالفساد، وعدم الشعور بالمسؤولية اتجاه الشعب  من الذين انتخبوهم واعطوهم الثقة في تلبية حاجات المواطن، وبناء الوطن  والتقدم بالبلاد للأمام، وللأسف خيبوا آمال المواطنين  الذين نفذ صبرهم،  فخرجوا للشارع مطالبين بحقوقهم المشروعة ، وهنا يعرف أعداء الوطن في الداخل والخارج  الذين ينتهزون الفرص لتنفيذ مؤامراتهم وبث سمومهم بين الشباب المنتفض من اجل حقوقه المشروعة، فيقع في مصيدة المجرمين القتلة من أذناب البعث، وبتوجيه اسيادهم المتربصين بالشر للعراق شعبا وأرضا، بحلفهم ( الصهيو- خليجي – أمريكي ) وبشن حملات اعلام الخنازير الإلكترونية لتحرف انتفاضة الشباب السلمية الى حرب وقتال الأخوة وسفك الدماء، وبهذا يكون الشعب والوطن والشباب، الجميع ضحية، والرابح من كل هذا أعداء العراق المتآمرين، الذين لا يريدون للعراق خيرا .

وهذا الذي نراه كل يوم من قتل وخراب ودمار، بشحن الشباب بالحقد والضغينة ودفعهم للجريمة والقتل، بواسطة الخنازير الإلكترونية الصهيو- خليجية- أمريكية، ومَنْ وراءها، مِنْ عصابات البعث الإجرامية التي يدفعهم الحقد والضغينة والحلم بالعودة الى قصور ملذاتهم واشباع نفوسهم الظمأى للدم من شدة لهاثهم وفرارهم من قبضة المظلومين وذوي الشهداء والضحايا من ابناء الشعب العراقي.

**************

وهنا اريد ان أضيف الى ما كتبته في هذا المقال سابقا ، أي قبل خمس سنوات،  على الشريحة المثقفة  والأقلام الخيرة ان تبدل قصارى جهدها في التصدي  مواجهة  الأقلام المسمومة التي تروج ( للزمن الجميل ) الذي تعني به زمن الطاغية والدم والموت السجون والزنزانات والدهاليز المظلمة، وجر الشباب الذين لم يولدوا بعد في تلك الحقبة الدموية المظلمة،  التي  لم يعرفوا طعم المر والمأساة التي  عاشها العراقيون، وهؤلاء  الذين يرسمون تلك الحقبة المظلمة  بألوان  زاهية، ويعرضونها لوحة  زاهية  تحت عنوان ( الزمن الجميل ) هو الغاية من ذلك  غسل أدمغة الشباب اليافعين  بالكذب والتضليل للوصول الى غاياتهم الدنيئة، ولتحقيق مآربهم .

فنحن لا نفصل سلبيات الحاضر عن مأسي الماضي المر والأليم، ولا ينبغي ترك الساحة للفلول من أزلام البعث يصولون ويجولون من دون التصدي الواعي لهم، وذلك بكشف صورة الماضي الحقيقة وما جرى فيها من مأساة لا مثيل لها في تأريخنا المعاصر، ولم يحصل مثل ذلك في أية بقعة من العالم، فهذه مسؤولية كل مثقف وانسان شريف، حتى تتضح الصورة للشباب المغفلين الذين يراد خداعهم واستخدامهم كأداة للرجوع بالعراق الى زمن الزنازين المظلمة وبالوعات الدم المرعبة.

عرض مقالات: