تقديم
هناك جوانب مختلفة في ظاهرة الفساد المالي والإداري في العراق تستحق البحث المستمر عنها للكشف عن معضلات ظاهرة وأخرى خفية تنتظم هذه الظاهرة، والتي تؤثر على التنمية وتطور الاقتصاد العراقي والنسيج الاجتماعي ومكانة العراق عربياً وعالمياً، واجتراح الحلول المناسبة للتغلب على هذه الآفة. وهنا أود ان ابين، بان الفساد المالي والاداري في العراق لم يعد كظاهرة، بل أصبح نظام وآفة مجتمعية تنخر في هياكل الدولة، وجميع مفاصلها، ومستوياتها الادارية، والحزبية. وان محاربة الفساد يعتبر واجبا وطنيا يتوجب على الجميع المساهمة في التصدي له ومحاربته والقضاء عليه، وذلك لان استمراره وعدم القضاء عليه ينعكس سلبا على: الانتعاش الاقتصادي والتنمية الوطنية، ونهب وتهريب الثروة الوطنية، ويعرقل مسيرة التقدم والازدهار. ان اصلاح وتطوير النظام المحاسبي والمراجعة وتطبيق معايير المحاسبة الدولية (دليل معايير القطاع العام)، يمكن ان تكون احدى العوامل التي تساعد على الحد او القضاء على مشكلة الفساد في العراق. نحاول في هذه الورقة تسليط الضوء على الموضوع، وفق المحاور الأتية:
أولا: أداء النظام المحاسبي الحكومي
إن النظام المحاسبي الحكومي العراقي يفصح فقط كيفية التصرف بالأموال، (موارد – نفقات)، ويركّز على رقابة الأموال بما لا يبرز مدى التقدم الذي أحرزته الدولة في برامجها التنموية، والذي يفصح مدى انتشار الفساد المالي والإداري في أجهزتها المختلفة. ويتصف ايضاً: بالمركزية في إعداد الحسابات الناجمة عن المصروفات والإيرادات والميزانية العامة، وتأخير تسجيلات القيود المحاسبية، وإعداد التقارير المالية النهائية الموحدة للدوائر المرتبطة بالميزانية العامة. وهو ما يزال بعيداً عن النظام المحاسبي الحكومي الحديث من حيث المبادئ والقواعد والأسس والاستخدام الصحيح لها في التطبيق العملي، ولا يتلاءم مع الهيكلية المالية والتغيرات البنيوية الحالية للاقتصاد الوطني.
وكما هو معروف فإن وظيفة المحاسبة لا تقتصر فقط على التدقيق، وإنما تشمل أيضا ً تقييم الأداء وإنتاج معلومات شفافة وصادقة وصحيحة في التقارير المالية (حساب النتيجة، أي الأرباح والخسائر، وكشف المركز المالي، أي الميزانية العمومية) والإفصاح عنها، وخاصة للشركات الإنتاجية العامة. وقد أكدتْ على ذلك معايير المحاسبة الحكومية الدولية، التي تستوجب الشفافية والإفصاح عن مؤشرات الأداء للدولة والمتمثلة في كيفية استخدام الموارد المحدودة مقابل نتائجها، حيث يتعين التركيز على جودة الأداء في الاجراءات، وبالتالي جودة المخرجات مع مراعات التكلفة.
ثانياً: أسس تطبيق النظام المحاسبي الحكومي
كما هو معروف أن المحاسبة الحكومية تطبق مبدأ الأساس النقدي، الذي يعتبر الموجودات الثابتة مستهلكاً دفعة واحدة عند شرائها، باعتبار ذلك نفقات جارية وليست نفقات رأسمالية وتظهر كمصروف نهائي، بدلاً من معاملتها كأصول، ومن ثم إخضاعها لطريقة الإطفاء خلال فترة زمنية معينة تحدد بمدة العمر الانتاجي للأصل.
وكذلك اعتماد الأساس النقدي في تسجيل المصروفات والإيرادات المتحققة، بدلاً من احتساب وإجراء التسويات اللازمة لها، وتطبيق أسلوب المستحقات والمدفوعات المقدمة لهذه المصروفات والإيرادات وفق الفترة الزمنية التي تخصها، وهذا ما يوثر على الحسابات السنوية وإعداد البيانات المالية والإفصاح عنها وإظهارها بشكل غير حقيقي وصحيح، ومن ثم تأثير ذلك على نتائج وظائف الرقابة وتقيم الأداء، وإنتاج البيانات والمعلومات التحليلية اللازمة والضرورية لعملية اتخاذ قرارات سليمة، وخاصة في الشركات الانتاجية العامة.
ثالثاً: ما هو دور مهنة المحاسبة والمراجعة وأثرها في الحد من الفساد المالي والإداري، من حيث وظائف الرقابة وتقييم الأداء وإنتاج البيانات والمعلومات المحاسبية؟
يجب على المديرين والمحاسبين والمراجعين أن يتقيدوا بالسلوك الاخلاقي للمهنة وبمعايير قياسية ثابتة في المعالجات المحاسبية، وعدم فسح المجال للاجتهادات غير المبررة وخيارات البدائل التي تستخدم لأغراض الغش والتلاعب وتشويه صورة الحسابات وتضليلها، ومن ثم التأثير على إظهار النتائج بشكل غير واقعي وشفاف، وذلك لتحقيق أغراض معينة منها الفساد المالي والإداري.
إن الاعتماد على كفاءة المراجعين واختيارهم من خلال مكاتب التدقيق وهيئة الرقابة المالية، ذات الكفاءة والسلوك المهني والمصداقية العالية في اكتشاف ممارسات المخالفات المحاسبية التي قد تحدث، له تأثير كبير على مكافحة الفساد المالي والإداري. وبذلك يتم التكامل في هذه المهمة بين أصحاب العلاقة. ويمكن الاستفادة بهذا الخصوص من دليل قواعد السلوك الاخلاقي للمحاسبين المهنيين، والمعايير الدولية لرقابة الجودة والتدقيق والمراجعة وعمليات التأكيد الأخرى والخدمات ذات العلاقة، الجزء الأول والثاني، إصدارات الاتحاد الدولي للمحاسبين، طبعة 2010، باللغة العربية.
رابعاً: ما هو دور البرامج الالكترونية في الحد من الفساد المالي؟
إن إدخال البرنامج الالكتروني يساعد على بناء نظم المعلومات المحاسبي والتكاليف، التي تساعد على:
إنجاز العمليات والبيانات المحاسبية بالدقة وبسرعة، ورفع إنتاجية العمل، وبناء القدرات البشرية، وتكامل الوظائف والمعلومات في الشركات والوحدات الإدارية، وعلى جمع المعلومات وخزنها وفق قاعدة بيانات مركزية متكاملة والاستفادة منها عند الحاجة. ومعالجة البيانات وتحويلها الى معلومات مفيدة لعملية اتخاذ قرارات، تمكّن الإدارة من التخطيط والإنجاز والرقابة الفعالة على أنشطتها، والإفصاح عن المعلومات والبيانات بشكل دوري وشفاف وصادق للجهات المختصة داخلياً وخارجياً. وتساعد أيضاً على بناء نظام الرقابة الداخلية المعاصر. كل هذه الأمور تؤكد على دور نظام المعلومات المحاسبي الإلكتروني في الحد من ظاهرة الفساد المالي، حيث إن النظام الحالي يضم الكثير من الثغرات التي تسمح للفساد المالي بالتغلغل في عناصره (المدخلات، والمعالجة والمخرجات).
خامساً: إن تعدد الطرق والمبادئ وأساليب المعالجة البديلة، هي المسؤولة عن إيجاد البيئة الملائمة للغش والفساد.
إن تعدد الأنظمة المحاسبية مع ضعف فاعليتها وكفاءتها في المؤسسات والشركات العراقية للقطاعين العام والخاص، وكذلك ضعف الأجهزة الإدارية لا يساعدان على بناء أنظمة المعلومات المحاسبية والإدارية لإنتاج البيانات الموحدة، والتي هي ضرورية على مستويات الاقتصاد الكلي والجزئي، وتساعد على برمجة التخطيط المركزي للميزانية العامة، واتخاذ القرارات على مستوى الوحدات، مما يعزز من وظيفة المحاسبة في عملية الرقابة، والتقييم، وإنتاج البيانات، والمعلومات. وبرأينا فإن توحيد الأنظمة المحاسبية مهمة ضرورية، ويتطلب ذلك إصلاح النظام المحاسبي وتوحيده وتحديد معايير تتكيف مع معايير المحاسبة الدولية ومع البيئة الاقتصادية الجديدة.
سادساً: مسؤولية مهنة المحاسبة والمراجعة عن الحفاظ على الأموال العامة، وكيف يظهر الفساد المالي والإداري، وما هي أساليب المعالجة؟
أساليب الفساد المالي والاداري كثيرة. بقدر تعلق الأمر بالفساد المالي والاداري الناتجة عن المحاسبة، فإنه قد ينشأ من:
- ممارسة المخالفات المحاسبية؛
- انتهاك القوانين والتشريعات والتعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية الداخلية والخارجية؛
- ضعف ومرونة النظم القانونية والتشريعية؛
- سوء تأدية الواجبات الوظيفية المهنية والاخلاقية للمحاسبين والمدققين، وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه المصلحة العامة؛
- عدم الإفصاح عن السياسات والطرق والبيانات المحاسبية بشكل سليم وشفاف وصادق؛
- وعدم وجود تاريخ محدد قانوناً لتقديم الحسابات الختامية مع الموازنات السنوية الى مجلس النواب لإقرارهما، والتي تبدأ من 1/كانون الثاني، وتنتهي في 31/كانون الاول من السنة نفسها، في الوقت الذي ان القانون يلزم مجلس الوزراء بتقديم هذه الحسابات بشكل ممنهج كل السنة.
خاتمة: طرق معالجة الفساد المالي والإداري، عن طريق:
الالتزام بمفاهيم وأخلاقيات مهنة المحاسبة والمراجعة؛
- وجود نظام فعّال للمراجعة الداخلية والخارجية، ونظام حوافز مدروس للعاملين؛
- استخدام إجراءات وقائية لمنع حدوث المخالفات المحاسبية؛
- تفعيل دور أجهزة الرقابة والنزاهة؛
- نشر أخلاقيات الوظيفة بين العاملين على كافة المستويات الإدارية؛
- تفعيل آليات الحوكمة للشركات؛
- استخدام آليات التكنلوجيا المعلوماتية في إنتاج المعلومات والبيانات المالية والإفصاح عنها بشفافية ومصداقية عاليتين؛
- مكافحة غسيل الأموال؛
- وتطوير معايير المحاسبة والمراجعة مستفيداً من المعايير المحاسبية الدولية كمرجع مهم لإصلاح وتطوير النظام المحاسبي في العراق.
- إنهاء الديون على الدولة، مما يساعد على تعزيز التصنيف الائتماني السيادي للبلد والثقة العالمية في حوكمته المالية.
مع جزيل شكري لزميلنا الأستاذ مصباح كمال، على اطلاعه المقال وتحريره للنشر على موقع الشبكة
الموقر.
المراجع:
- إصدارات المعايير الدولية لرقابة والجودة والتدقيق والمراجعة وعمليات التأكيد الأخرى والخدمات ذات العلاقة، طبعة عام 2010 الجزء الأول والثاني، الإتحاد الدولي للمحاسبين.
- دليل قواعد السلوك الأخلاقي للمحاسبيين المهنيين، طبعة عام 2010، الإتحاد الدولي للمحاسبين.
- دليل معايير المحاسبة الدولية في القطاع العام، المجمع الدولي العربي للمحاسبين القانونيين
- قدوري، صباح: أهمية تبني معايير المحاسبة الدولية في الاقتصاد العراقي، بحث مقدم الى المؤتمر العلمي الثاني عشر (التنمية المستدامة من اجل اقتصاد عراقي متطور)، المنعقد بتاريخ 16 ـ 17 /5 / 2012 والمنشور في مجلة الإدارة والاقتصاد، العدد 93 لسنة 2012، المجلد الثاني، الصادرة عن كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة المستنصرية.
* المقال منشور على شبكة الاقتصاديين العراقيين، بتاريخ 03/08/2025