في سلسلة "مقدمة قصيرة جدا" صدر كتاب بعنوان "إنجلز" لمؤلفه "تيريل كارفر"، أستاذ النظرية السياسية في جامعتيْ "بريستول" و"ليفربول". وقد عرض المؤلف في مقدمة الكتاب أنه حاول تقديم دراسة دقيقة وموجزة عن أفكار إنجلز. تضمن الكتاب مقدمة وسبعة فصول عرضت بشكل شيّق و موجز مختلف جوانب شخصية إنجلز، وأحد الفصول تناول جانبا غير معروف كثيرا عن شخصيته، بعنوان "إنجلز الصحفي".
أشار "كارفر" إلى أن إنجلز نشر، وهو في سن السابعة عشرة بعض الأعمال الشعرية. وفي سن الثامنة عشرة كان صحفيا تتسم مقالاته بالنقد اللاذع. وعكست كتاباته قضايا المجتمع وموقفه منها، وكان عمله "رسائل من فوبرتال" الذي نشره عام 1839 هجوما مثيرا على النفاق في بلدتي (البرفيلد) و (بارمن) الممدتين بمحاذاة وادي نهر "فوبر"، وتلك هي منطقة "راينلاند" التي ولد فيها إنجلز 1820. وقدّم تلوث نهر فوبر بفعل المصانع وكذلك معاقرة السكان المفرطة للشراب صورة من التردّي البصري والثقافي للمجتمع وسكانه، وتمثل هذا التردّي في إن إحدى الكنائس الكاثوليكية أصبحت ناديا للقمار بعد بيعها. ونظرا لكون "رسائل من فوبرتال" هجوما على النفاق السائد في المنطقة وعلى ظلاميتها وزيفها؛ فقد كانت تلك الرسائل نابضة بالواقعية الواضحة على نحو استثنائي.
وقد اضطر إنجلز لإخفاء اسمه الصريح في مقالاته، فقد كانت عائلته ثرية تملك المصانع؛ ولهذا استخدم اسما مستعارا. وكانت كتاباته تعكس الواقع بأمانة، وكان كل ما يكتبه مبنيا على بيانات مثبتة شهدها بعينه أو سمعها بأذنه، فقد استخدم إنجلز عينيه وأذنيه استخداما ناجحا وفعّالا إلى أبعد الحدود، وكان تصويره للظروف المادية والاجتماعية لذلك المجتمع الصناعي الصغيرتصويرا دقيقا وحادّا للغاية.
وكان لأصحاب المصانع الأثرياء - بحسب وصف إنجلز- ضمير خرب. وكان من بين ملّاك المصانع فئة المسيحيين المتشددين الذين كانوا يقتطعون جزءاً من أجور العمّال كي يمنعوهم من معاقرة الخمر، لكنهم هم أنفسهم يقدمون الرشاوي في انتخابات اختيار الوعّاظ. ورأى إنجلز أن الوعّاظ المحليين أناس جهلاء، وأدان أنشطتهم التي اكتنفت كل جانب من جوانب الحياة وأفسدته. وعلى مدار السنوات ما بين 1839-1842 أثبت إنجلز نفسه ناقدا سياسيا وأديبا بما يقرب من خمسين مقالة وكتيّبا. ومن بين تلك الأعمال عمل يصف المكان الذي يسافر فيه الفقراء على متن سفينة متجهة إلى أمريكا، ووصفه بأنه عبارة عن صف من المضاجع يتكدس فيه الرجال والنساء والأطفال جنبا إلى جنب مثل أحجار الرصف في الشارع.
وكان لإنجلز انشغالات أخرى غير الصحافة المهتمة بالنواحي الاجتماعية، فقد اتخذ إنجلز، الناقد الاجتماعي والأدبي، والذي كان يكتب باسمه المستعار "فردريك أوسفالد" علميْ اللاهوت والفلسقة هدفين جديدين له، دفاعا عن الهيجليين اللبراليين الشباب، ضد الهجوم المدعوم رسميا الذي يشنه "فردريش فون شيلينج" أستاذ الفلسفة الجامعي. وكان إنجلز يرى أن وجهة نظر "شيلينج" تتمثل في أن فلسفته كانت مجرد ترّهات لا توجد إلّا في رأسه، ولا يعزى لها الفضل في أي تأثير على العالم الخارجي.
وعكست مواقف إنجلز تطوره الفكري والسياسي. و ساهم في الصراع الفكري الدائر آنذاك، حيث راجت تأملات هيجل عن الوعي والوجود والتاريخ والدولة والدين والطبيعة. فكان الهيجليون في ثلاثينات القرن التاسع عشر يتبنون وجهات نظر متباينة حول تلك الأمور ضمن مجموعتين؛ فأيّد اللوثريون التقليديون تعليقات هيجل المؤيدة لمملكة بروسيا، أما أصحاب الفكر الحر منتقدو الدين عامة والمسيحية خاصة فكانوا يميلون لأن يكونوا ليبراليين من الناحية السياسية، وهو ما تبناه الهيجليون الشباب.
وأصدر إنجلز كتيبا لم يوقعه باسمه حمل عنوان "شيلينج والوحي: نقد لأحدث محاولة للتصدي للفلسفة الحرة" حيث قدّم دليلا للإنسان العادي حول حركة الهيجليين الشباب. وقيّم إنجلز مبادئ فلسفة هيجل، ورأى – حسب رأي مؤلف الكتاب- أنها كانت مستقلة و واسعة الأفق تاما، لكن الاستنتاجات كانت متحفظة في بعض الأحيان، بل ضيقة الأفق. وكانت أفكار هيجل متأئرة بعصره من ناحية، ومتأثرة بشخصيته من ناحية أخرى. وقد عدّد إنجلز أعمال الفلاسفة الجدد النقديين أمثال شتراوس و فيورباخ و برونو باور، والصحف التي نشروا فيها مقالاتهم ومدحهم.
و أصدر أحد الوعّاظ كتيّبا أثنى فيه على شيلينج لمهاجمته الفلسفة وحجّتها القائمة على العقل، منتقدا هيجل. وقال إن الهيجليين الشباب انتقدوا كلمة الرب بهذا العقل الفاسد ليجعلوا من أنفسهم ربّا مكانه. وتبع ذلك الصراع الفكري نشوب معركة في الصحافة. وقد نشرت مقالات إنجلز التالية في صحف المعارضة في كولونيا ولايبزج وفي الخارج\سويسرا. وقد تحوّل إنجلز -كما يرى المؤلف- من كونه صحفيا ليبراليا ليصبح ليبراليا، وفي ظل عهد الملك فريدريك فيليام الرابع ملك بروسيا كان هذا الأمر كفيلا بجعله ثوريا.
وكتب إنجلز: يتزايد تركيز الرأي العام في بروسيا على مسألتين هما: الحكومة التمثيلية وحرية الصحافة. وفيما يتعلق بالمسألة الثانية اقتبس إنجلز في إحدى مقالاته نص المادة رقم 151 من قانون العقوبات في بروسيا التي تمنع "النقد الفجّ وغير المحترم والسخرية من قوانين الأرض والمراسيم الحكومية" معلنا عن إثارة السخط والاستياء ضد المادة المذكورة، مدافعا عن حرية الصحافة.