بعد أكثر من ثلاثين عامًا على تأسيس الكيان الإداري لإقليم كردستان، يجد المواطن الكردي نفسه محاطًا بأزمات متراكمة، تحوّلت بفعل الإهمال والاحتكار السياسي إلى أمراض مزمنة تنهش جسد التجربة الكردية. تجربة بدأت ذات يوم بحلم الدولة، لكنها تقف اليوم على عتبة الانهيار الأخلاقي والسياسي، بفعل تراكم الفساد، وانعدام الشفافية، والصراع العبثي بين الأحزاب الحاكمة على السلطة والثروة.
تعطيل البرلمان، وفشل تشكيل الحكومة لأكثر من عامين بعد الانتخابات، وتغوّل الأجهزة الحزبية على مؤسسات الدولة، كلّها مؤشرات على انسداد خطير في الأفق السياسي، وغياب تام للإرادة الجادة في الإصلاح. والمقلق أكثر، هو الاعتماد المتزايد على العوامل الخارجية لاتخاذ القرار، في ظل فقدان ما يمكن تسميته” بالاستقلالية السياسية الذاتية” لقد كانت مظاهرات السليمانية ودهوك وغيرها من المدن في السنوات الأخيرة، تعبيرًا عن غضب شعبي مكتوم، لكنها اصطدمت بجدار من الصمت أو القمع.
هذا التناقض بين الحراك الشعبي المشروع والاستجابة الرسمية العدمية يكشف عمق الأزمة السلطة لم تعد تسمع صوت الناس. ما يحتاجه الإقليم اليوم ليس إصلاحات شكلية أو وعودًا انتخابية موسمية، بل تغيير جذري في البنية السياسية والاقتصادية، يبدأ أولاً بكسر احتكار القرار، واستعادة الحياة الدستورية، وخلق توازن حقيقي بين القوى، على أساس برنامج وطني جامع، لا تقاسم حزبي للنفوذ. التجارب المقارنة قد تقدّم دروسًا مفيدة: ففي إقليمي كتالونيا والباسك بإسبانيا، رغم التوترات السياسية مع المركز، تمكنت الحكومات المحلية من بناء مؤسسات راسخة، واقتصادات قوية، بفضل الشفافية والاستثمار في التعليم والصناعة.
كردستان، رغم موارده الطبيعية وموقعه الجيوسياسي، لا يزال رهينة عقلية الغنيمة، لا عقلية الدولة. التحول المطلوب اليوم يجب أن يستند إلى رؤية شاملة للتنمية المستدامة، تعالج الجذور لا الأعراض: مكافحة حقيقية للفساد، إصلاح النظام التعليمي والصحي، تنويع الاقتصاد، وضمان العدالة في توزيع الثروات بين محافظات الإقليم. الأهم من كل ذلك، هو إعادة الاعتبار للإنسان الكردي كمواطن، لا كرقم انتخابي أو تابع حزبي. ولن يتحقق ذلك دون وعي جماهيري منظم، تقوده فئات المجتمع الحية: الشباب، والنساء، والنقابات، والناشطون، والمثقفون، ممن يؤمنون بأن التغيير لا يُمنَح، بل يُنتزع. تجربة أوروبا الشرقية في التسعينيات، أو بعض بلدان أمريكا اللاتينية، أثبتت أن الشعوب قادرة على فرض التحول حين تتوحد خلف هدف واضح: الكرامة والحرية والعدالة.
كردستان اليوم أمام مفترق طرق: إما استمرار الانحدار نحو التفكك والاحتقان، أو بداية مسار جديد يُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، على قاعدة المشاركة، لا الهيمنة. لقد آن أوان السؤال الجاد: هل نحن بحاجة إلى انتفاضة جماهيرية واعية وسلمية تعيد تصحيح المسار، قبل فوات الأوان؟ دعونا ننتظر ونرى!