حينما صدرت رواية نجيب محفوظ (بداية ونهاية)، كتب الناقد المصري غالي شكري في كتابه (أظنه "رؤى نقدية"، فقد طالت المدة ... اكثر من 30 عاما) كلاما ربما كان صادما وقتها للقارئ العربي. قال فيه ان نجيب محفوظ قد سقطت رواياه الجمالية والفكرية للواقع واخذ يكرر نفسه. وما يقوله الآن سبق له ان قاله في روايات آخرى مثل "الثلاثية: و"ميرامار" و"فتوة حارتنا"، وغيرها من اعماله الخالدة. وتلك الرؤيا، والحديث لا زال لغالي شكري، هي رؤيا جيل كامل من المثقفين والمفكرين المصريين بلغت قمتها في عام 1967 وسقطت بالهزيمةالتي لم تكن عسكرية فحسب ولكنها كانت هزيمة لكامل مشروع النخبة.
ولولا ان غالي شكري كان يتحرى الدقة ويلزم نفسه بحديث ملموس عن واقع ملموس هو الواقع المصري، لقال "النخبة العربية" دون ان يتغير المعنى.
يحاول البعض تحميل المسؤولية في تراجع المشروع النهضوي العربي الذي كان يتحلق حوله الى جانب القوميين العرب كل التيار التقدمي المناهض للاستسلام، لذلك الرجل الذي قضى برصاصات الشهيد خالد الاسلامبولي. ولكن اذا كان السادات قد باع القضية فلماذا لم يشتريها الثوريون إن لم تكن رؤاهم الفكرية والجمالية والسياسية للواقع قد سقطت فعلا. بل الأنكى ان رموز هذا التيار عن طريق استخدام الجذرة والعصا اندرجوا في المشروع المعادي بالعمالة المكشوفة. وهؤلاء امرهم أخف من أمر اخوانهم الذين تبنوا الفكر الليبرالي ومشروع الاستعمار بالاصالة عن انفسهم. فتلفتت الامبريالية والصهيونية حولها فوجدت انها لاتحتاج الي عملاء بعد الآن ولكنها تحتاج شركاء، وها هم قد اطلوا برأسهم. فهم يتبنون مفاهيم السوق الحر والصلح مع اسرائيل. ذلك المشروع الذي بدأ في معسكر كامب ديفيد وانتهى الى مفهوم الديانة الابراهيمية واسع الإنتشار.
حال الشق الليبرالي في التيار الديمقراطي، أو إن شئت قل التيار النهضوي، قد انتهي الى تلك الحالة التي قال عنها الشاعر مظفر النواب:
(رأيناهم ناموا في الجيش الآخر والجيش يحارب).
لكن ماذا عن تيار المقاومة؟ فقد اشتغلت عليه المخابرات الأمريكية عن طريق عملائها الذين مكنت لهم في الأرض واستغلت الخلافات التي بينهم فضربتهم ببعضهم، فأرسل رفاق السلاح رفاقهم الى المشانق ودورة الاعدام. وفي خسة لا نجد تفسيرها إلا في واقع الهزيمة الفكرية والمعنوية، شهد الرفاق ضد بعضهم في محاكم ادارية داخل معسكرات الجيوش وانتهى الأمر. وعاد الحزب الشيوعي السوداني كما كان في منتصف الستينات (كاليتيم على مائدة اللئام ) كما قال منصور خالد. (منصور خالد الذي كان يتربع وقتها علي دست المؤامرات الدولية ويتولى كبر صياغة الحجج المضادة للمشروع التحرري، واظنه ظل يفعل ذلك حتى رحيله ومع ذلك تدبج المقالات في مدحه كأحد رموز الاستنارة. وفي الحقيقة هو أحد رموز الاستشارة الدولية والغريبة انه كان يفخر بذلك ويباهي به ....) دون التوقف ولو للحظة عند مواقفه السياسية، مما يعني ان دعاة الاستنارة في بلادنا أو رابطة المعجبين بمنصور خالد تبحث عن استنارة بلا مواقف وطنية. وقد قال احدهم في حوار صحفي: نحن مستقبلنا مع الدول الديمقراطية لكن تلك قصة اخرى. وراح الحزب الشيوعي يبحث عن الرأسمالية الوطنية داخل الأحزاب التقليدية التي تآمرت عليه من قبل. وهو بحث مضني كلف الراحل محمد ابراهيم جهدا كبيرا في السجال مع د فاطمة بابكر. ولم يتحقق ذلك الحلم إلا عشية الاطاحة بنظام النميري وترسخ في التجمع الوطني الديمقراطي بعد الانقاذ.
هذا التحالف الذي انبنى على تقديم تنازلات متبادلة وجرى التعبير عنها في وثائق الحزب الشيوعي السوداني وكتابات الراحل الصادق المهدي. ويمكن في هذه العجالة ان نشير الى وثيقة اللجنة المركزية (الديمقراطية مفتاح الحل)، وكتابي الصادق المهدي (تحدي التسعينات) وآخر بعنوان (لكي يولد السودان في مهد الديمقراطية وحقوق الانسان). إلا انه، أي التحالف، قد وضع لبنة مهمة لبناء تيار وطني ديمقراطي كان يمكن ان يجنبنا الانزلاق الى قاع الجب الذي وجدنا انفسنا فيه.
لولا ان المؤامرات الدولية والاقليمية والمحلية سرعان ما اجهضت هذا الحلم. وبدلا من ان يشل التيار الوطني حالة التذبذب وسط التيار الليبرالي العالمي الذي صوب وجهه شطر الأجندة الدولية، حدث العكس. فتحدث السيد الصادق عن التدخل الدولي الحميد، وخفف الاقتصاديون الشيوعيون أو بعضهم من نقدهم لاقتصاد السوق الحر. واستبدلت القضية الفلسطينية بالصراع في الشرق الاوسط أو تهديد الأمن والسلم الاقليمي والدولي، وذلك حتى تتم مساواة حماس وحزب الله وايران بالدولة الاسرائيلية 0المعتدية. واصبح التيار الاسلامي المتطرف يحظي من قبل دعاة الفكر الديمقراطي بالنقد اكثر من التدخل الاستعماري .حتي وصل التيار الديمقراطي بشقيه الاجتماعي والليبرالي الى مرحلة التلاشي واصبح يردد الاكليشيهات التي تعدها مراكز البحث التابعة لمنظمات أمريكية واوربية وكندية لا تخفي تبعيتها للأحزاب الحاكمة في تلك البلدان. فاستطاع الفكر العالمي، أو قل الاجندة العالمية، ان يجرف الفكر الوطني الديمقراطي الذي انكره أصحابه عشرة مرات قبل صياح الديك، واصبح المناضلون مجرد ناشطين يتبعون لمراكز بحث او منظمات تظهر المساعدات وتخفي الأجندة السياسية. باختصار، اصبحوا موظفين دوليين. نعم. قد ناموا في الجيش الآخر والجيش يحارب، كما قال ذاك النبي. والذين
يتمسكون بشعارات المقاومة مثل الشيوعيين يخضعون لابتزاز القوى العالمية ممثلة في التيار الليبرالي، ويحاولون احتلال مساحة بين المقاومة والاستسلام. أو كما يقول المثل السوداني: (يدوا الحلة وصاة. والنقارة عصاة).
وخلاصة الأمر لم يعد هناك تيار مقاوم للتدخل الدولي من مواقع الديمقراطية وحقوق الانسان.
والساحة خالية أمام التيارات المغلقة تتمدد فيها كما تريد فتشكل الرأي العام وتبتز الجيوش حتى تنزل عند رغباتها التي اوردت البلاد مورد الهلاك.
----------
(*) كاتب سوداني