كنت ليلة البارحة مع برنامج "شهادات خاصة"، وحين واجهني عنوان الحلقة وهي تعلن عن لقاء مع أحد ضباط ثورة تموز المباركة، لم أكن اعلم بأن ضيف الحلقة، نوح علي الربيعي، كان ضابطا برتبة صغيرة "ملازم ثان"، وأنه كان ينتمي للحزب الشيوعي لحظة اعلان الثورة، وأنه كان ضابط ارتباط مع كبار القادة، وكذلك ما تعرض له من أساليب تعذيب فاشية على يد ازلام النظام البعثي المجرم في نهاية السبعينات، سببت له إعاقة جسدية كبيرة، بحدوث كسور كبيرة في ظهره منعته من الحركة والوقوف على رجليه، وباعتداد وفخر مذهلين لا زال يتفاخر ويدافع ويتشرف بانتمائه للحزب الشيوعي حتى لحظة تواجده في البرنامج.
كان الحوار شيقا جدا والضيف الرفيق يسترسل بذاكرة متوهجة رغم عمره المتقدم الذي تجاوز العقد الثامن، وهو يقدم لنا شهادات حية وصادقة لبعض التفاصيل التي لم تكن معلومة لدينا، نحن المتابعين لتفاصيل الثورة المباركة وطبيعة ضباطها بشخصياتهم المختلفة المشارب والتكوين وصدق في الوطنية الحقة، لكنه كان امينا في نقل الحدث، حتى أنه لم يسئ بالكلام لضباط انحرفوا كثيرا عن مبادئ الثورة وعرفنا خياناتهم وتوجهاتهم القومية بدفع خارجي سبب الانتكاسة الكبيرة للثورة وقادتها الوطنيين الأحرار الذين غدرت بهم الأيادي الآثمة.
مما أدهشني وحرك مواجعي المتراكمة وانا على بعد آلاف الأميال عن عراقنا الحبيب للاعتداد بهذه الشخصية المتميزة، كونه كان ضابطا بمواصفات تكوين عسكري صارم وانساني في آن واحد، من خلال استرساله في الحديث عن قادة الثورة، كان يحتفظ بالتقدير والاحترام لجميع ضباط الثورة رغم عدم قناعته بما فعل بعظهم من محاولات غدر خسيسة قادت لتصفية خيرة الضباط الاحرار منهم الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وبقية الضباط الميامين: المهداوي، وصفي طاهر، عبد الكريم الجدة، وغيرهم الكثير على ايدي بلطجية البعث بمباركة وقيادة الشوفينيين من ذوي الاتجاه القومي، داخل وخارج العراق، وبتخطيط ودعم ومباركة المخابرات البريطانية، وبإسناد معلن من قيادة مصر آنذاك.
كان هذا الضابط المُقعد، مثالا صارخا لما يكون عليه الوفاء للمبادئ، كونه كان وما زال بذات الوفاء للفكر الشيوعي وحزبه المقدام، يدافع عن الحزب ويرد على مناوشات مقدم البرنامج واستفزازاته، التي كان من خلالها يحاول أن يوجه اتهامات للحزب ولقادة الثورة وملاحظات أخرى كانت تنم عن عدم رضا بما حدث من تغيير هائل نقل العراق من حالة التبعية المطلقة للغرب بأجنداته المعادية لقوى التقدم في العراق ورهن البلد في دائرة الإسترليني ونهب خيرات البلد من قبل الأجنبي واطلاق ايادي العملاء والمنتفعين لاستغلال طبقة العمال والفلاحين والمعدمين وكافة فئات المجتمع العراقي المظلوم، وغيرها من الإنجازات الكبيرة، رغم قصر فترة حكم الضباط الوطنيين الأحرار، قبل أن تزحف قوى الظلام والحقد الأرعن للالتفاف على الثورة بمنجزاتها والنيل من قادتها الميامين.
كان الحوار وطيلة الساعة المخصصة لوقت البرنامج، لافتا كون الضيف كان شديد التعلق بحزبه الشيوعي العراقي، وكان يدافع عنه باستماتة وحب وتعلق غريب، مما يجعلنا ندرك نحن الشيوعيين من الأجيال اللاحقة، سر بقاء وديمومة هذا الحزب شامخا وولودا على مر العقود منذ تأسيسه ليومنا الراهن، رغم ما قدمه من تضحيات جسيمة واسطورية لقادته الميامين وكافة أعضائه الابطال ممن نالتهم يد القتل البعثي المجرم وبأبشع صيغ التصفيات الجسدية وجملة الاعدامات التي لا حصر لها، بملاحم بطولية نادرة، لم يكونوا يراهنون على مكاسب أو امتيازات، وماذا تنفع مثل هذه المغريات إزاء الايمان المتفاني بالقيم الوطنية النبيلة، لتتأسس مدرسة بقيم خالدة في الوطنية والتفاني النادر من اجل الوطن والناس.
ما ادهشني كذلك واثار الشجن في نفسي، ما قاله رفيقنا الضيف، بأنه كتب وصيته لعائلته ورفاقه ومحبيه، بان يطوفوا بجنازته حول مقر الحزب الشيوعي في الاندلس، انها امنيته الأخيرة، الأمر الذي حرك فينا ركام الحزن والأسى لتنهمر دموعنا الساخنة، رغم خبث المحاوِر بسؤال استفزازي، بأن الطواف يكون في الكعبة، فكان جواب هذا المناضل الوفي، بأن مقر الحزب بمثابة كعبته، لأكمل أنا ما قاله الرفيق، أن مثل هذا التوصيف الرائع، دليل على احترام الشيوعيين للمقدسات، باعتبار أن الطواف حول الكعبة شعيرة مقدسة، وطواف كهذا حول مقر الحزب، هو احترام لكل الطوافات المقدسة لكل المؤمنين حقا بمبادئهم وقيمهم، وهكذا هو ديدن الشيوعيين أينما كانوا بتعلقهم بمعتقداتهم الفكرية والحزبية حتى آخر رمق في حياتهم لتلازمهم حتى في مماتهم.
طوبى لك من شيوعي بوفاء نادر لحزبه ورفاقه الأحياء منهم والأموات ولوطنه العزيز، رفيقنا نوح علي الربيعي، لتكون انموذجا حيا لما يكون عليه الشيوعي من وفاء وقوة وشموخ وثبات على المبادئ.
إنه درس بليغ ليتعلم منه الآخرون من المغيبين فكريا ووعيا وثباتا على المبادئ الخالدة.