دون شكّ، إن سقوط نظام الاستبداد ورمزه الأساسي شكّل فرحةً شاملة للشعب السوري. هذا النظام وهذه المنظومة الاستبدادية، التي ربضت على كاهل الشعب السوري خلال أكثر من نصف قرن، عانى فيها الشعب السوري بكلّ أطيافه الكثير والكثير، شكّل انعطافه تاريخية في حياته.
لقد خلّف وراءه إرثاً ثقيلاً نحتاج، لمحو آثاره، إلى تكاتف جميع أبناء البلاد بكل أطيافها، ونحتاج إلى تضامن السوريين أجمع للخروج من هذه الحالة التي ورّثنا إيّاها هذا النظام البائد.
ولكن من أين نبدأ؟ فلا شكّ في أن استيعاب دروس المرحلة السابقة هي نقطة الانطلاق الأساسية على طريق بناء سورية المستقبل، سورية الحرة، سورية العادلة، سورية بلد جميع مواطنيها، سورية المواطنة، سورية الديمقراطية، والمساواة، وتكافؤ الفرص، سورية عدم تهميش أحد.
اعتقد أن تركيز الهجوم وفضح رموز العهود البائدة ومحاسبتهم هو أمر ضروري، ولكن الأهم من ذلك هو فضح المنظومة، منظومة الاستبداد، كي لا تتكرر هذه المنظومة بأشكال مختلفة في المستقبل.
إن أبرز السمات التي تميزت بها منظمات الاستبداد في جميع بلدان العالم هي واحدة تقريباً، مع اختلافات بسيطة حسب الظروف الداخلية لهذه البلد أو ذاك، وأبرزها أنّ:
١- السلطة المستبدة تحتكر مصادر القوة في المجتمع لمصلحة النخبة الحاكمة.
٢ تخترق المجتمع المدني لتحيل مؤسساته التضامنية إلى مؤسسات تابعة تعمل بوصفها امتداد لأجهزة السلطة.
٣- تخترق النظام الاقتصادي وتستخدمه بما يحقق هيمنتها.
٤- تبني شرعيتها على استعمال العنف أكثر من الاعتماد على الوسائل الشرعية والمعايير الدستورية، ولذلك تغيب الانتخابات الفعلية والحرة وتفقد مصداقيتها.
٥- غياب وجود المنظمات المستقلة عن السلطة.
٦- وتنتفي إمكانية وجود دساتير فاعلة وتتجمد الحقوق المدنية، بالقدر الذي يتقلص فيه حضور المجتمع المدني وفاعليته إلى أبعد حدّ.
٧- تتحول أعلى نسب الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية والإيديولوجية لهذه السلطة، إبقاء على مبدأ الولاء لها، والإجماع على الإيمان بشعاراتها والتصديق المذعن لها، فضلاً عن تقديس رأس السلطة فيها.
٨- وإذا كان الاستبداد السياسي سمة لهذه السلطة وعنصراً تكوينياً أساسياً من عناصر تكوينها، والمحور الذي تدور حوله أجهزتها، فضلاً عن مؤسساتها، فإن التسامح هو الخطر الذي يهدد هذه السلطة، ولذلك يقترن الاستبداد بالحزب الواحد في هذه الدولة، والصوت الواحد الذي يهيمن على أجهزتها الإيديولوجية والحاكم الأوحد الذي لا يفارق كرسيه إلا بالموت، وذلك بما ينقل ثبات موضعه إلى المسؤولين المحيطين به والمؤكدين حضوره الأعلى، فلا يحدث حراك في النخب السياسية التي تجمد على ماهي عليه، وتتشبث بمواقعها بما يسدّ الأبواب أمام الأجيال الجديدة، ويمنع تدوير النخب السياسية.
٩- ولا ينفصل عن ذلك العداء لإمكانية التعددية السياسية واستئصال حضورها، وذلك بما يقمع الاختلاف أو التنوع أو المغايرة، وحتى عندما تسمح هذه السلطة بوجود أحزاب فيها، تظاهراً أو ادّعاءً، أو استجابة لأولي الأمر في الدول الكبرى، فإن الشروط التي تؤصلها في المجتمع تحيل هذه الأحزاب إلى تجمعات شكلية مهمشة خالية من الفعالية الحقيقية، وبذلك توجه ضربة جدية لهذه الأحزاب، وذلك من خلال نسف مسألة النشأة الطبيعية التي تنبثق بها الأحزاب من إرادة الناس، وليس منحة من الحاكم، أو تنازلا لرغبته.
وأخيرا إن تحرير المجتمع والبدء ببناء الدولة سيخلق قوة بشرية واعية مدركة لمصالحها في وطن آمن مستقرّ. والديمقراطية بمعناها كفكر وفلسفة تعني بنتيجتها المبادئ التي تقوم عليها أسس الدولة، وهي مبادئ احترام كل مكونات الشعب وفصل السلطات واستقلال كلٍّ منها عن غيرها، ومفهوم تجزيء الصلاحيات، ومبدأ التمثيل والانتخاب ومفهوم سيادة القانون والمساواة الكاملة أمانة، وتداول السلطة سلمياً بما يختاره الشعب، ووجود دستور يعكس عقداً اجتماعياً بين جميع مكونات الشعب.
تلك هي الأسس التي تقوم عليها أي دولة ديمقراطية، إننا نأمل أن يسير التطور اللاحق في هذا الاتجاه، فذلك سيؤدي إلى تلاحم الشعب السوري، والخلاص من الإرث الثقيل الذي ورثه عن النظام الاستبدادي السابق.
*صحيفة النور : الحزب الشيوعي السوري الموحد العدد 1136 في 18/12/ 2024