في الثالث والعشرين من آب، في وسط مدينة بغداد، وفي وضح النهار، اختار ثلة من القتلة المحترفين، الوالغين في الجريمة، المتلفعين بجلباب الدين والسياسة زوراً وبهتاناً، المتدرعين بعدتهم وآلياتهم الواقية من الرصاص، أن يصوبوا غدراً، نيران أسلحتهم الكاتمة، إلى قلب المثقف والباحث، الكاتب العراقي كامل شياع ــ "5 شباط 1954 ــ 23 آب 2008، بغداد"، على طريق محمد القاسم، وهو يستقل سيارة وزارة الثقافة أثناء ساعات الدوام الرسمي، حيث كان يشغل وظيفة مستشار فيها، برفقة سائق السيارة وقد استشهد في الحال فيما تعرض السائق إلى جروح بليغة، تعافى منها لاحقاً.

ومن الجدير بالذكر، أن الراحل قد دأب على التجول في مدينة بغداد راجلا على قدميه، وحيداً أحياناً، وأعزلاً، من غير ما حمايات أو سلاح، لانجاز مهمة ما من المهام والنشاطات الفكرية والثقافية التي اضطلع بها ونذر حياته لأجلها، واعياً جيداً بالمخاطر المحتملة، معولاً على أن العودة من المنفى إلى الوطن خيار شخصي للمساهمة في صياغة مشهد جديد في وضع ملتبس من أجل إعادة الأمل عبر محاولة ترميم ما يمكن....، خلاصاً من إرث الدكتاتورية، نحو الانتقال إلى غدٍ أفضل، متسلحاً بسلطة العقل، واحترام المختلف.

قبل أيام من الآن مرت الذكرى السادسة عشرة لاستشهاده، وما زال القتلة طلقاء، وربما محميون ككل القتلة الذي يمتلكون تمثيلاً في المشهد السياسي العراقي المعقد والمضطرب، على اعلى المستويات.

ومن أجل الاحتفاء بذكراه واعتزازاً بإرثه الفكري والثقافي، بادرت مجموعة من أصدقاء ورفاق الفقيد في مدينة كوبنهاكن عاصمة الدنمارك، التي سبق له المرور بها في عام 2000، وكان ضمن برنامجه آنذاك زيارة صخرة المفكر والفيلسوف والشاعر الدنماركي سورين كيركجارد المنتصبة في مواجهة مشهد البحر بأفقه المتسع نحو المدى اللانهائي، محاطة باخضرار الشجر، وعطر أزهار الطبيعة الغناء، ولكن مشاغله الكثيرة حالت دون تحقق رغبته في رؤية تلك الصخرة التي تحمل اسم الفيلسوف الدنماركي والأمكنة التي كان يرتادها متأملاً، في مدينة كيليلايا الواقعة إلى الشمال من مدينة كوبنهاكن، ولذا حرص المبادرون استجابة لرغبة شهيد الفكر والابداع، المثقف كامل شياع على انجاز تلك الزيارة المؤجلة، ولو من الناحية الرمزية بوضع صورته الفوتوغرافية، على صخرة الفيلسوف سورين كيركجارد، وفاءاً للترابط الروحي بين المفكرين، وتعبيراً عن التقدير والامتنان للابداع الإنساني من مختلف المشارب، ومن مختلف الأزمنة، والأمكنة.

وتعريفاً بالفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد (ولد سورين كيركجارد عام 1813، وتوفي عام 1855. كان كاتباً خصباً وعميقاً إبّان "العصر الذهبي" للدنمارك، عصر النشاط الفكري والفني. عبرت أعماله حدود الفلسفة، اللاهوت، النقد الأدبي، الأدب التعبدي، والأدب القصصي. قام كيركجارد بتقديم توليفة مقنعة ومفحمة من الخطابات التي خرجت بصورة نقد اجتماعي، الغرض منها تجديد الإيمان المسيحي بين معتنقيه. كما عمل على إسهامات نظرية في كل تخصص قد شغله. عُرف سورين بـ "أب الوجودية"، هذا المسمى كان له أهمية توازي انتقاداته لهيغل والرومانسية الألمانية، إلى جانب إسهاماته في تطوير الحداثة، وكان ينظر إلى الإيمان المسيحي الحقيقي على أنه مسألة تجربة تعيشها بسعي مستمر داخل الوجود الفردي.  (*)

 (*)  موسوعة ستانفورد للفلسفة