كان التدويل يعني فتح الأسواق الوطنية فقط مع الحفاظ على الهوية، كما كانت المبادلات التجارية تتم على أساس الحماية و التعريفة الجمركية وقيود الصرف الأجنبي بالإضافة إلى حواجز أخرى. مما أعطى الدولة سلطة كبيرة في توجيه الأنشطة الاقتصادية و السيطرة عليها، خاصة بعد الكساد الكبير سنة 1929 م، الذي مهّد السبيل لتدخل الدولة الوطنية في النشاط الاقتصادي، ودفع لأن يكون لها دور فعّال في المجال الاجتماعي وهو ما برز في تجربة التدخل الحكومي في كثير من الدول الأوربية، وكان الكساد الكبير هو الأرضية التي أفرزت النظرية العامة "لكينز"، والتي تدعو إلى ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي باعتبارها العامل الموازن أو التعويضي لتقلبات هذا النشاط وأصبح الوصف الكينزي هو الأساس الذي بنيت عليه السياسات الاقتصادية في دول الغرب الرأسمالي. وقد استمرت مرحلة التدخل من جانب الدولة حتى السبعينيات من القرن الماضي.
لكن هذه المرحلة سرعان ما تراجعت نسبيا تحت وطأة الأزمات المستعصية كالزيادة في معدلات البطالة ومعدلات التضخم التي عانت منها الدول الغربية الرأسمالية وعلى رأسها الدول الأوربية. فصعد نتيجة لذلك التيار الداعي إلى تقليص مساحة تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية إلى الحد الأدنى و الضروري. وأعاد أنصار هذا التيار إحياء فكرة اليد الخفية التي تحقق بشكل تلقائي التوافق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة - آدم سميث- ونادوا بإطلاق الحرية الاقتصادية إلى أبعد مدى. وبناءً على ذلك فقد دأب كثير من الباحثين و المفكرين على التأكيد أن عصر الدولة الوطنية قد انتهى وأن التحكم على المستوى الوطني لم يعد فعالاً خاصة في مواجهة العمليات الاقتصادية والاجتماعية المعولمة فالعولمة تضغط على الدولة لفتح حدودها لنوع جديد من التنافس الحر تضعف فيه قدرة السلطة الوطنية على تطبيق القوانين الوطنية داخل تلك الحدود، وعلى التحكم في تدفقات وانسياب رؤوس الأموال التي أصبحت تتمتع بحرية الحركة على المستوى العالمي. وهو ما هيأ للسيطرة الأجنبية على المقدرات الاقتصادية للعديد من الدول وجعلها تحت رحمة الرأسمالية العالمية والشركات متعددة الجنسيات.
في الدول العربية فان الولاءات والانتماءات القبلية هي التي تجعل النسق السياسي نسقًا انقساميًا، وإن كانت هذه الانقسامية تقوى وتضعف أمام قوة الانتماء الفكري والسياسي أو ضعفه، ووجود عصبيات أقوى وأكثر فاعلية من عصبية قربى الدم. أن الأنظمة السياسية العربية في أغلبها إما قائمة على أساس الحزب الواحد، أو العائلة الواحدة، او أبناء جهة واحدة. ومن هؤلاء وهؤلاء تتكون الأجهزة القيادية والرئاسية. وعلى رأس هذه الأجهزة مجموعة من الأشخاص يرتبطون بتلك الانظمة السياسية بصلات قربى كثيرة. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية تزايد الاهتمام بدراسة أوضاع الدول حديثة الاستقلال، حيث كانت تعيش في حالة من التخلف. واعتبر علماء الاجتماع والسياسة الغربيين أن المجتمع الصناعي في الدول الغربية المتقدمة يشكل نموذجا يحتذى به. وتم النظر إلى عملية التحديث على أنها عملية انتقال نحو الأنماط والنظم الاجتماعية والسياسية التي تطورت في أمريكا وأوروبا الغربية، ثم انتقلت إلى بقية القارات . حيث أن عملية التحديث تطال في تأثيرها مختلف جوانب المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والتحديث في علم اجتماع التنمية يعني حسب اغلب المنظرين لهذا العلم نقل للنموذج الغربي، واعتبار الديمقراطية بمفهومها الواسع، خاصية رئيسية للمجتمع الحديث في المجال السياسي.
أن التنمية السياسية من المواضيع الحديثة التي إستنبطها العلم السياسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ ودخل في الإستخدام الأكاديمي – إذا جاز التعبير – وخاصة في مراكز الأبحاث والدراسات السياسية التطبيقية، حيث وظف مفهوم التنمية السياسية من قبل الجامعات الاوروبية والامريكية تحت شعارات التطوير والتحديث السياسي وتم إجراء العديد من الدراسات بهذا القصد تحت إطار المشاريع التنموية والتحديثية، من أجل إستمرار تحقيق مصالحهم الإقتصادية والإستراتيجية ودفع الأنظمة السياسية للإقتراب الشكلي من النموذج الغربي؛ لأنه على حد زعمهم يشكل النموذج الذي يحتذى به في العالم، والقائم أصلا على الديمقراطية والليبرالية السياسية القائمة على التعددية السياسية، وحرية الفكر وإنتقال السلطة عبر صناديق الإقتراع ونظام البرلمان . إن التنمية الإقتصادية والإجتماعية هي في الغالب عملية غير متوازنة. فبعض المناطق وبعض الطبقات الإجتماعية والجماعات الأثنية أو الدينية/ أو المذهبية تكون مهيّأة أكثر من غيرها لاستثمار العملية التنموية والإفادة منها، وهي بالتالي أكثر إلحاحاً على المشاركة السياسية، إمّا لكونها قد سبقت غيرها في ميدان التعليم والنمو الإقتصادي والخدمات الإجتماعية فتكونت لديها الحاجة واما عندها التطلّع وتهيأت لاستثمار الفرص المتاحة أمامها نحو المشاركة السياسية، وإما بسبب عكسي تماماً، أي أنها قد تكون أكثر حرماناً وأكثر التصاقاً بهويّاتها الخاصة (مناطقية أو قبلية أو طائفية) وتجد في موضوعة التنمية السياسية مخرجاً لها من وضعها الثانوي، ومعاملتها الدونيّة، وهي بالتالي تصرّ في المطالبة من أجل رفع مستواها الى مستوى الجماعات والمناطق.
وفي المجال السياسي أيضا هناك من يرى أن عملية التحديث السياسي هي التحولات والتغييرات السياسية التي حدثت في أوروبا وبقية أنحاء العالم منذ النهضة الأوروبية. وهذه التغييرات يُشار لها كخصائص لعملية التحديث السياسي، وتشمل: تحقيق مزيد من المساواة وإعطاء فرص للمشاركة في صنع السياسة، وقدرة النظام السياسي على صياغة وتنفيذ السياسات، والتنوع والتخصص في الوظائف السياسية، وعلمانية العملية السياسية وفصلها عن الدين. تم معالجة ودراسة التنمية السياسية من الدارسين الغربيين في بدايات الاهتمام بالموضوع على أنها عملية نقل للنموذج الغربي في بناء المؤسسات والأنظمة السياسية، والتخلص من الانظمة والقيم التقليدية التي تعيق تطور المجتمع بشكل عام. وكانت النظرة إلى التنمية التي حدثت في الغرب، على أنها عملية ذات صفة عالمية يصلح تطبيقها أو نقلها إلى كل دول العالم الثالث. وكان التركيز والاهتمام في دراسات التنمية السياسية الأولى منصب أكثر على التعرف على الخصائص التي تميز المجتمعات المتقدمة وتطورها عن الخصائص التي تميز المجتمعات المتخلفة. كما جرى التركيز على المراحل التي تمر بها المجتمعات نحو التطور، والقوى والعوامل التي تعجل من عملية التنمية . كما اعتبرت عملية التنمية والتحديث بأنها تمر بمراحل متعاقبة باتجاه واحد صاعد، وأن كل المجتمعات البشرية لا بد أن تسير في هذا الاتجاه الذي مرت به الدول الغربية.
رغم الصعوبات التي واجهت الباحثين في مجال التنمية السياسية في تحديد مفهوم محدد وواضح، إلا أنهم حاولوا وضع بعض التعريفات التي قد تؤدي إلى تقريب الرؤى حول هذا المفهوم. وآليات التنمية السياسية هناك مجموعة من الآليات التي لابد من توفرها لضمان نجاح عملية التنمية في مجتمع معين وخاصة في دول العالم الثالث ومن أهمها، المعايير الاجتماعية عن طريق مختلف مؤسسات المجتمع، بما يساعده على التفاعل معه. ومنه فإن التنشئة السياسية تهتم بشخصية الفرد وتطويرها وصياغتها وفق نموذج معياري مسبق لتعميق القيم والتوجهات السياسية الشائعة المستقرة في المجتمع، كما تسعى إلى تنمية مدركات الفرد وتعزيز قدراته السياسية بحيث يستطيع التعبير عن ذاته من خلال سلوكات ينتهجها في الحياة السياسية خاصة إذا كان النظام السياسي غير عقلاني وغير رشيد ومنه إمكانية خلق مجتمع مدني منظّم قادر على القيام بدوره الفعال. ألانظمة السياسية التي تتمتع بنوع كافٍ من الاستقرار السياسي، هي تلك الأنظمة التي تمكنت من بناء آليات ومؤسسات تتيح أكبر قدر ممكن من الحراك الاجتماعي وتداول القوة الاقتصادية والسياسية بين أفراد المجتمع، لذلك فإن الديمقراطية التي ينادي بها أي نظام سياسي لا تقاس من خلال عدد الأحزاب التي أجيز لها أن تمارس العمل السياسي، وإنما من خلال التداول السلمي والفعلي للسلطة بين الجميع، وعبر الطبقات الاجتماعية المختلفة، مما يترتب على ذلك من آثار على المستوى الواقعي بحيث تتاح المشاركة الشعبية، وتكافؤ الفرص لكافة إفراد المجتمع دون تمييز. وإذا كان ينظر الى التنمية بمفهومها العام على أنها عملية شاملة ذات مضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية، أي انها عملية لا تقبل التجزئة ، وأن أي تحوّل في أحدها يقود دون مناص الى تحوّل وتغيير في البقية. لكن التنمية السياسية كنشاط يقوم به المواطن العادي من أجل التأثير في صناعة القرار الحكومي، ظلت الغائب الأكبر لدى صانع القرار، ولدى الباحثين والكتاب، الأمر الذي أدى الى التشكيك في حتمية (شمولية) التنمية، بالنسبة لبعض الدول، خاصة الريعية منها، أي تلك الدول التي تعتمد على مصادر دخل غير (الضرائب) وتقوم بصرفها على التنمية.
وإذا حاولنا تفسير هذه الظاهرة على المستوى الدولي، يتضح لنا أن الاهتمام بمساحة الدولة وقدراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قد تم التراجع عن كل ذلك لصالح الولاء الإثني والعرقي والقبلي، ففي عصر الحرب الذرية والإرهاب بمختلف أشكاله لم تعد الدول - حتى الكبرى منها - قادرة على حماية مواطنيها. أضف إلى ذلك أنه سواءً أكان الحجم كبيرا أم صغيرا، فالكل الآن متساوون في وصولهم للمال والمعلومات وبالشروط نفسها، إذ أنه بإمكان أية دولة صغيرة الانضمام إلى تجمع إقليمي اقتصادي وبذلك تحقق الاستقلال الثقافي والسياسي والتكامل الاقتصادي، ومن دون ريب وليس مصادفة ان نرى لوكسمبورغ الدولة الصغيرة من أكثر المتحمسين للانضمام للاتحاد الاوروبي. وإن كان هذا التفسير صحيحا في بعض جوانبه، فإن الهدف الأساسي من هذه النزعة ليس سياسيا ولا اقتصاديا، بل إنه تأكيد على الوجود وبالتالي التعبير عن ثنائية أعمق من ثنائية الهوية والعولمة أو المحلي والكوني هي ثنائية الأنا والآخر، وعادة ما يكون الأنا هو الذي يدافع عن الهوية الثقافية والخصوصية والمحلية في مواجهة الآخرالذي يتحد مع العولمة، فالعلاقة بين الطرفين ليست مجرد موضوع لبحث علمي بل هي أزمة وجود تاريخية. وهكذا يبدو أن العودة إلى التركيز على الانتماء العرقي أو الديني أو القبلي الضيق يعد من الإفرازات الخطيرة للعولمة، لما لها من آثار سلبية على التكامل السياسي للعديد من المجتمعات، إذ أنها تؤدي إلى إضعاف عاطفة الوطنية أو الشعور الوطني كأساس للبناء ولنهضة الدول، لحساب مفاهيم تحتية ( تحت وطنية) كالطائفة أو القبيلة ويتجلى ذلك في العديد من المظاهر من بينها، الاستهانة بالدولة الوطنية وبرموزها ومؤسساتها وإهمال التاريخ الوطني.
ومنذ تسعينيات القرن العشرين يشهد العالم مجموعة من التغيرات الدولية والإقليمية التي كان لها الأثر الواضح في شكل وطبيعة النظام الدولي عامة، وفى الوطن العربي بشكل خاص، كان من أبرزها وعلى المستوى السياسي انهيار الاتحاد السوفيتي، والطموح الأمريكي المتمثل في النظام الدولي الجديد، وانهيار النظام الإقليمي العربي، والذي ظهر بديلا عنه الإستراتيجية الغربية وخاصة الأمريكية والإسرائيلية التي بدأت تتبنى مفهوم الشرق الأوسط كمفهوم أمنى واقتصادي وسياسي، والشراكة الأورو- متوسطية، ومجموعة من التحالفات الأمنية العسكرية التي انعكست سلبا على واقع الأمن القومي العربي. بدأ الفكر السياسي العربي في الاهتمام بصياغة محددة ومفهوم متعارف عليه في منتصف السبعينيات، وتعددت اجتهادات المفكرين العرب من خلال الأبحاث والدراسات والمؤلفات سواء في المعاهد العلمية المتخصصة، أو في مراكز الدراسات السياسية، والتي تحاول تعريف الأمن القومي. الأمن الوطنى للدولة تهدده امور عدة، منها ما يقع داخل حدودها ومنها ما يقع خارج حدودها ، و هنالك مهددات داخلية للأمن الوطنى لكنها ترتبط بعوامل خارجية مما يستدعى تدخل الدولة فى دول أخرى لحماية أمنها الوطني ، والجديد في إعادة التعريف لمفهوم الأمن الوطنى أن دولاً أصبحت تعتبر الأمن الوطنى لدول أخرى هو امتداداً لأمنها الوطني ، و قد برز تعبير الأمن الوطنى على المستوى السياسي فى العقود الماضية ليشير للأحداث العسكرية على وجه الخصوص والتوازنات الاستراتيجية وصراع القوى ، غير أنه في عصرنا الراهن أصبح يشمل تلك التهديدات الجديدة لحياة الإنسان وهي تهديدات ترتبط بالعلاقة بين الإنسان والطبيعة ذاتها ، مثلا نجد أن في الدول النامية يشكل التصحر في بعض مناطقها خطرا كبيرا على أمنها الوطنى اعظم من الخطر الذى يشكله الغزو العسكري على أرضها ، كما يشكل الانفجار السكانى قلقا كبيرا للحكومات لأنه قد يصل إلى مرحلة تدمير العلاقة بين الإنسان والبيئة التي يسكنها ويمزق هيكلها ونسيجها الاجتماعي ، أما بالنسبة للدول الصناعية المتقدمة فيشكل النضوب السريع المتوقع لاحتياطيات البترول تهديدا للأمن الوطنى أخطر من التهديدات العسكرية التقليدية التي تتعرض لها ، و من الطبيعي أن تتكون هذه التهديدات الجديدة نتيجة الضغط البشري المتزايد على طبيــعة الأرض التى نعيش عليها سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر مثل نقص المواد الغذائية ومصادر الطاقة وتغيرات الأحوال الجوية و كلها تترجم إلى ضغوط اقتصادية على اﻟﻤﺠتمعات البشريـــة مثل التضخم والبطالة ونقص رأس المال ، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى قلق واضطراب اجتماعي يعقبه توتر سياسـي وعدم استقرار عسكري.
يشمل الأمن الوطني أبعاداً متعددة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية، ذات مكونات عديدة. وهي الأبعاد الرئيسية للأمن الوطني. يرتكز الأمن الوطني على قوى متميزة لحمايته، وهي في مفهومها الأولي عسكرية، إلاّ أنه من الممكن أن تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. أن القيم الداخلية للمجتمع، بكافة أنواعها، هي الأولى بالحماية. أما البعد الخارجي فيتصل بتقدير أطماع الدول العظمى والكبرى والقوى الاقليمية في أراضي الدولة ومواردها، ومدى تطابق أو تعارض مصالحها مع الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتحكمه مجموعة من المبادئ الاستراتيجية التي تحدد أولويات المصالح الأمنية. وكذلك البعد الاقتصادي الذى يعني توفير احتياجات الشعب الاساسية والوصول إلى حد الكفاية ثم الرفاهية الاقتصادية كذلك الحفاظ على البعد الاجتماعي الذى يهدف إلى توحيد المجتمع وازالة الانقسامات بين افراده وجماعاته المختلفة ومناهضة خطابات الكراهية والتحريض والاستئصال المجتمعي بما يساعد على تنمية الاحساس بالولاء والانتماء للدولة بين كل افرادها كذلك ضرورة الحفاظ على البعد المعنوي المتعلق بحماية حرية المعتقد الديني والفكري وممارسته وتأمين الدعوة إليه دون تمييز بين معتقد وآخر ولا بين أغلبية وأقلية وأخيرا الحفاظ على البعد البيئي الذى يوفر تأمين البيئة والحفاظ على الموارد والثروات ومحاربة مسببات التلوث التى تهدد الدولة فى الحاضر والمستقبل.
ولا يمكن الادعاء بحماية الأمن القومي إذا لم يتم الحفاظ على البعد السياسي ويتمثل فى الحفاظ على الكيان السياسي للدولة وأليات تداول السلطة وسلميتها دون تزييف لارادة الجماهير ويتمثل في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة. وأصبحت حقوق الإنسان شأنا عالميا وليس محليا وأصبح انتهاكها مبررا مقبولا للتدخل الدولي السياسي والاقتصادي والعسكري. وأصبحت حماية حقوق الإنسان والشفافية والديمقراطية مطالب سياسية تدخل في علاقات المؤسسات الاقتصادية العالمية مع الدول (مثل اتفاقية كوتونو-برنامج الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا وقبلها وثيقة السوق الأوربية التي ربطت المعونات بالحكم الديمقراطي، احترام حقوق الإنسان ومحاربة الفساد والديمقراطية وحرية الصحافة). وظهرت مقاييس جديدة في تصنيف الدول منها مقياس أو مؤشر حرية الشعب. فى الوقت الذى أخذ فيه النظام الدولى يشهد تطورات مهمة فى هيكليته منذ سقوط النظام ثنائى القطبية، بدخول فواعل جدد نظام عالمى يجمع بين عضويتة الدول من ناحية، والعديد من المنظمات والهيئات ذات التأثير القوي فى السياسة الدولية مثل المنظمات الإقليمية والشركات متعددة الجنسية ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين من ناحية أخرى، فإن النظام العالمي الجديد الذي أخذ طابع القطبية الأحادية، أملاً فى أن يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، شهد بروزاً مهماً لدور الأقاليم على حساب قيادة النظام العالمي وأيضاً حساب دور الدولة الوطنية، بحيث أخذت تفاعلات الدول داخل أقاليمها الخاصة تتنافس، وأحياناً، تتفوق على علاقتها بقيادة النظام العالمي ومنظمته (الأمم المتحدة). فلم يعد التهديد هو العدوان العسكري المباشر المعلن بل تطور ليشمل التهديد المحتمل والذي قد يكون مثلا، امتلاك أسلحة دمار شامل أو إيواء جماعات إرهابية أو غيرها. وتطور هذا الحق ليشمل مفهوم الحرب الاستباقية لمنع التهديد المحتمل. ولم يعد هذا الحق يتم عبر الأمم المتحدة حالة الناتو في كوسوفو. الوجود العسكري الأجنبي لقوات بزعامة الولايات المتحدة الامريكية في مواضع عدة من بلدان الخليج العربي ومياهها الإقليمية.
لقد بلغ التطور في مفهوم السيادة درجة جعلت الدولة القومية نفسها مهددة تحت مسميات كثيرة مثل عولمة الاقتصاد ،القومية والاثنية ،الضغوط الدولية من أجل حقوق الإنسان، والاعتبارات فوق القومية كمهددات للدولة القومية. وطبقا لتقرير الدفاع الاستراتيجي للناتو في سنة1998 يجب أن تُعطى الأولوية للاهتمام بالمخاطر التي تؤثر على الاستقرار، مثل انقسام الدول وما ينشأ عنه من نزاعات دولية أو عبر الحدود ومخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة وانتهاك حقوق الإنسان وانتشار أسلحة الدمار الشامل وتصرفات الدول التي لاتدور في فلك الغرب. وعلى عكس فترة الحرب الباردة حيث كان الاهتمام بالدول القوية التي تؤثر في ميزان القوى أضحى الاهتمام الآن بالدول الأضعف أو الدول المنهارة لارتباطها بالإرهاب والهجرة وعدم الاستقرار. وهناك تطور آخر وهو أن التدخل العسكري نفسه أصبح مصحوباً بآليات وإجراءات قضائية، مثل المحاكم الجنائية. تبعاً لتطور المفهومين السابقين تطور مفهوم حق الدفاع عن النفس. أصبح في العالم نتيجة لتلك التطورات قوة أحادية عسكرية ونتيجة لذلك أصبح من حق أميركا أن تحلم بشأن الشرق الأوسط والمناطق الأخرى ساعدها عاملان على ذلك: أولهما لم يعد هناك خوف من أن تقود التوترات الإقليمية إلى مواجهة بين القوى العظمى، وثانيهما لم يعد من الواجب على الولايات المتحدة الدخول في نزاع مع دول تزيدها شراسة. إضافة لذلك برزت تحولات أساسية في المفاهيم وهو باختصار سيادة الدولة على أراضيها وحقها في اتخاذ القرارات والسياسات والتشريعات فوق أراضيها،وحقها في الحصانة من التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية. وشهد مفهوم السيادة استقرارا نسبيا في النظام الدولي -طوال فترة الحرب الباردة-أما في المرحلة الحالية فقد شهد تطورات نوعية إذ تم تدويل السيادة، إذ أصبح على الدولة أن تلبي شروط المجتمع الدولي لتتمتع بالسيادة على أرضها، فتقلصت حدود السيادة السياسية وزاد التدخل الدولي لمبررات كثيرة منها التدخل الإنساني، حقوق الإنسان، حماية الأقليات وغيرها وتنامى دور المنظمات غير الحكومية. لقد بات التدخل إجباريا على الدول عبر المنظمة الدولية أو حتى خارج مظلتها، كما حدث من حلف الناتو في كوسوفو. بل وتم وضع دول ذات سيادة تحت الإدارة الدولية مثلما حدث في كوسوفو وتيمور الشرقية اللتين وضعتا تحت إدارة دولية انتقالية.
إنَّ مجتمعات دول العالم تتميز ببعض الخصائص؛ حيث التطور الداخلي فيها لم يجرِ بشكل طبيعي نتيجة السيطرة الاستعمارية؛ كما أن هناك عناصر متداخلة ومتناقضة ومتجاورة مع عناصر أخرى؛ ووجود أشكال وأنماط متنوعة للإنتاج والطبقات والشرائح الاجتماعية؛ مع تعدد القيم وتناقضها وتداخلها؛ وتعدد الايديولوجيات وعدم وضوحها وتحددها؛ وعدم استقرار البناء الاجتماعي والسياسي؛ والنزعة العسكرية والسلطوية القمعية؛ ووجود مظاهر الانشقاق وتعدد التناقضات والخلافات في البناء الاجتماعي. في ظل حالة عدم الاستقرار في الأوضاع السياسية التي أدت إلى تشوهات في المؤشرات الاقتصادية الأهمية النسبية للإنفاق على المتطلبات العسكرية والأمنية، وتبوؤ الأنشطة الاستهلاكية والخدمية مراتب متقدمة في مجال الإنفاق الاستثماري الخاص، فضلاً عن العوامل الخارجية التي أخذت بالعمل على تغييب الهوية الوطنية واستبدال ثقافات غربية بالوعي القومي، سيأخذ هذا التراجع الذي تشهده البلدان العربية بالاستمرار مع الزمن، وسيقود إلى فقدان السيادة على مستوى الدولة، وتراجع مؤشرات التنمية.
والديمقراطية اليوم وخصوصا خارج المجتمعات التي نشأت فيها يحتاج لمقاربة جديدة تؤسس على الواقع لا على الخطاب ،والواقع أن الديمقراطية تحولت إلى أنظمة حكم وشعارات فضفاضة إن كانت تتضمن مفردات الديمقراطية الحقيقية وتعبًر عن ثقافة الديمقراطية في بعض المجتمعات إلا أنها في مجتمعات أخرى تعبر عن ألتوق إلى التغيير ورفض الاستبداد والقمع والسعي للحياة الكريمة بغض النظر إن كان النظام القائم أو المراد الوصول إليه مُهيكل حسب النظرية الديمقراطية. كل الأنظمة والمجتمعات تقريبا تقول بالديمقراطية،إما بوصف نفسها بالأنظمة الديمقراطية أو بأنها تريد أن تكون ديمقراطية،ولكن على مستوى الواقع القائم نجد أن أوجه التشابه بين هذه الأنظمة التي تقول بأنها ديمقراطية اقل بكثير من أوجه الاختلاف فيما يتعلق بشكل النظام وآلية إدارته وطبيعة الثقافة السائدة فيه.إن المدقق بواقع المشهد الديمقراطي في المجتمعات العربية يلمس أن الجانب المؤسساتي الشكلي للسلطة ووجود انتخابات ودستور ومجلس تشريعي ومنظومات قانونية تتحدث عن الحقوق والواجبات والخطاب السياسي المنمَّق بشعارات الديمقراطية ، لهما الغلبة في توصيف المشهد بالديمقراطي أكثر من توفر ثقافة الديمقراطية ومن انعكاس الديمقراطية على الحياة الكريمة للمواطنين.
وإذا حاولنا توظيف المعطيات المذكورة في مجال العلاقة مع الديمقراطية يتبين أن تلك العلاقة وجب أن تكون علاقة تكييف، أي عملية استيعاب وملائمة، مما يقتضي فهماً لمقاصدها وآلياتها، و جهدا يتم بموجبه تهيئة الظروف الملائمة لها في داخل مجتمعاتنا. لعل الإشكالات التي تعترضنا عن الديمقراطية بمفهومها التاريخي، و تجلياتها على الواقع المعاش، و ما يترتب عن تطبيقاتها الموضوعية من أوضاع سياسية و انعكاسات اقتصادية واجتماعية، هل ان مفهوم الديمقراطية يرتبط بالحرية والتعددية الحزبية والمؤسسات التي يتم من خلالها تطبيق القرار السياسي، التي يتوفر عليها مجتمع ما، و بالتالي يتم تصنيف المجتمعات إلى ديمقراطية و غير ديمقراطية حسب كثرة أحزابها ودرجة توفرها على تلك المؤسسات، أو أن الديمقراطية ترتبط بالحالة التي يعيشها أفراد مجتمع ما من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بغض النظر عن المؤسسات التي تنتج هذه الحالة، أو القوى الفاعلة فيها، وهل الديمقراطية تعبير فعلي عن سيادة الشعب، و بالتالي يمكن الحكم على مجتمع ما أنه ديمقراطي من خلال مسائلة أفراده، و بالنظر إلى الأوضاع التي يعيشونها في جميع مناحي حياتهم.