انغمرت بالعمل بوقت مبكر حيث تنقلت من بائع للصحف والمجلات ومن ثم بائع للمثلجات المتجول ثم في معمل لصناعتها كما انتقلت للعمل في معمل المشن للمشروبات الغازية الى جانب العمل في البناء مع اقربائي من الاسطوات والخلفات.،

بعد ذلك عملت في معمل الألمنيوم عبد الحميد عبد المجيد الصفار في بغداد الجديدة، كعامل ميكانيك، وهنا وجدت عالما آخر تماما أنسجم مع طموحاتي. ولابد من الإشارة الى انني حظيت بعناية خاصة من قبل العمال النقابيين لما لاحظوه عليً من نضج يفوق عمري وسعة اطلاعي وجرأتي، وبعد فترة وجيزة اطمأنوا لي فقاموا بإيصال جريدة طريق الشعب السرية لي، حينها لا يمكن وصف مشاعري، إذ أنه كان خليطا بين الزهو والثقة والتحدي، وهنا لا بد من الإشارة الى أن مرحلة ما قبل عملي في المعمل كانت مفعمة بصداقات حميمة يستهويها الأدب والشعر والمسرح والموسيقى وارتباطا بصعود الحركة الثقافية وبروز مدارس ايديولوجية متنوعة. كانت  المقاهي آنذاك تعج بالنقاشات الحادة في مختلف المواضيع الفكرية والفلسفية كان كل هذا يستهوينا نحن الشباب، وهنا لا بد من الرجوع قليلاً الى مرحلة نشأتي الأولى على يد والدي العامل الذي عشق الشيوعيين وعبد الكريم قاسم كغيره من فقراء شعبنا وكان من المشاركين في مسيرة الأول من أيار عام 1959 وكان حريصا  على اصطحابنا انا واخي لحضور حفل وضع حجر الأساس من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم لملعب الشعب الدولي بتاريخ 19 تموز 1962 والذي يتألف من ملعب أولمبي كبير وملعب كرة السلة والمسبح وملاعب تدريب، ثم التوجه لافتتاح قناة الجيش.

بعد عام 1968 مجيء البعث للسلطة سعوا الى تأسيس موقع قدم لهم في معملنا والمعامل الأخرى المجاورة في منطقة كم الارمن والقريبة من معسكر الرشيد. وقد اسسوا لجان نقابية هزيلة من شخصيات غير جديرة، حيث كانوا هؤلاء مستعدين لبيع ضمائرهم لمن يدفع أكثر، ولا تهمهم مصالح العمال اطلاقا. كان الكثير منا يعرف تاريخ جرائمهم في عام 1963 المشؤوم حيث لازالت طرية وفي الاذهان.

إن انغماري بالعمل النقابي كان مبكراً وكنت مندفعا من أجل تقديم الخدمات للعمال. وفي غمرة التحضيرات لانتخابات نقابة الميكانيك، تصاعد نشاطنا إذ قمنا بتشكيل نقابة ظل أخذت على عاتقها مقاومة محاولات اللجان النقابية السلطوية البعثية بكل بسالة، وذلك من خلال إيضاح الحقيقة للعمال وتبني الدفاع عن مصالحهم الحقيقية وكان العمال يثقون ثقة عالية بنا، وكان يتلخص دورنا بتعرية أكاذيب اللجنة النقابية السلطوية ووعودها الزائفة ونعمل على تقوية معنويات العمال الذين كانوا يتعرضون للابتزاز والتهديد، ولا يتسع المجال هنا لذكر تفاصيل الأحداث التي رافقت التحضيرات للانتخابات، في هذا السياق ُطلب تسمية ممثلين للقائمة وحدة العمال التي كان يرأسها المناضل النقابي المعروف صادق الفلاحي حينها قدمت اسمي  إلا ان هذا الطلب رفض بسبب كوني لم ابلغ السن القانوني، على كل الأحوال واصلنا العمل والتحضيرات مع العمال ومن بينهم الشهيد عبد الكريم أحمد أبو شروق ، حيث تم استئجار شقة في شارع الكفاح في الطابق الثالث  لتكون مقرا للحملة الانتخابية، ومن هناك كتبت وارسلت  مذكرات الاحتجاج  للجهات الإقليمية والدولية وسلمت لبعض السفارات في بغداد مشيرة الى الانتهاكات التي كانت تمارسها أجهزة السلطة الأمنية حيث مارسوا مختلف الضغوط لتخويفنا وعدم فسح المجال لنا لمواصلة الحملة الانتخابية،  كانوا خائفين بالرغم من انهم في هرم السلطة لانهم يعرفون مدى شعبيتنا بين أوساط العمال.

لقد تكللت جهودنا بالنجاح وحصدت قائمة وحدة العمال اغلب الأصوات وسط مفاجأة وذهول قادة البعث من أمثال فاضل بدن سكرتير الاتحاد العام للنقابات وغيره من أزلام النظام من رؤساء وأعضاء اللجان النقابية السلطوية المزيفة إلا أنهم مارسوا تزوير النتائج وفوزوا قائمتهم بالتزكية وتوجهوا لاحقاً الى حملة اعتقالات مسعورة طالت العديد من العمال النقابيين الحقيقيين ومن بينهم الشهيد البطل عبد الكريم احمد أبو شروق الذي كان المثل الأعلى في التضحية ونكرات الذات.

شخصيا اعتبر هذه المرحلة من المراحل المهمة في حياتي لإنها ساهمت في صقل شخصيتي ودفعتني للانغمار في طريق الكفاح من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية ، ويمكنني القول بأني بدأت نقابياً  ومن ثم صرت شيوعيا لأني ادركت ان الحزب الشيوعي هو المدافع الأمين عن مصالح الشعب والوطن، ولا زالت عبارة رفيقنا الخالد فهد حاضرة والتي تقول: (كنت وطنيا وعندما أصبحت شيوعيا ازددت حبا لوطني).

 هذه الحلقة الاخيرة، بسبب عدم استلامي اي معلومات عن عمالنا النقابيين من بلادنا خلال الفترة الاخيرة، لهذا توقفت حتى حصولي على تلك المعلومات.مع شكري وتقديري لكل من كتب لي.

 

عرض مقالات: