لقد رشفنا الثراء المعرفي وقيمة الكلمة الحرة الصادقة من مدرسة فهد وسلام عادل النضالية في خمسينيات القرن الماضي عن مفهوم الرأسمالية الجشعة وفلسفة الماركسية و(علمها) كارل ماركس واستذكرت مقولته اللاذعة ( الرأسمالية ستحول الحياة إلى عملية ركض متواصل لينسحق فيها تحت الحشود من يتوقف ليلتقط أنفاسهُ ) ، وربما لقيتُ ضالتي وأنا في شارع المتنبي في بغداد الحبيبة واقتنيت هذا الكتاب المثير بسيمياء عنوانه "الاغتيال الاقتصادي للأمم لجون بيركينز" والتهمت صفحاتهِ ال272 بشغف وترقب ، وهو ترجمة مصطفى الطياني وعاطف معتمد سنة 2019 دار الرافدين للنشر والتوزيع .

موجز وصف الكتاب : عبارة عن مذكرات قرصان اقتصادي دولي يقصد به المؤلف ديكينز صندوق النقد الدولي وهو مواطن أمريكي وخبير اقتصادي ومستشار استراتيجي ويحكي تجربته لهذه الوظيفة بأسلوب فضائحي بكشف اعترافات الإمبراطورية الأمريكية وربيبتها البنك الدولي ضمن حديثه عن الأسلوب القديم في الاستحواذ والاستعمار للدول النامية وتسمى دول العالم الثالث حيث لجأت الدول القديمة ( بريطانيا وفرنسا ) والاستعمار مقدرات الأمم ومنابع الطاقة ،حين أستخفت بها وسائل الأعلام تلك القوى الناعمة والخفية بأنها أساليب مستهجنة ومفضوحة ومعيبة لذا نهجت الولايات المتحدة نهجا شيطانيا مختلفا هو ما يعرف باللبرالية الحديثة في سياسة الاحتواء الاقتصادي في استخدام المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تقديم مساعدات مالية كقروض في بناء البنى التحتية والفوقية لهذه الدول مقابل أن تقوم الشركات الأمريكية بتنفيذ المشروعات الاستثمارية الكبرى في الدول (المستدينة) مثل محطات الطاقة والمطارات وشبكات الطرق والاتصالات ومسألة وقت حين تتراكم الفوائد وتكون ثقيلة على الدول المستدينة السداد وهنا تدخل الولايات المتحدة في تقديم المساعدات المالية مقابل أنشاء قواعد عسكرية على أراضي هذه الدول أو لتمرير قرارات معينة في مجلس الأمن الدولي أو اصطلاحات داخلية كمنظومة الطاقة أو خصخصة القطاع العام والنتيجة الكارثية : خسران الدول المستدينة والرابحة الولايات المتحدة الأمريكية وصندوق النهب الدولي  (كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم لجون بيركينز ) .

صندوق النقد الدولي هو وكالة متخصصة من وكالات منظومة الأمم المتحدة ، أنشيء بموجب معاهدة دولية عام 1944 للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي ، ويقع مقر الصندوق في واشنطن العاصمة ، ويديرهُ أعضاؤهُ الذين يمثلون جميع بلدان العالم تقريباً بعددهم البالغ 189 بلد ، وأهداف الصندوق -( المفترض )- يشمل تشجيع التعاون الدولي في الميدان النقدي وتيسير التجارة الدولية والعمل على استقرار سعر الصرف وتدعيم الثقة بين المصارف العالمية ، ومصادر أمواله من اشتراكات تلك الدول بشكل حصص نفعية ربحية من نسب الفوائد المضافة على القروض الدولية ( الموقع الرسمي لصندوق النقد الدولي - بالعربية بتصرف )

الشروط التعسفية لصندوق النقد الدولي في الإقراض!؟

وسوف أستعرض نموذج العراق كدولة مستدينة والعجز في الميزانية هو الذي دفع العراق لأحضان صندوق النقد الدولي والرضوخ لشروطها التعسفية والموجعة بحجة انخفاض سعر البرميل من النفط الخام إلى أقل من 40 دولار منذ 2011 والسنوات اللاحقة وافق الصندوق على إقراض العراق 4-5 مليار دولار وعلى مدى ثلاث سنوات وبهذه الشروط:

- تسديد كل المستحقات المتأخرة لشركات النفط الأجنبية العاملة في العراق منذ 2016

- مدة القرض على مدى ثلاث سنوات.

- وتشمل شروط الاصطلاحات الاقتصادية في العراق، التي تشمل زيادة في الضرائب والرسوم الكمركية ورسوم الكهرباء والرقابة المصرفية في مكافحة الفساد الإداري والمالي وغسيل الأموال.

وضعت الحكومة وهي تحت ضغط شروط الصندوق بظهور (التداعيات) التالية:

1- فتنحو إلى التقشف وفرض الضرائب التي تلهب الأسعار والتي تقود إلى الفوضى والإرباك المجتمعي والاقتصادي.

2- خفض دعم السلع التي كانت مدعومة بنسب كبيرة والذي كان من تداعيات هذا الشرط هو التحرش بخبز المواطن فرفع الدعم عن المخابز حيث وصل إلى 100% بدل أن كان يأخذ ثمان صمونات بالألف دينار عراقي اخذ يحصل على أربع فقط.

3- تحرير أسعار الوقود بأنواعه البنزين والنفط الأبيض والأسود والغاز السائل..

4- زيادة أسعار الخدمات المدنية في مقدمتها المياه والكهرباء والاتصالات تمهيداُ لتحريرها بالكامل، وبيع أصول الدولة وتطبيق برنامج الخصخصة في أغلب المجالات الخدمية كخصخصة الكهرباء والماء ومجاري الصرف الصحي.

5- فرض ضريبة قيمة مضافة 15% على أسعار السلع والخدمات.

6- الضغط على قانون الخدمة المدنية الذي يتم من خلاله الاستغناء عن مئات الآلاف من العاملين بالجهاز الإداري للدولة.

7- تعويم العملة المحلية*: بدل أن تنصح في معالجة الأسباب التي أدت إلى حدوث العجز في الميزانية فهو يلجأ إلى أخبث الطرق الذي هو تعويم العملة المحلية ، أو معالجة الاقتصاد الأحادي الريعي المعتمد على بيع النفط بنسبة 97% ودون أن يقدم دراسة مستفيضة أو يشجع على طلب تلك الدراسات التنموية في النهوض بالقطاعات الاقتصادية كالزراعة والصناعة والسياحة ، ولم نجد خطة صادقة لدى صندوق النقد الدولي لزيادة أنتاج صادرات البلاد التي تعاني من مشاكل وأزمات مالية واقتصادية وتحسب إيرادات البلاد من النقد الأجنبي ، ولم نلمس خطة في محاربة الفساد والفقر والبطالة ، ولم نسمع من أصحاب قرار الصندوق عن خطورة عدم فصل موازنة الدولة والموازنات الشخصية المصرفية في البنوك الخارجية ، ولا تطرقت إلى كوارث وألاعيب البنك المركزي في عملية  " مزاد بيع العملة " المفضوحة من تحت عباءة أصحاب المصارف الأهلية وبعض من الحكومة في تبييض المليارات بشكلٍ علني وإخراج العملة الصعبة ولو على حساب غطائها النقدي لموجودات البنك المركزي .

8- وأن هذا العجز وهدر المال العام والعشوائية في البرامج الاقتصادية لا يمكن أن نعلقها على شماعة الصندوق الدولي بقدر ما تفرض الضرورة المكاشفة الواقعية والحقيقية في السياسات الحكومية الخاطئة وسوء الإدارة هي التي دفعت الحكومة إلى لجوئها  لصندوق النقد الدولي ، والحرب الداعشية الظلامية حتماً تبدو حرباً استنزافية أحرقت اليابس والأخضر بأرقام مليارية مرعبة سوء ، وكان لسنة 2011 و2013 وانخفاض سعر البرميل إلى أقل من 40 دولار ، وحتماً يرجع السبب إلى نكوصات الحكومة في الإدارة المالية وغياب التخطيط ولا ننسى أن الذي سيدفع فاتورة هذه العثرات هو المواطن ، والكارثة أن الخروج من أخطبوط

9-الأرتهان للاستيراد ، الاقتصاد الريعي ، التلاعب بمصير الاحتياط النقدي ، غياب الضوابط الضريبية والكمركية على البضائع المستوردة ، عدم خضوع المنافذ الحدودية و بعض المطارات إلى سلطة الحكومة المركزية ، قلة مساهمة القطاعين الصناعي والزراعي في عملية التنمية  ، ربما تكون نسبة مساهمة الصناعة 1% والزراعة 3% ، غياب العامل الاستثماري في البلاد عموماُ ، البيروقراطية والمحسوبية والمنسوبية والفساد الإداري والمالي ، ارتفاع مؤشرات التضخم النقدي بسبب الكساد الاقتصادي والبطالة والفقر ، الإرث الثقيل من النظام البائد في اقتصاد منهك غارق في حروب عبثية ومديونيات ثقيلة للجارة الكويت مما أوقع العراق تحت البند السابع ذلك الثقب الأسود الذي أبتلع المليارات من أموال الشعب العراقي الذي لا ناقة له ولا جمل ، وغياب الولاء الوطني وتجيرهُ للولاء الكتلوي والفئوي والحزبي الذي كان ضحيته الاقتصاد العراقي الذي يشكل ديمومة من الأزمات على المواطن العراقي .؟!

الحالة المتردية للاقتصاد العراقي لعقدين عجاف

- وصول نسبة الإغراق في نظام السوق ل 95% التي أصابت الصناعات الداخلية بالشلل التام للقطاعين الخاص والعام، كما وأدت سياسة السوق المفتوحة إلى أغراق العراق بسلع رخيصة ومبتذلة كمالية وربما الطامة الكبرى تكون مسرطنة وملوّثة، طالما يفتقد المستهلك ثقافة السوق وأتباعه هوساً شرائيا.

- انخفاض النقد الأجنبي لموجودات البنك المركزي الذي يعتبر غطاء للعملة المحلية.

- ان البلاد دولة ريعية وتبقى رهينة الريع الطبيعي ، وتختفي فيها الأنشطة الاقتصادية المساهمة في مداخيل الميزانية ، ومن عيوب الاقتصاد الريعي امتلاك الدولة فوائض من رأس المال تحاول البيروقراطية الاقتصادية أن تجعل أساليب الأنفاق العام تحت هذه الظروف الملتوية ، وبالتالي تؤدي إلى نتائج عكسية تعوق عملية تقدم وتطور النظام الاقتصادي والاجتماعي ، وكارثة الاقتصاد الريعي أنها تضخُ الأموال الطائلة وتستعملها الحكومة ( كمخدر ) لامتصاص غضب الشارع ، بينما وجههُ الآخر يؤدي إلى تشجيع الاستيراد وطرد العملة الصعبة التي حصلت عليها الحكومات من النفط ، وتتعرض الدولة الريعية إلى اضطرابات اقتصادية ما دامت متصلة مشيمياً بالسوق العالمية ، وخير مثال: هبوط سعر البرميل من النفط الخام عالمياً من 110 دولار للبرميل الواحد إلى أقل من 41 دولار ، ولم يكن سلبيات الاقتصاد الأحادي سياسية واقتصادية واجتماعية بل شملت ( أخلاقيات ) العمل في أنتشار الإتكالية وتضخم الجهاز الإداري المؤطر بالبيروقراطية  وعلى الأغلب تولي دكتاتوريات وراثية كمتا هو الحال في دول الخليج للسيطرة الأسرية على الثروة .

- ظاهرة غسيل الأموال Mony Laudering الشائعة واليومية في مزاد العملة للبنك المركزي ، أن الاصطلاح عصري بديل للاقتصاد الخفي أو الاقتصاديات السوداء أو اقتصاديات الظل ، فهذه الأموال الغير مشروعة المكتسبة من الرشوة والاختلاس والغش التجاري وتزوير النقود ومكافئات أنشطة الجاسوسية والسرقة ونهب المال العام وتسهيل الدعارة وتهريب المخدرات وتهريب النفط وتهريب الآثار وتهريب الأطفال والاتجار بالأعضاء البشرية وريعية نوادي القمار وتصنيع النباتات المخدرة واختطاف واحتجاز الأشخاص ، تخلط بأموال مشروعة لإخفاء مصدرها الحرام والخروج من المساءلة القانونية بعد تظليل الجهات الأمنية .

ما الحل إذاً؟؟؟                   

ليس هناك حل حقيقي أو عصاً سحرية في معالجة ما لمشكلة هذا الاقتصاد المريض سريرياً لأنها بمجملهِا قضية أخلاقية وخيوط اللعبة بيد دول الجوار أيران وتركيا والسعودية وديناميكية أمريكا ، وللأسف الشديد أن هذه المنظومة الأخلاقية قد خربها المحتل الأمريكي المتغطرس والعدواني ، ويجب عدم الاستهانة بهذه الظواهر الاقتصادية المجتمعية والمهزوزة والخاضعة اليوم إلى نظام الكتروني رقمي فائق السرعة في أتصال تلك المافيات العراقية والإقليمية بل والدولية ضمن شبكة عنكبوتية بمساعدة الديمقراطية الأمريكية أن هذه المافيات المليارية المرعبة محمية من قبل (بعض) اصحاب القرار السياسي او ما يسمون بجحوش السلطة  ----!!!؟؟؟ ، وهذه العشوائية الاقتصادية والتخطيط الغير مدروس والغير مبرمج أو ممنهج حتى حسب نظريات سوق (عربية) اشتراكية رشيدة أو حميدة مما أدى إلى فوضى الأمن الداخلي والخارجي وفقدان الثقة بين الجمهور والحكومة مما سهل اختراق أرض الوطن من قبل عصابات ظلامية عابرة للحدود والتي دفع الشعب العراقي فواتيرها دما ومالا وخبزا ومديونية والتي أفضل من قال فيها سيد البلغاء الأمام علي { --- اللهم أعوذ بك من هم الدين وغلبة الرجال } ، وأن تطوير الاقتصاد العراقي بكافة قطاعاته الإنتاجية والخدمية مرهونة بتفكيك الاقتصاد الأحادي أو الريعي ، وإشاعة ثقافة الولاء للوطن لا للانتماء الفئوي والكتلوي ----

*تعويم النقد المحلي: هو جعل سعر الصرف محرراً بالكامل عن سلطة الدولة والبنك المركزي، ويتم إقراره تلقائياً في سوق العملات من خلال ألية العرض والطلب، وهو ألعن شرط مأساوي حين يكون النقد تحت رحمة حيتان المضاربين الجشعين والذي سوف يؤثر سلباً على قيمة الموجودات النقدية في البنك المركزي والنتيجة الكارثية الفقر والبطالة والغلاء الفاحش.

هوامش

سمير شعبان/جريمة تبييض الأموال 2016/

صندوق النقد الدولي وفاتورة الارتهان

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

في تموز2024

عرض مقالات: