في يوم 14 تموز 1958 ، قاد عبدالكريم قاسم ومجموعة من الضباط الاحرار حركة وطنية لتؤسس النظام الجمهوري في البلاد وليُشَكِّل بذلك انعطافة مهمة في تاريخ العراق. فثورة 1958 أنهت النظام الملكي في العراق وبدأت دولة جمهورية. وقد حظيت على تأييد شعبي كبير مما يدلل على حالة السخط على النظام الملكي. ورغم مرور كل هذه السنين الطويلة مازال الجدل يدور حولها بين مؤيد ومختلف. قامت ثورة تموز 1958، ورفعت شعار القضاء على الظلم السياسي والاجتماعي، وأطاحت بنظام الحكم الفاسد، وإقامة نظام حكم يتمتع في ظله الشعب بحرياته، ويمارس المواطن حقوقه، وحصل كل هذا وكان الشهيد عبد الكريم قاسم يخطط لكتابة دستور دائم واستفتاء الشعب عليه واجراء انتخابات خلال عامين لولا تكالب القوى الرجعية في الداخل والقوميين العرب، وقيامهم بانقلاب دموي في 8 شباط الاسود عام 1963 الذي قضى على كل شيء تنويري تحرري وادخل العراق في نفق مظلم حتى يومنا هذا.
وبدات حركة الجيش العراقي في 14 تموز 1958 كأنقلاب عسكري وسرعان ما تحوّلت إلى ثورة تدعمّها الجماهير الشعبية ، فقد تم تحقيق أنجازات كبيرة لمصلحة الشعب لا يمكن أن يجادل أي أنسان موضوعي بأهميتها. اسقاط النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري، وتبني سياسة عدم الإنحياز، وإلغاء جميع المعاهدات الاستعمارية الجائرة المخلة بالاستقلال الوطني، والخروج من الأحلاف العسكرية (حلف بغداد)، وتحقيق الإستقلال السياسي التام والسيادة الوطنية الكاملة، وتحرير الاقتصاد والعملة العراقية من الكتلة الإسترلينية، وإلغاء حكم العشائر، والنظام الاقطاعي، وتحرير الملايين من الفلاحين الفقراء من سيطرة الإقطاعيين بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتحرير الأراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية الاحتكارية بإصدار قانون رقم 80، ازدهار الصناعة، بناء عشرات الأحياء السكنية للفقراء، والتفاف الجماهير حول قيادة الثورة وحماية منجزاتها…وغيرها والقائمة تطول. وتختلف ثورة تموز عن المرحلة التي سبقتها والتي جاءت بعدها ، إذ تكمن في كل من: ماهياتها وغائيتها الاجتصادية والسياسية ؛ القاعدة الاجتماعية المستفيدة ؛ نزعتها التحررية ؛ برنامجها وغائياته ؛ وفي طبيعة الطبقة التي قادتها ؛ وفي الافق التاريخي لها. انعكست في مضامين برنامجيتها العملية الطموحة التي طالت العراق: كجغرافية سياسية ؛ وطبقات اجتماعية ؛ وتكوينات قومية وأثنية. وكان للمنجز من الأهداف، عناوين كبيرة ، تحلَّت بهما سلطة 14 تموز وهو : التوزيع العادل النسبي للثروة الوطنية من خلال الاهتمام بذوي الدخول المحدودة والفئات الاجتماعية الفقيرة ؛ الهوية الوطنية العراقية ؛ النظام الجمهوري ؛ تكافؤ الفرص للمكونات الاجتماعية والقضاء على المذهبية السياسية. أن ثورة 14 تموز وطنية وشعبية بامتياز، وليست انقلابا عسكريا، كما يحلو للبعض تسميتها. شارك بتفجيرها الضباط الأحرار بالتنسيق مع جبهة الاتحاد الوطني، ونالت التأييد الكامل من الشعب العراقي والشعب العربي وجميع شعوب العالم الحرّة. من منجزات الرابع عشر من تموز تفجير الوعي السياسي لدى الجماهير الشعبية الواسعة التي كانت محرومة من المساهمة العلنية في النشاطات السياسية، وبذلك رفع مستوى الوعي لدى الجماهير بحقوقها وواجباتها الوطنية، وانغمرت في نشاطات الأحزاب السياسية. إطلاق السجناء السياسيين، وحرية التعبير والتفكير والعمل النقابي والسياسي والثقافي..الخ. لقد حررت ثورة 14 تموز 1958 سياسة العراق الخارجية من كل سلطان وتوجيه خارجي، وأصبحت لا تستهدف إلا مصلحة العراق ومصلحة العرب والحرية والسلام . نشر التعليم. لقد أزداد عدد المدارس والمعاهد العلمية وعدد الطلبة والمدرسين خلال أربع سنوات ونصف السنة من عمر الثورة إلى ضعف ما حققه النظام الملكي خلال 38 عاماً. إضافة إلى إرسال آلاف الطلبة إلى الخارج في بعثات دراسية في مختلف المجالات العلمية اللازمة لبناء الركائز الإقتصادية وإدارتها وإدامتها وخاصة المرافق النفطية. إبرام التعاون الإقتصادي مع الإتحاد السوفيتي وبموجبه أنشأ العراق الكثير من المؤسسات الإقتصادية، مثل مد الخط العريض بغداد-بصرة.، معمل الزجاج في الرمادي، معمل الأدوية في سامراء، معمل الجلود في الكوفة، معمل التعليب والألبان في كربلاء وغيرها الكثير.
وكان كل من نوري السعيد وعبد الاله أصرا على التعامل مع معارضيهم بالقتل والتنكيل ، (تنفيذا لرغبات بريطانيا، وبالتالي فان عمليات إعدام المعارضين وتعليق جثثهم في الأماكن العامة، أدمت قلوب معارضي النظام الملكي بالحقد والرغبة في الانتقام لأرواح رموز وطنية حتى لم تكن تعمل اصلا على ازالة النظام الملكي. ان اصرار نوري السعيد على منع الأحزاب المعارضة من الوصول الى البرلمان عن طريق الانتخابات حتى وان كانت بسيطة، وذلك عن طريق تزوير الانتخابات او الغائها اذا تطلب الامر. أما بالنسبة للنظام الجمهوري، فقد إختلف الناس بين مؤيد له ومعارض ، وكان الغالبية في البداية مؤيدون له ، وقلة ناقمة عليه، لكن قسم من المواقف كانت في احيان كثيرة عاطفية. الزعيم عبد الكريم قاسم بدأ بداية جيدة عندما اعتمد مبدأ الكفاءة في اختيار وزارته الاولى، وفي هامش الحرية الذي وفره للأحزاب والصحافة. واكتسب شعبية كبيرة غير مسبوقة، وخاصة من قبل الفقراء والكادحين، الذين اعتبروه منهم ومحققا لأمانيهم. ولكن من مهازل الزمن القبيح نرى اليوم حنين بقايا البعث وقنواتهم الفضائية الى الحقبة الملكية على ان حسب زعمهم ثورة تموز فتحت باب الانقلابات ونسوا انهم من أمتهن مسلسل الأنقلابات الدموية في العراق وتاريخه الأسود ما بعد ثورة 14 تموز.
لقد فرضت ثورة 14 تموز 1958 وضعا جديدا كانت الحاجة فيه لاول مرة الى مقاربات فكرية جديدة تنتج مواقف سياسية مناسبة للأحداث غير المسبوقة، اذ رغم الحاجة الدائمة لمناضلين اصحاب قدرات تنظيمية لكن الاولوية اصبحت للافكار سيما وان العمل شبه العلني فرض على القادة الذين عملوا طويلا في السر، الظهور واتخاذ مواقف سياسية لاحداث مستجدة ومتغيرة. واِنعكس التطور على صعيد النفط العراقي بضرب شركات النفط بمصادرة الأراضي التي كانت في حوزة الشـركات الأجنبية بعد إصدار القانون 80 لعام 1961 ، الذي يعني تنفيذه في نهاية المطاف : (تجريد الشركات من حقوق التنقيب المعطاة لها بموجب اِتفاقية النفط) مما أعاد الحقوق الوطنية التاريخية العراقية في جميع الأراضي . وقامت الشركات بالاِعتماد على الأنظمة المجاورة للعراق في زيادة إنتاج النفط من الدول المجاورة كونها تمثل وحدة اِحتكارية متحدة بغية عدم زيادة الإنتاج النفطي من العراق ، وبالتالي التوقف عن زيادة العائدات المالية الحكومية في العراق بهدف إحداث اِرباكات سياسية واِقتصادية في الدولة العراقية . وكذلك اِنسحبت الدولة العراقية من حلف بغداد العسكري والسياسي . وخرجت من منطقة الخضوع للجنيه الإسترليني البريطاني. وحررت الثورة النقد العراقي من الكتلة الإسترلينية، وهذه من أهم الخطوات في تحرير الاقتصاد العراقي من قيود التبعية البريطانية، فبدلاً من الاعتماد على الإسترليني ومشكلاته في تذبذب قيمته في أسواق العملة كرصيد احتياطي للدينار العراقي، اعتمدت العملة العراقية في عهد الثورة على تنوّع الأرصدة، من الذهب والدولار وعملات صعبة أخرى، ما قوّى قيمة الدينار، خصوصا في فترات تعويم الاسترليني الذي انخفض إلى نصف قيمة الدينار العراقي.