ظل يوم 14 تموز لعقود عديدة في ذاكرة العراقيين رمزاً للوحدة الوطنية وحدثاً فارقاً في تأريخ العراق الحديث. وقد استمرت محاولات النظام منذ الايام الاولى لمجلس الحكم المحلي لمحوه من الذاكرة الوطنية حتى تجرأت أخيرا على حذفه حتى من لائحة العطل الرسمية التي اقرها البرلمان لعام 2024 م. صوت الاحتجاج كان خفيضا، باستثناء قلة من الكتاب والمثقفين الحريصين على ذكرى الثورة ونضالات القوى الوطنية التي أسهمت في تحقيق استقلال العراق استقلالا ناجزاً، ولاذ بالصمت أو أفصح عن ترحيبه بالقرار -علناً أو تلميحاً- عدد كبير من المثقفين، وهذه ظاهرة تستدعي التامل والبحث في حيثياتها.
دون عناء يمكن تفسير سر عداء النخب الإسلاموية الحاكمة وكراهيتهم للثورة، فكما اشار عدد من الكتاب ان الإسلام السياسي الحاكم يكشف بوضوح عن نزعته الطبقية والأيديولوجية في العداء للجمهورية، انهم كطبقة أوليغاركية نهابة يمثلون وريثاً شرعياً للاقطاع فكراً، ولعدد منهم نسباً ايضاً، إلى جانب التناقض الحاد بين ظلامية فكرهم الرجعي وتشريعات الثورة التحررية، (عبر محسن الحكيم بعد اجهاض الثورة عن فرح وشماتة معتبراً ذلك عاقبة الهية.) لذا لم يكن مستغرباً ان النظام الحاكم قد بدأ وفي السنين الأولى من (العملية السياسية) محاولاته الحثيثة لإلغاء قانون الأحوال المدنية بدل تطويره، ولحسن الحظ قوبل ذلك باعتراضات جمة لانه سيكون منافياً لابسط مبادئ الديمقراطية التي كانوا هم وسلطة الاحتلال يعدوننا بها.
وقد تكرر الامر بتقديم مشروع ما يسمى بالقانون الجعفري بديلاً عن قانون الاحوال المدنية وهو الآخر لم يمر لنفس الاسباب اضافة إلى اعتراض المكونات الاخرى لأبعاده الطائفيه الواضحة.
حكومة الكاظمي والتى تعتبر أكثر ميلاً للغرب وأبعد - ولو ظاهرياً - عن الإسلام السياسي نجحت في خطوة اولى لتغييب ذكرى الثورة حين قدمت وباقتراح من وزير ثقافتها ( وهو مثقف لبرالي له مكانته في الوسط الثقافي) قانوناً للبرلمان باعتبار 3 تشرين عيدا وطنياً، وهو اليوم الذي أوصت فيه بريطانيا بادخال العراق عضواً في عصبة الامم مشترطة التزام العراق باتفاقية 1930 المجحفة بحق البلد، والتي عدتها القوى الوطنية ارتهانا للاستعمار البريطاني واذلالاً للعراق ( كما عبرت عن ذلك بالإجماع الشخصيات الوطنية التي دعاها الملك إلى الاجتماع لأخذ مشورتهم ومن بينهم جعفر ابو التمن، ياسين الهاشمي، محمد مهدي الجواهري، كامل الجادرجي وغيرهم. ) ولمعرفة تفاصيل تلك الاتفاقية سيئة الصيت يمكن الرجوع إلى بنودها المنشورة على الانترنيت.
الانضمام إلى عصبة الامم وإنهاء الانتداب شكليا مع بقاء الهيمنة البريطانية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً لا يعد استقلالاً ناجزاً، ولم يكن بالحدث الكبير في تاريخ العراق، بدليل انه لا يشغل ولو حيزاً صغيراً في ذاكرة المواطن العراقي، على عكس يوم ١٤ تموز الذي لم تستطع حتى الحكومات المتعاقبة والتي اجهضت الثورة محوه من ذاكرة الشعب. رغم ذلك فقد نشطت القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي لتسويق (العيد الوطني الجديد) وتمجيد رجال الملكية والمتخادمين مع الاستعمار على انهم رجال دولة حققوا استقلال البلاد بالحنكة والخبرة السياسية، ويعد هذا إهانة للقوى الوطنية الممثلة للشعب آنذاك، واستهانة بمعارضتها لتلك المعاهدة وبنضالها من اجل الاستقلال الحقيقي.
واليوم يتقدم النظام الحاكم بخطوة أبعد بالغاء 14 تموز من قائمة العطل الرسمية بغية تغيير الهوية الثقافية وترسيخ مفاهيم جديده تتناغم مع أجندته الرجعية.
سلسلة محاولات النظام الإسلاموي الحاكم لمحو الذاكرة الوطنية لم تكن لتمر هكذا بهدوء وصمت لولا شيوع الخطاب العدمي الذي اخترق العقل الجمعي في حملة لتشويه وعي المواطن العراقي بعد 2003، وقد شارك في ذلك نخبه من المثقفين والإعلاميين واليوتوبرز ومدمني الفيس بوك متأثرين باجتياح الإعلام المعولم والتطور السريع لتكنولوجيا الاتصالات.
يصف محمد عابد الجابري استجابة العرب للعولمة: (إما بالهروب إلى الخلف أو الهروب إلى أمام) الفريق الاول هارب إلى الخلف يبحث في كهوف الماضي البعيد عن مدينة فاضلة، ليصنع هوية ساكنة غير متحركة مع الزمن، معزولة بجدار منيع عن ثقافات الأمم، تلك تندرج ضمن الهويات القاتلة بتعبير أمين معلوف. هذا الفريق بالطبع يرفض اي خروج من كهف الماضي البعيد ويعلن معاداته لأي منعطفات في تاريخنا الحديث وخاصة التحرري منها كثورة تموز.
أما الفريق الثاني الهارب إلى أمام فانه يتماهى بالذوبان - لا بالتفاعل - مع كل ما تأتي به العولمة (معظم المفكرين العرب والاجانب يفضلون مصطلح الامركة بدل العولمة)، بل تتعالى دعوات هذا الفريق للطلاق البائن مع ثقافتنا وتاريخنا و منظومتنا القيمية عملًا - كما يدعون - بمبدأ الشك الديكارتي واعادة قراءة التاريخ القديم والحديث، ولكن بات واضحاً ان اعادة قراءة التاريخ بالنسبة لهم لا لتنقيته من مفاهيم وافكار وقيم باليه، وانما لشيطنة الذات والامعان في جلدها، الامر الذي أسهم في تخليق شخصية وطنيه مهزوزة تعاني من عقدة نقص وفي حالة تيه وتشتت. وقد كان لثورة تموز النصيب الأكبر من المراجعة المزعومة. بدأ الأمر بالتساؤل (هل 14 تموز انقلاب ام ثورة)، السؤال الذي بات يتردد وبتواتر محموم في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب.
لا ضير من طرح الأسئلة اذا كان الهدف منها البحث عن الحقيقة، الا ان أصحاب تلك الحملة لهم إجاباتهم المسبقة ليس بنفي صفة الثورة عن 14 تموز فقط بل الادعاء بانه أول انقلاب عسكري فتح الباب لسلسلة من الانقلابات، وتحميل الثورة مسؤولية تعاقب الدكتاتوريات الدموية، متجاهلين حقيقة ان اول انقلاب في العالم العربي و ليس في العراق فقط هو انقلاب بكر صدقي عام 1936 ثم تلاه انقلاب رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وان الاعدامات و قمع الاحتجاجات واعتقال المعارضين لم يستحدث في الأنظمة الجمهورية، بل كان قائماً و مستمراً ابان الملكية أيضاً، نعم كان أقل قسوه لأن النظام كان فتياً غير مستقر ولم تزل أجهزته القمعية ضعيفة نسبياً مقارنة بانظمة ما بعد الثورة التي اصبحت أكثر ثراء و استقراراً وخاصة بعد تأميم النفط. ولم يتوقفوا ايضاً من تكرار اتهام الثورة بالدموية، لمقتل عدد من أفراد العائله المالكه الذي لم يكن بتوجيه أو بايدي رجال الثورة بل للأسف الشديد لرعونة البعض من الحشود الغاضبة، ويتناسى أصحاب الحملة الدعائية ضد الثورة ان الثورة الفرنسية مثلًا قد راح ضحيتها عشرات الآلاف، بل لم يسلم حتى قادتها من المقصلة (روبسبير، دانتون، جان جاك مارا) وأعدم فيها حتى عالم الكيمياء المشهور لافوازييه.
الحديث عن منجزات الثورة في عمرها القصير والانفكاك من التحالفات الاستعمارية وتحقيق الاستقلال وما إلى ذلك لا يلقى آذاناً لدى هذا الفريق، فالامر بالنسبة لهم محسوماً.
ليس مصادفة أن تجري تلك النقاشات بعد الأحتلال الامريكي مباشرة، فرغم ما يدعيه البعض ان حرية التعبير الجديده اتاحت طرح مثل هذه الأسئلة، فأن ما يفند هذا الزعم إن الانظمة السابقة وخاصة نظام البعث الدكتاتوري المعادي للثورة كان سيرحب بنفي صفة الثورة عن 14تموز، ومع ذلك لم تكن محاولات التشكيك شائعة حتى في المجال الاكاديمي. ترافقت محاولات التشكيك هذه مع شيوع الجدل في توصيف الوجود الامريكي، هل هو احتلال أم تحرير!!، ثم تطور الأمر إلى اعادة الاعتبار للاستعمار البريطاني وتمجيد الشخصيات المتخادمة معه، وهنا يكمن سر هذه الحملة بعد الاحتلال الأمريكى تحديداً. أدرك أو لم يدرك من شارك فيها كان الهدف هو تهيئة الشعب العراقي للترحيب بالاحتلال والايحاء بان اميركا كسابقتها بريطانيا سنصل معها إلى فردوس الديمقراطية (فلا تفوتنا الفرصة كما ضيعناها بطرد الاستعمار البريطاني).
وهكذا بات واضحاً تلاقي الفريق الماضوي مع الفريق المتعولم العدمي في محاولات اعادة فرمتة الذاكرة الشعبية ومحو ذكرى ثورة تموز كخطوة في سلسلة لم تنته لتبديد الهوية الوطنية. كلا الفريقين أصوليان، الأول يدعونا إلى مدينته الفاضلة ومرجعيته ماضٍ متخيّل مجيد، يجب أن نرحل اليه ونتوطن فيه إلى الابد. والثاني يدعونا إلى مدينته الفاضلة أيضاً ومرجعيته مستقبل متخيّل سعيد لايمكننا الوصول اليه إلا بالخلاص من إرثنا (الثوري المرضي) في مناهضة الاستعمار.