كانت الحيرة تلف الطغمة الحاكمة في العراق عشية الانتخابات البرلمانية الاخيرة. جراء انعدام وجود الشخصية المناسبة لترأسها السلطة التنفيذية، كما صادف ذلك اصابة نتائج تلك الانتخابات بعطب فاضح، تجلى بتفجر مفخخة سميت " بالثلث المعطل " ، الذي ادى الى فوضى سياسية صاخبة قلبت الموازين في العملية السياسي المعلولة اصلاً ، وارست على قاعدة عارية مجردة واقفة على راسها، وكانت تفتقرحتى لورقة التوت كي تستر مسخرة لعبة تبادل الادور، التي تمثلت باعتبار الفائز فاشلاً والعكس صحيحاً.. في ذلك المناخ الملبد بالكمائن السياسية المتناحرة .. طُرح اسم السيد محمد السوداني. بعد ان فشلت كافة اسماء الكتل المتنفذة عن اداء هذا الدور.. وكان هذا الاسم يتميّز عن غيره من شخوص ذات المنظومة الحاكمة الفاشلة.. مع ان نسبة قبوله او رفضة كانت تؤشر الى الميل لصالحه عندما يذكر اسمه في الوسط الشعبي .
لقد استهل السيد السوداني عمله كرئيس لمجلس الوزراء بقوله: " انا مرشح الإطار التنسيقي".. وان حكومته هي حكومة الاطار. واتساقاً مع هذه التصريحات التي جاء في وسائل الاعلام، قول أحد قادة " الإطار التنسيقي ": (بأن السوداني عبارة عن مدير في سلطتنا ولا يمكنه التصرف من دون موافقتنا). ومن ذلك الحين وللآن لم يصدر من السيد السوداني اعتراضا او توضيح، بل غالباً ما كان يؤكد بانه مرشح الإطار التنسيقي، ويعزز ذلك عملياً بمواضبته على حضور اجتماعات الإطار.. وإذا ما دققنا في ايقاع عمله سنجده ونسمعه قد اخذ يعزف على وتر تنفيذ القطاع الخدمي. يتخلله نغم الميل الى التغاضي عن الاوليات الملّحة، التي تفرضها ما تقتضيه معيشة الناس المباشرة. فبدلاً من ان يهتم بالبطالة المتسعة والسكن غير اللائق بكرامة المواطنين كأولوية ملّحة ، ذهب ليبني مجسّرات. التي مع ضرورتها فهي لا تغني من فقر ولا تشبع من جوع.. وذلك ما يوحي الى انه يحاول ان يضع لبنات اولية لتأسيس مجداً له. بشواخص وصروح تنسب لفترة حكمه على مر الزمن.. ولكي يمر هذا التوجه، ترك الامور السياسية والاقتصادية الاخرى وبخاصة التي تتعلق بالمنهج الفكري والسياسي للاطار الى ما يراد منه تفيذه.
اين سنتلمس المعطيات الاكثر دلالة على ذلك؟ فثمة قرارات اتخذت قد تغني المتابع معرفة. تمثلت بتغاضيه عن " عملية السلك " للقوانين الجدلية في مطبخ البرلمان الحالي الخالي من المعارضة. علماً ان مشاريع تلك القوانين لم تتوفر لها مقبولية ولم تُمرر في البرلمانات السابقة، لكونها مخالفة للدستور ولحقوق الانسان وللشرائع الدولية. مثل قانون حرية الرأي المجحف، وكذلك تعطيل اتفاق ائتلاف ادارة الدولة، الذي تشكلت حكومته بموجبه، وحتى محاولات المساس بقانون الاحوال الشخصية لسنة 1959. واخيراً وليس اخراً قانون العطل الرسمية الشنيع الذي الغى العيد الوطني للدولة المتمثل بـ " 14 تموز 1958 " عيد تاسيس الجمهورية العراقية.
وياتي ابرام اتفاقيات اقتصادية وامنية مع بعض دول الجوار الذي من المؤكد لن يحظى بقبول العراقيين لو عرض عليهم، لكونه لم يقدم الضمانات الضرورية لمصالح البلاد.. من جملته، الربط السككي ، والحدود ، والمياه.. زد على ذلك صمته المخجل حيال عمليات نهب عقارات الدولة التي لم تسلم منها حتى عقارات المواطنين الشخصية الوراثية، واخر ما تجلت بها التناحرات بين الرئيس والاطار التنسيقي هو عشوائية اعداد قوائم الموازنة التي قلصت من المخصصات الاستثمارية للمحافظات. وإذا ما دل ذلك على شيء فيدل على تقليم اظافر النهب مما اثار البرلمان ذات الاغلبية الاطارية فاعاد هذه القوائم المالية الى الحكومة.
ان كل ما ذكرناه انفاً يبدو انه يتم وفقاً لعملية مقايضة سياسية بين السيد السوداني وبين الاوساط التي كلفته بحكم شروطها، مما جعله يعوم على سطح ما يعتمل في منظومة الحكم. ولا يخفى انه كله شعور بتحركه في بؤرة صراع مستتر متعدد الاطراف والمنصات. اذ انه يقف على ناصية طريقه بغية الوصول الى غايته، وهي بناء كيان سياسي خاص به منافس بهدف البقاء بمصبه لدورة ثانية، في مواجهة قواعد اللعبة التي وضعته على راس السلطة التنفيذية . مدققاً بحساباته كما هو ملموس، فارزاً بين متطلبات بناء كيانه السياسي الخاص وبين دوام وجوده على منصة الرجل التنفيذي الاول، التي لها ثمن ينبغي ان يدفعه، ذلك الذي يقطع الطريق عليه، حيث لا مناص من الافلات عن شروط اتفاق الوصول للمنصب. مما يدفع بالضرورة الى حالة زراعة بلا حرث ولا مناخ مناسب. وهو المهندس الزراعي العارف قبل غيره بمواسم قطف الثمار.. ان الرؤية لحد الان تكتنفها العتمة المفتعلة مع انها لا تمتلك القدرة على الاستمرار طويلاً .