إنَّ قيـام أنظمـة الحكـم الديمقراطيـة هـو ضـمان لتحقيـق الحـد الأدنـى مـن العدالـة الاجتماعية والسياسية ، فالديمقراطيـة معتقـد فكـري ومـنهج سـلوكي ونظـام حيـاتي يشـمل بنطاقـه كـل اوجـه النشـاط الانسـاني ، وعليـه فـان التطبيـق الفعلـي للديمقراطيـة لـيس مشـروطا بمشـاركة المجتمـع فـي العمليـة السياسـية ، بـل بتـوفر المقومـات الاجتماعيـة والاقتصـادية التـي تضـمن للمجتمع القدرة على ممارسة باقي حقوقه وحرياته بشكل اوفى وأكمل ، امـا الديمقراطيـة كنظـام حكـــم فتكـــون ســـلطة اصـــدار القـــوانين والتشـــريعات مـــن حـــق الشـــعب وهـــذه هـــي الديمقراطيـــة التمثيلية. و مازالت التجربة العراقية حديثة هشّة وهي عرضة للأخطاء، لكن ما ينبغي ان لاتتعرض له هو النكسة التي تجعل من النظام السياسي الجديد فرصة لفئات على حساب اخرى ، ولأحزاب على حساب المواطنين، ولأفراد على حساب مجتمع ، ومناسبة عاجلة لكسب المنافع الفردية والحزبية .
وإذا كان مجلس رئاسة الجمهورية يقدم نموذج وحدة الدولة ووحدة المسؤولية الاخلاقية تجاه سعادة المواطنين في العراق ويقدم في الوقت نفسه القدرة على ان يكون مرجعية سياسية دستورية تعمل على تخفيف الخصائص التي ظهرت في العملية السياسية الجديدة وانقاص تأثيرها الى الحد الاقصى مثل المحاصصة والفساد والاستهانة بالعدالة والقانون وتوزيع الوظائف على الاقارب والنقص الهائل بالشعور بالمسؤولية المهنية والاخلاقية في الوظائف التي تفشت فيها الرشوة بشكل كبير والبطالة ونقص الخدمات والتخلف المريع الذي يجد العراق فيه نفسه وهو بلد غني.والتحول المنشود يفترض أن يقترن برؤية عقلانية لمصالح المجتمع والغالبية العظمى من السكان التي عانت الفاقة والحصار والقمع والحروب في العقود الماضية والتي يفترض أن تُؤخَذ بنظر الاعتبار في البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الراهن والقادم في البلاد. لهذا فمن يُفكر في إقامة اقتصاد حر في البلاد، أن يفكر بالعدالة الاجتماعية بالحدود التي تساهم في تعبئة الموارد والطاقات البشرية وتخلق الإنسجام النسبي والسلم الاجتماعي في المجتمع للتعجيل في عملية التنمية، إذ بدون ذلك يستحيل علينا التقدم بالطريق المنشود صوب بناء اقتصاد متقدم وبنية اجتماعية جديدة وفعالة. ويمكن أن تتوفر العدالة الاجتماعية النسبية في ما يطلق عليه بالاقتصاد الحر الاجتماعي، إنها الصيغة المعقولة والمقبولة لبلادنا في الفترة القادمة التي ربما تستوجب منا عقدين من السنين. إنَّ الدستور، والقوانين التي صدرت، على الكثير من المجالات الاقتصادية، في السياسة الاقتصادية، وإدارة أموال واقتصاد العراق، والمسئوليات والصلاحيات. إلاّ أنه لم يتم ربط الموازنة بخطط التنمية ولا مؤشرات الاقتصاد الكلي، وانصبت الإجراءات الاقتصادية، بدافع التوسع الانتخابي، على تضخيم عدد العاملين في الدولة، بما في ذلك القطاعات الإنتاجية، مما أدت إلى فشل في هذه القطاعات، وفي نفس الوقت تدني إنتاجية الموظف العراقي. ومن المهم بمكان أن يحصل نوع من التوازن المناسب في توزيع الدخل القومي بين الحصة التي توجه للأجور والرواتب والمدخولات الشخصية الناجمة عن العمل وبين الحصة التي تذهب كأرباح لأصحاب رؤوس الأموال وأرباب العمل أولاً وبين تلك الحصة التي تستهلك من قبل المجموعة الأخيرة وتلك التي تذهب لأغراض الاستثمار أو أعادة توظيف الأرباح في العملية الاقتصادية الإنتاجية. كما لا بد من تأمين تطور عقلاني في إعادة توزيع الدخل القومي، الضرائب وغيرها، أي حصة الاستهلاك الاجتماعي بين القطاعات الخدمية المختلفة وعلى المناطق المختلفة وبين طبقات وفئات المجتمع. إنها عملية ليست سهلة ولكنها ضرورية لضمان التطور الفعال والمعجل في العراق.
وكل إنسان ينبغي أن يأخذ صفة في الحياة بشكل يتلائم مع شخصيته الإنسانية، وأن يسود أبناء المجتمع لون واحد من التعامل، وتهيئة الفرص الكاملة للمشاركة في جميع الأصعدة والاستفادة من خيرات البلاد، وهذه العدالة ليست في خصوص التوزيع العادل للثروة فحسب، بل يشمل المساواة أمام القانون والأمور الحقوقية، ومحاربة التمييز العنصري والطبقية، فالعدالة الاجتماعية، هي إعطاء البشر حقوقهم في كل مجالات الحياة وعدم التمايز بينهم، بأي لون من ألوان التمايز، ومعاملتهم على أساس العدل، الذي هو أساس العدالة، أي إعطاء كل ذي حق حقه، وفق الحاجة والكفاءة والقدرة. ويعني مفهوم العدالة الاجتماعية، إعادة الحق السليب إلى صاحبه ورفع الظلم والإرهاب عن الطبقات الكادحة وتحقيق المساواة أمام القانون لكل أفراد المجتمع. فالعدالة الاجتماعية، هي الحرص على تحقيق أعلى مستوى من الإنصاف، حيث يزول كل شكل من أشكال الظلم الاجتماعي، وردم الفوارق بين طبقات المجتمع، والمسؤول عن ذلك هو وجود حكومة عادلة تعطي الروح للاجتماع الإنساني وتُجَسِّد العدل. واذا كان العمل هو الاساس الاول للحيازة والتملك، فان الاختلافات الطبيعية في قدرات الناس العقلية والبدنية والفرص الاجتماعية تؤدي الى التباين في انتاجية كل فرد، وبالتالي تتباين مستويات الملكية والثروة والغنى بين الافراد. لكن انشغال الدولة بامور اخرى، ربما من بينها الاهمال، ادى الى عدم الوفاء بهذه الالتزامات، وظهور فئة كبيرة من الناس تعيش دون مستوى الفقر. وهذه حالة لا يمكن القبول بها، لا انسانيا ولا اخلاقيا ولا دستوريا، ويتعين العمل على معالجتها وفقا للدستور، ذلك لان “الامور الاخرى” مهما كانت لا يمكن ان تُسوِّغ اهمال حق الانسان في العدالة والحياة الطيبة والمستوى الكريم من العيش. فالدولة اذن هي نتاج اللغة وهذه الفكرة مستمدة اصلا من هوبز الذي يعتبر الدولة نتاج اللغة ولذلك لاتُنشيء الحيوانات دولة. وهوبز ، قبل لوك، اعطى للعقل مكانة سياسية حين قيَّد الملك بالعقل والضمير المهني في زمن بدأ فيه نقد الحكم المطلق .وفي كتابه (الليفيتان) ينتقد هوبز الخرافات وعلم الشياطين والرقى والتعاويذ التي تعتمد عليها تجارة الكهنوت. ففي الفصل الاخير من الكتاب والمعنون(مملكة الظلمات) التي يضعها بدلا عن (مملكة الرب) التي يدعيها رجال الاكليروس والوزراء والموظفون الكبار والملك الذي يتسلم التاج من الاسقف(1) ، ويشن هوبز حملته ضد ثقافة الخوف التي ينشرها رجال الدين وتشكل مصدر ارباحهم، ويعتبر الخوف من القوى الخفية هو الدين، منتقدا منظومة التعاليم الكهنوتية التي تشد الانسان الى مملكة الظلمات الدولة نتاج التعبير ولذلك تكون حرية التعبير هي الدولة بمعنى آخر ، ولاتوجد في الدكتاتورية غير لغة واحدة بصوت واحد، بينما تتمتع الديمقراطية بلغة واحدة ولكن بعدة اصوات، ولايُضبط ايقاع هذه الاصوات المتعددة سوى حكم القانون . فالتنظيم القضائي احد اهم سمات الدولة الديمقراطية. واذا كانت الدكتاتورية تختصر الامة في شخص والدولة في سلطة هذا الشخص فان الديمقراطية تسيّد الامة من خلال سيادة الدولة عبر العقد الاجتماعي الذي يحق ، كما يقول روسو، الارادة العامة. والدسـتور العراقـي لسـنة ٢٠٠٥ نـص علـى ان (العـراق بلـد متعـدد القوميـات والاديـان والمـذاهب وهــو عضــو مؤســس وفعــال فــي جامعــة الــدول العربيــة ، وملتــزم بميثاقــها ، وهــو جـزء مــن العــالم . ان المشــاركة الايجابيــة للاقليــات فــي الحيــاة العامــة هــي عنصــر اســاس فــي المجتمـع السـلمي والـديمقراطي ، وهـذا اساسـه هـو التعـايش والقبـول بوجـود الاخـر جنبـاً الـى جنـب دون السـعي لالغائـه سـواءً كـان الاخـر فـردا او حزبـاً او طائفـة.
لقد تضمن دستور 2005 مفهوم العدالة الاجتماعية في المادتين (30) التي نصت في الفقرة اولا ( تكفل الدولة للفرد والأسرة وبخاصة الطفل والمراءة الضمان الاجتماعي والصحي والمقومات الاساسية للعيش في حياة حرة وكريمة تؤمن لهم الدخل المناسب والسكن الملائم ) الفقرة ثانيا (تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة او المرض او العجز عن العمل او التشرد او اليُتِم او البطالة وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم وينظم ذلك بقانون. والمادة (31) التي نصت على ( لكل عراقي الحق في الرعاية الصحية وتُعنى الدولة بالصحة العامة وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بأنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية ) وبعد الاحتلال ومنذ صدور الدستور لم تفي الحكومات المعاقبة بالتزاماتها الواردة في المادتين اعلاه وبقية المواد ذات العلاقة بالعدالة الاجتماعية كالمواد (14 و15 و16 و32 و33) اللاتي تحدثت عن تكافؤ الفرص لجميع العراقيين والمساواة امام القانون والحق لكل فرد في الحياة والحرية والامن ورعاية المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة وحق العيش في ظروف بيئية سليمة . العدالة موضوع وغاية الافراد والجماعات وهؤلاء هم الذين يتشكل منهم المجتمع ويتكون، والدولة باعتبارها تنظيم سياسي قانوني، تكون اولى مهماتها بحسن ادارة هذا المجتمع على اسس العدالة الاجتماعية، والحفاظ علية، وتنظيم اموره، خاصة فيما يتعلق بتحقيق مصالح ومطالب الافراد والجماعات، فتحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب دوراً نشيطا وفعالاً وايجابياً من قبل الدولة.
العدالة الاجتماعية هي مبدأ سامي أكدت عليه السماء والمواثيق القانونية الدولية منها والوطنية، ولهذا أكد عليه دستور العراق في العديد من النصوص بصياغات مختلفة، فالبند السادس من المادة التاسعة عشر تؤكد ان كل فرد يملك الحق في ان يُعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والإدارية، ويضيف البند الثاني من المادة الثانية والعشرون ضرورة ان ينظم القانون العلاقة بين العمال وأصحاب العمل وفق أسس اقتصادية مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية، وكذلك البند ثانياً من المادة الثالثة والعشرون الذي جرى نصه بان لا يجوز نزع الملكية إلاّ لأغراض المنفعة العامة مقابل تعويض عادل، يضاف لما تقدم أن المادة (105) انتهت إلى تأسيس هيأة عامة لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم في المشاركة العادلة في إدارة مؤسسات الدولة الإتحادية المختلفة والبعثات والزمالات الدراسية والوفود والمؤتمرات الإقليمية والدولية، وتتكون من ممثلي الحكومة الإتحادية والأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والمادة (106) التي أوجبت تأسيس هيأة عامة لمراقبة تخصيص الواردات الإتحادية على أن تتكون من خبراء الحكومة الإتحادية والأقاليم والمحافظات، لتضطلع بالمسؤوليات المناطة بها.
——————————————-
اوستن رني-اسس الحكم. ترجمة الدكتور حسن الذنون- المكتبة الاهلية . بغداد ١٩٦٦.الجزء الثاني- ص ٢٠٥