إن اندلاع ثورة 14 تموز 1958 جاء لقضية التحرر الوطني وإنقاذ البلاد من الاستعمار والتخلف، وهذا لم يكن مسالة عابرة او نزوة ضباط يلهثون خلف استلام السلطة والحكم لكي يبرروا سطوتهم واستيلائهم على مقاليد الحكم، بل هو حتمية لصراع ونضال شعبي طويل قام على أرضية من التضحيات الجسام البشرية والمعنوية، وهذا التاريخ يشهد على الانتفاضات والاضرابات والمحاولات العديدة للتغيير وكل ذلك تبلور في التراكم النضالي ونضوج الظروف الموضوعية والذاتية وتهيئة البديل الذي يقوم بالمهمة التاريخية، هذا البديل هو القوات العسكرية العراقية المسلحة، التي كانت تمثل غالبية الطبقات والفئات العراقية وفي مقدمتها شغيلة اليد والفكر، عمال وفلاحون وبرجوازية صغيرة إضافة للجهود الوطنية التي هي جوهر العمل الثوري الذي توج بالنجاح في ليلة 14 تموز 1958، واتضحت شعبية التغيير في نزول الملايين من الشعب بمختلف طبقاته وقومياته وأديانه للمشاركة في النجاح والحفاظ على الثورة من مؤامرة القوى الرجعية وقوى الاستعمار التي كانت تمثلها الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وغيرهما من الدول الرأسمالية التي تعادي قوى التحرر الوطني، وكانت بحق ثورة وطنية جبارة غيرت الكثير من المفاهيم والمعالم في المنطقة وصاغت المفهوم الوطني في إطار من المواقف لمصلحة الشعب والعراقي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولو أحصينا الإنجازات الكبيرة التي حققتها الثورة خلال اربع سنوات لوجدنا مدى عمق وشمولية هذه الإنجازات ، الخروج من حلف بغداد وتحرير العملة العراقية من دائرة الإسترليني والإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على الفقراء والكادحين وقوانين العمل وتأميم الأراضي النفطية التي كانت تسيطر عليها الشركات الاستعمارية والموقف الإيجابي من القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا الوطنية والقومية والعالمية، وبذلك أثارت العداء الشرس من قبل القوى الرجعية والاستعمارية، وجندت قوى الردة التي سعت للإضرار بقضية الشعب الوطنية وكان في مقدمتهم القوى القومية المتطرفة " الجبهة القومية وحزب البعث العراقي" الذي تحجج بالوحدة العربية والقومية العربية وأثبتت بعد ذلك الوقائع التاريخية انهم كانوا الد أعداء الوحدة العربية والوحدة الوطنية، لن نسهب في الحديث عن تلك الأوضاع وما قامت به القوى الرجعية الداخلية والخارجية وفي مقدمتها حزب البعث العراقي والقوى الاستعمارية لأن ما كتب عن تلك المؤامرات والفضائح اللااخلاقية لا تعد ولا تحصى وخير مثال " انقلاب 8 شباط 1963 الدموي" الذي ساهم في نكبة العراق والعراقيين وساعد القوى الاستعمارية والرجعية في التصدي لمنجزات الثورة والالتفاف حولها وإفراغها من محتواها الوطني والشعبي، وخلال تسعة أشهر شهد العراق مسالخ بشرية طالت كل الوطنيين الشرفاء وفي مقدمتهم الشيوعيون الذين ساندوا الثورة وعاضدوها لأنها كانت لمصلحة الكادحين، شغيلة اليد والفكر والفئات الواسعة من أصحاب الدخل الضعيف، وظهرت بوادر المحاولات لطمس اسم ثورة الشعب الوطنية واستبدالها بانقلاب 8 شباط 1963 إلا ان أكثرية الشعب العراقي رفضتها جملة وتفصيلاً، وكان انقلاب 18 تشرين 1963 بقيادة عبد السلام عارف والقوى القومية عبارة عن إقصاء حزب البعث من الحكم وإحكام السيطرة عليه من قبل عبد السلام عارف والبعض من الشخصيات العسكرية و السياسية المعادية لثورة 14 تموز، ولم تجر أي تغييرات جذرية وبقيت الأوضاع السياسية بما فيها معاداة القوى الوطنية والديمقراطية، وامتد ذلك إلى سلطة عبد الرحمن عارف اخ عبد السلام عارف وطوال الفترة تلك كانت الجهود تبذل لطمس اسم ثورة 14 تموز 1958 كونها عيداً وطنياً غير معالم الحكم واقام الجمهورية العراقية وسن دستور أكد فيه على مشاركة الكرد والقوميات الأخرى في الإخاء الوطني، إلا أن ذلك لم ينجح وفشل الأخوان عارف في تبديل العيد الوطني لثورة تموز بانقلاب 8 شباط وانقلاب 18/ تشرين / 1963.
لكن الذي حدث بعد نجاح انقلاب 17 تموز 1968 كان نقطة تحول في تاريخ العراق حيث عاد للسلطة مرة ثانية حزب البعث العراقي بقيادة جديدة في مقدمتها أحمد حسن البكر وصدام حسين والبعض من المشبوهين المعروفين بعدائهم للثورة وارتباطاتهم الخارجية والمعادين المعروفين للقوى الوطنية والديمقراطية، ومنذ اللحظات الأولى شن هذا النظام هجمة شرسة لتمييع جوهر واسم العيد الوطني لثورة 14 تموز 1958 ، وخلال 35 عاما بُذل المستحيل لتحقيق هذا الهدف وجعل العيد الوطني العراقي باسم انقلاب 17 تموز 1968 وحاول جاهداً طمس معالم ثورة تموز وعدم اعتبارها عيداً وطنياً للعراق وإحلال انقلاب 17 تموز 1968 كبديل بعدما جعل ثورة 14 تموز في المرتبة الثانية لكنه فشل في الغائه كعيد وطني خشية من مكانته التاريخية وموقعه في قلوب العراقيين أي انه لم يستطع القفز على الواقع التاريخي والثوري لقيم ثورة 14 تموز ومكانتها في قلوب أكثرية العراقيين، ومع ذلك لم يثن القوى المعادية لثورة تموز وظلت تتحين الفرصة تلو الأخرى لتنجح في مساعيها المعادية للقوى الوطنية العراقية وهو ما تسنى لها بعد 2003 واحتلال العراق ثم سقوط النظام، في البداية حاولت هذه المرة التنظيمات والأحزاب الدينية الإسلامية التي سلمها الاحتلال السلطة إغراق البلاد بالمناسبات الدينية والطائفية على أساس أعياد وطنية لكن المسعى لم ينجح وفشلت جميع الجهود لطمس ثورة تموز وجعلها حدثاً طارئاً أو انقلاباً عسكريا معزولا دون ذكر تضامن ومشاركة اكثرية الشعب العراقي واعتباره عيدا وطنياً للبلاد، المحاولات المستمرة والاحابيل الكثيرة مازالت قيد التنفيذ وهذه المرة اللجوء إلى البرلمان الذي تهيمن عليه الأحزاب والتنظيمات الإسلامية الشيعية وبمساندة حلفاء يكنون لثورة تموز العداء المتجذر في العقلية الرجعية والدينية المتطرفة لثورة تموز لأنها ثورة وطنية خالصة، وفي سعي جديد أحالت الحكومة العراقية مشروع لقانون العطلات الرسمية لسنة 2023 إلى البرلمان العراقي لمناقشته واقراره لكنه في الوقت نفسه لم يتضمن هذا المشروع وضع " ثورة 14 تموز / 1958 " بينما اضيفت اعياداً جديدة للمشروع ولم يذكر اليوم الوطني لجمهورية العراق وهذا ما أثار غضب واستنكار المواطنين العراقيين والقوى الوطنية والديمقراطية وكأنه المخطط القديم قد جدد لغرض تمريره وإقراره من قبل البرلمان العراقي، ويعد ذلك انتقاماً من ثورة 14 تموز التي كانت بحق ثورة وطنية تحررية لأكثرية الشعب العراقي وهي التي اجهضت المخططات الاستعمارية التي كانت تخطط في حلف بغداد والدوائر الامريكية والبريطانية. إن هذا التوجه يخالف ادعاءات حكومة محمد السوداني التي أشار اليها بيان الحزب الشيوعي العراقي في 17 / 5 / 2024 " بهذه الصيغة من حكومة تؤكد أنها تسعى إلى الحلول وإعلاء شأن الهوية الوطنية وتكريم رموزها والاحتفاء بالمناسبات الوطنية" لكن هذا التوجه وهذه الصيغة اهملت بشكل متعمد ثورة 14 تموز 1958 وهو العيد الرئيسي الذي حول العراق من ملكية إلى جمهورية وأسس نظاماً سارت عليه جميع القوى الوطنية واعتبرت رموزه رموزا وطنية مخلصة ومعالمه راسخة في اذهان ليس العراق فحسب انما العالم اجمع.
إن جميع القوى الوطنية والقومية والديمقراطية وأكثرية الشعب العراقي بجميع مكوناته يطالبون " التراجع عن الصيغة الحالية لمشروع قانون العطل الرسمية ومعالجة الثغرات فيه وإعطاء ثورة 14 تموز مكانتها اللائقة بها والمستحقة، والاحتفاء بها كمعلم وطني شامخ"، و على مجلس النواب العراقي ان يعي أن ذلك عبارة عن مساس بقضية الوطن والوطنية، ولهذا عليه عدم المشاركة في جريمة لن يغفر التاريخ الوطني لها.
محاولات لطمس ثورة 14تموز / 1958 التي حررت العراق
- التفاصيل
- مصطفى محمد غريب
- المنبر الحر
- 1153