الإيديولوجية هي ناتج عملية تكوين نسق فكري عام يُفسر الطبيعة والمجتمع والفرد، ويُحدد موقفا فكريا معينا يربط الأفكار في مختلف الميادين. ولسنا هنا في معرض بيان الحاجة الحيوية إلى الايديولوجيا في الاجتماع الانساني، وفي الاجتماع السياسي، وخاصة في المجتمعات الحديثة حيث التنظيم الاجتماعي، ونظام اشتغال الدولة والسلطة، والعلاقات بين الطبقات والفئات الاجتماعية او بين المؤسسات، تقتضيها بما هي فاعلية اجتماعية او اداة من ادوات الدينامية الاجتماعية، فهذا أصبح بديهياً في ميدان علم الاجتماع السياسي وعلم السياسة. كما لسنا في معرض بيان تزايد الفعالية الايديولوجية في المجتمعات الانسانية في عالم اليوم، بنشوء وسائط جديدة لنشر او توزيع الخطاب الايديولوجي في اوساط الرأي العام من اعلام فضائي وانترنيت، ولا في معرض دحض المزاعم الذاهبة إلى زوال الحاجة إلى الايديولوجيا وبيان بطلان تلك الدعوات، وانما يعنينا - في المقام الأول - الحديث في النتائج السلبية التي يمكن ان تنجم عن التمسك بايديولوجيا ما من قبل أن تمارس عليهم تلك الايديولوجيا تأثيرا في الوعي والسلوك فتوجه افعالهم وادراكهم العملي وجهات محددة.
استخدام مفهوم الأيديولوجية كأداة تحليلية يتطلب تعدد مستويات البحث بوصف منطقها الداخلي وحتى ادعاءتها عن نفسها وسماتها الأساسية كجانب معبِّر عن الواقع. و دراسة الأيديولوجيا تتطلب الجمع بين مدخلين محاوِلة الوصول لأنماط عامة بالمفهوم العلمي ومدخل دراسة المنحنى الخاص للظاهرة في تعيينها، أي دراسة الشكل الخاص للعلاقة بين البناء الفوقي والبناء التحتي وهي علاقة جدلية تبادلية التأثير، فكلا البنائين الفوقي والتّحتي يكتسب هويته المتعينة من خلال الآخر آخذاً في عين الاعتبار أن البناء التحتي ليس وجوداً مادياً فحسب بل وجوداً مادياً وحضارياً وفكريا. وتعتبر عملية تحديد العوامل المكونة لأيديولوجية ما مسألة صعبة ولا تخلو من المجازفة ويصبح الأمر أكثر صعوبة عندما يتعلق بالأيديولوجية الأمريكية مثلاّ. وذلك لأن مثل تلك العوامل عادة ما تكون غير واضحة وغالبا ً ما تكون هناك صعوبة في التمييز بين الأسباب ونتائجها ، ومع ذلك فإن أي محاولة لاستكشاف القوى التي ساهمت في صياغة الأيديولوجية السياسية الأمريكية يمكن أن تكون ذات فائدة في تعميق فهمنا لها. ويبدو أن هناك خمسة عوامل رئيسية قد ساهمت بشكل أو بآخر في صياغة وبلورة الأيديولوجية السياسية الأمريكية. مع أن الولايات المتحدة لم تشهد صراعا ً أيديولوجيا ً حادا ً كالذي يميز المجتمعات الأوروبية إلا أن ذلك لا يعني أن السياسة الأمريكية ليست متأثرة بالأيديولوجية . فعلي الرغم من تقارب وجهات النظر بين الاتجاهين الليبرالي والمحافظ حيال معظم القضايا المطروحة إلاّ أن الفترة الأخيرة قد شهدت بعض التباين حيال عدد من القضايا وخاصة ً تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية.
ان الواقع الاجتماعي والطبقي والطائفي والاثني والقبلي والريعي المشوة وانعكاساته السياسية والاقتصادية والفكرية والعقائدية، هو واقع معقد بدرجة شديدة حيث لا يمكن ان نتيقن بان التمسك المطلق بنظرية او ايديولوجية محددة كفيل بان يحقق لنا التحليل الصائب ومن ثم الموقف السياسي او الاجتماعي او الثقافي او الاقتصادي الصائب، ولذلك فعندما ندعوا الى التحرر من قيود الايديولوجيا الجامدة بنصوصها المقدسة كما تم ترويجها في المراحل السابقة وندعوا الى الانفتاح على نتاج العلوم الحديثة وافكار المفكرين ومناهج التحليل المعاصرة المتعددة التي انتجتها عقول قيَّمت التحولات وتابعت المستجدات بعد مرحلة الفلسفات الكبرى او الاحزاب الثورية المناضلة في ظل ظروف القمع والسرية والصراع الدولي الحاد فاننا في ذلك دعوتنا تصب في التحرر من الجمود و التعويم الايديولوجي للايديولوجيات المغلقة على ذاتها او المجترة لنصوصها وهي دعوة نحو الانطلاق في فضاء المناهج الفكرية المتعددة التي تجاهد ايضاّ من اجل تعزيز قيم ومباديء العدالة والحرية والمساواة والديمقراطية، وهذه المباديء هي بمثابة البوصلة الفكرية التي تخدم الانسان كغاية الحركات السياسية وتخدم الاهداف التي يناضل المخلصون من اجل انتقال مجتمعاتهم من اغلال وقيود الواقع الراهن.
والمفكر الإيطالي أنتونيو غرامشي ، ينظر إلى الايديولجية على انها عامل محدد للحس المشترك، وضرورة تاريخية لتنظيم وتوجيه الجماهير. وأكد على قدرة البروليتاريا على تحديد شروط وعيها، منتقداً الطرح الذي يتعامل معها باعتبارها مجرد أداة سلبية وتابعة للأيديولوجيا المهيمنة، أو اعتبار تأثير الأيديولوجيا ذو مسار واحد من الأعلى إلى الأسفل، فالطبقة العاملة ,قادرة على خلق أيديولوجيتها المضادة للأيديولوجيا المهيمِنة؛ وذلك من خلال بناء مؤسساتها الثقافية الخاصة وإنتاج مثقفيها العضويين. معتبراً الهيمنة استراتيجية ضرورية لأي مشروع يهدف لتغيير الهيكلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة. ولا يمكن التخلص من هيمنة الطبقة السائدة، إلاّ عن طريق بناء طليعة ثورية لدى الطبقة الخاضعة أو التابعة قادرة على إنتاج وتشكيل هيمنتها المضادة. ولابد من تبيان مأثرة ماركس بأنه من الفلاسفة القلة الذي مارس العمل النضالي بجانب الفكري دفاعا عن الطبقة العاملة وعمل على تغيير الواقع حسب منظوره الطبقي حيث اكد ضمن مقولاته بان الفلاسفة السابقين عليه قد عملوا على تفسير وتبرير الواقع والدفاع عنه وعن الطبقات المسيطرة فلسفيا واجتماعيا وليس العمل على تغييره، وان المطلوب هو تغيير العالم من خلال القوى الاجتماعية الجديدة التي لها دائما مصلحة في تغيير الواقع نحو اللاطبقية، حيث كان ماركس من المؤمنين بالحتمية التاريخية لمسار البشرية وان هذا المسار الحتمي لابد وان يؤدي إلى المجتمع اللاطبقي وهي رؤية امنت بها الاحزاب العمالية الماركسية في جميع انحاء العالم.
وعلى الصعيد الرأسمالى فقد حاولت الدول الديمقراطية إنقاذ الرأسمالية من مصيرها الحتمى بعد فشلها فى اشباع الحاجات الأساسية للجماهير العريضة واستحدثت صيغة دولة الرعاية الاجتماعية، والتي تضمن تأمينات اجتماعية متعددة للمواطنين الضعفاء اقتصاديا فى مجال البطالة والمرض إلا أن التجربة فشلت للعجز عن تمويل هذه البرامج الاجتماعية المتعددة. وقبيل نهاية القرن العشرين حدثت واقعة كبرى لها دلالتها التاريخية العظمى وهى انهيار الاتحاد السوفيتى بعد فشل النظام السلطوى فى إشباع الحاجات الأساسية للجماهير وفى تحقيق الحد الأدنى من الديمقراطية وحقوق الإنسان. إن قوة أيديولوجيا ما و ضعفها لا يرتبطان بمدى رصانة و تماسك أطروحاتها الفكرية بالمقارنة مع أطروحات الأيديولوجيات الأخرى. إذ مع الإقرار بوجود معايير واضحة لمثل هذه المقارنة فإن الأطروحات الأيديولوجية نفسها تبقى عصية على التوصيف الموضوعي لكونها تمثل قناعات عقدية قبلية ليست موضع بحث أو مقارنة بالنسبة لمن يؤمنون بها. لذلك يصح القول إن أحد أهم شروط عقد مثل هذه المقارنة هو الحياد التام للباحث إزاء الأيديولوجيات المختلفة التي يقارنها فضلا عن رسم منهج واضح يجعله على مسافة متساوية من جميع العقائد والأفكار التي تعتنقها الأيديولوجيات المختلفة و هو أمر صعب التحقق. و عموما فإن مثل هذه المقارنة ستكون ذات طابع نظري بحت. و هي قد تكون ذات قيمة كبيرة من ناحية منهج نقد الأفكار الذي يمثل حقلا معرفيا صعبا. أما المعايير الأساسية الذي يمكن أن تعتمد في مجال تقويم الأداء السياسي الفعلي للأيديولوجيات المختلفة و معرفة مقدار قوتها و حظها من النجاح . أن مصطلح أيديولوجيا يُستخدم في أغلب الأحوال باعتباره سلاحاً سياسياً لإدانة أو انتقاد مجموعة الأفكار والقيم العقائدية المنافسة.
والأحزاب الاشتراكية الجديدة في غرب أوروبا كيّفت وطوّعت أيديولوجيتها من أجل مواكبة العصر، ومجاراة التغيرات المحيطة، فقد وجدت هذه الأحزاب (الإسباني والإيطالي والفرنسي) نفسها في ظل بيئة ديمقراطية فرضت عليها التغيير في أيديولوجيتها ورفض فكرة ديكتاتورية البروليتاريا في ظل دول تتبنى الحرية الفكرية والسياسية، فنلاحظ أن البيئة التي وجدت فيها هذه الأحزاب قد فرضت عليها نوعًا من أنواع التكيف حتى تستطيع الاستمرار، والتطور، والتقدم، ومواكبة الأحداث والوصول الى السلطة. وثبت بالوجه القاطع أن ما رددته العديد من الحركات الإسلامية على أنه ثوابت لا يمكن المساس بها أو الحياد عنها، أنها لم تعد كذلك، وإنما تم تطويعها وإعادة انتاجها من جديد لتتلائم مع الواقع السياسي المتغير، بما يكفل لهم تحقيق مصالحهم الحزبية وتسهيل عملية وصولهم إلى سدة الحكم. أن الحركات الأيديولوجية باختلافها قد تقدم على التنازل عن أيديولوجيتها والتخلي عنها في سبيل وصولها للحكم في حال لم تنجح هذه الحركات بعد تطويعها وتكييفها لأيديولوجيتها في تحقيق أهدافها. وقد لعبت الإيديولوجيات السياسية دوراً رئيسياً في تشكيل التاريخ من خلال الحكومات والحركات السياسية، على غرارالحكم المُطلق – الليبرالية – التيار المحافظ – الاشتراكية.