معلوم وأمر بديهي لذوي التخصص والنخبويين في مجال الصحافة والإعلام فضلا عن السياسة، ما للحديث الموجه إلى جمهرة من الناس باختلاف ثقافاتهم وتعدد ميولهم وانتماءاتهم، من أهمية وتأثير ملموس ومحسوس، ينعكس على قناعاتهم ورضاهم عن المتحدث من عدمه، والأمر سيان فيما لو كان المتحدث سياسيا أو مصلحا أو واعضا أو خطيب منبر. والحكم ذاته ينطبق على كل من يتسلم دفة حديث على منصة، أو يمسك مايكروفونا أمام الكاميرا، فماداموا يتخذون من ألسنتهم أداة وصل وصلة بالمتلقين، عليهم أن يتقيدوا بما يتلفظون وما يصرحون به، من حيث عدم تجاوز المستوى العام لثقافة المتلقين، والتحدث ضمن إطار فهمهم جميعا، وأن يدركوا بالدرجة الأولى أن الوضوح والصراحة والشفافية وعدم المراءات، هي أساس ما هم ماضون فيه من حديث، حينئذٍ يكونون قد أثبتوا مصداقية في الوسيلة، تضمن تحقيقهم الغاية المنشودة وإيصالها إلى المتلقي.
ومما روى لنا التاريخ الحديث في أواسط القرن المنصرم، أنه طُلِب من ونستون تشرشل عندما كان يشغل منصب رئيس الوزراء في حكومة بريطانيا، إبداء الرأي في مشروع لموضوع متنازع عليه بين حزبَي العمال والمحافظين، وعندما انتهى من كتابة الخطاب الذي سيلقيه أمام مجلس النواب، طلب من سكرتيره الخاص أن يبدي رأيه في الخطاب، وبعد أن قرأه الأخير قال لتشرشل:
- الخطاب جميل جدا ياسيدي، ولكني لم أفهم! هل أنت مع أم ضد المشروع؟ فأجاب تشرشل مبتسما:
- هذا هو المطلوب تماما.
وأظن أن تشرشل لم ينفرد في مغزى رده هذا لوحده، فقد سبقه وعاصره وأخلفه وقلده ومشى على خطاه، كثيرون في بلدان العالم، ولاسيما في بلدنا العريق حضارة وشعبا وملوكا وسلاطين وولاة وحكومات، منذ نشأته حتى ساعة إعداد هذا المقال، إذ هم يعتمدون التورية أسلوبا متوارثا في خطاباتهم وتصريحاتهم ومقالاتهم. والتورية هي نوع من الأساليب البلاغية في اللغة العربية، وتقع ضمن (عِلم البديع)، معناها الاصطلاحي هو الإتيان بلفظ له معنيان، معنى قريب ظاهر غير مقصود، ومعنى بعيد خفيّ هو المقصود، والتورية غير مذمومة شرعا -كما جاء- إلا إذا أُريد بها إحقاق باطل أو إبطال حق، إذ تُعد حينها ضربا من التغرير والخداع.
إن في تزاحم الأحداث وتشعباتها التي تشمل مفاصل بلدنا كافة، ومحاولات أكثر من طرف في صنع القرارات المصيرية وبلورتها، والتلاعب في تأثيراتها وآثارها على أبناء البلد -لحساب جهة ما- تتطلب أغلب الأحيان اتباع أسلوب التورية في التصريحات وإبداء الآراء، من قبل المسؤول الأول في البلد أو الناطق عنه، وهذا المطب يستغله جيش مؤدلج ضمن حسابات وهمية مبرمجة وموجهة، بطرق ممنهجة تحت إشراف جهات مغرضة، وهي ما تُسمى (الذباب الإلكتروني) وأراه مصطلحا مستحدثا متوالدا عن مصطلح (الصحافة الصفراء) وهي صحافة غير مهنية، تهدف إلى إثارة الرأي العام ضد الحكومات والزعامات، عبر إشاعة فضائح مفبركة أو مبالغ فيها، أول من أنشأها الناشر والصحفي الأمريكي ويليام راندولف هيرست (1863- 1951) إذ ينتهج في صحفه ومجلاته التسقيط والتشهير بعثرة هنا أو سقطة هناك، بتورية متقنة تدس سموما بين الكلمات والصور المنشورة، وقد سميت بالصحافة الصفراء لأنها كانت تُطبع على أوراق صفراء رخيصة الثمن.
ومع تعدد الشبكات في الفضاء الإلكتروني، وسهولة بث ما مطلوب نشره، وسرعة وصوله إلى المواطن، تتزايد أفانين الجيش الإلكتروني، وتتطور أسلحته في المواجهة والمجابهة، ولا يُنكر تأثيره على شرائح عديدة من أبناء البلد، وتغيير قناعاتهم وآرائهم في سياسة قادة الدولة. لكن هناك مقولة لإبراهام لنكولن (الرئيس السادس عشر للولايات الأمريكية) تصح في الأزمان والأماكن والظروف كلها، إذ يقول: "يمكنك أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وكل الناس بعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت".