أن أهمية الدراسة والبحث عن الابعاد التاريخية للفكر السياسي المعاصر وإشكالية الفكر السياسي الماركسي في البلدان العربية تنطوي على معرفة كيفية نشوء وتطور الفكر السياسي وطبيعة ممارسته في الواقع والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية المؤثرة فيه ، ولابد من الاشارة الى ان الفكر السياسي كموضوعة مستقلة تفتقر للمصادر في المكتبة العربية التقدمية مما يشكل صعوبة بالغة للباحثين والدارسين في هذا المضمار، إلا اذا تم تناوله بمعناه الواسع وعلاقته بالعلوم الاجتماعية والإنسانية الاخرى والتغيرات الجذرية الهامة التي احدثتها الثورة المعلوماتية على الفكر السياسي وخروجه من الاطار الضيق للايدولوجيا وتأثره في علم اللسانيات الاكيولوجيا وانثروبولوجيا واستبمولوجيا وغيرهما من العلوم الاجتماعية والإنسانية الاخرى ، وفي بحثنا هذا نبتغي معرفة الجذور التاريخية للفكر الماركسي والشيوعي في البلدان العربية وماهي معوقات انتشاره وأسباب الانحسار الذي يعانيه، وهل الفكر الماركسي مقطوع الجذور عن تاريخ المنطقة العربية كما تحاول القوى الرجعية والسلفية تصويره ، ام هو امتداد لثورة الزنج والقرامطة والمعتزلة والبابكية مع اختلاف الظروف والزمان والمكان لنشوء هذه الحركات الثورية الجنينية .
ان قراءتنا للأبعاد التاريخية لا تعني قراءة مجردة لماضوية التاريخ بقدر ما نسعى لتسليط الاضواء على اهم المحطات التاريخية المفصلية لمعرفة واقعنا الحاضر عبر الربط الجدلي مع الماضي، لان حركة التاريخ هي عملية متواصل على الرغم من انها لا تسير بخط مستقيم واحد.
ونسعى عبر هذا المبحث للوصول الى البعد التاريخي للصراع الطبقي الاجتماعي القائم في بلادنا والبلدان العربية الاخرى رغم اختلاف وتتفاوت التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي بين هذه البلدان لكن هناك الكثير من المقاربات والإشكالات المشتركة التي من خلالها يتم استشفاف المستقبل.
ان القراءة الماركسية للبعد التاريخي للفكر السياسي تمكننا من فهم طبيعة الصراع الفكري القائم وأسسه التاريخية وترسم لنا لوحة عن طبيعة القوى الاجتماعية المتصارعة والأسس التاريخية لهذا الصراع الاجتماعي، انها تعني الربط الجدلي بين النظرية والممارسة والواقع لرسم خطاب فكري سياسي ماركسي قادر على أقناع الجماهير واستنهاضها للأحداث التغير الشامل، ومن اول القضايا التي يتطلب البحث فيها:
اولا: البعد التاريخي للفكر السياسي
يذهب العديد من علماء الاجتماع في اوربا والعالم بما فيهم علماء اجتماع من منطقتنا العربية الى اعتبار البدايات الاولى للفكر السياسي هي في العهد الاغريقي، حيث نشأ على تخوم الحضارة اليونانية قبل ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ويستند هؤلاء على كتاب الباحث جورج سباين (تاريخ النظرية السياسية- بخمسة اجزاء) وكتاب الباحث جان توشار (تاريخ الافكار السياسية) وتأكيد الباحث الايطالي (موسكا) في كتابه (تاريخ المذاهب السياسية) على ان الحضارة الشرقية لم تعرف فكرا سياسيا بسب انعدام الحرية في هذه الحضارات. وكانت هذه البحوث والكتابات هي الأساس النظري للتصورالاحادي الجانب للعديد من علماء الاجتماع الغربيين ونظرائهم من عالم الاجتماع والآثار في العالم ومنهم توينبي وسبنجلر Spengler اللذان تنكرا لوجود الفكر السياسي في الشرق باسم الخاصية الثقافية وقانون تطور الحياة في ارجاء العالم وطبيعة العلاقة بين الفرد (الحرية) والدولة الاستبدادية في الشرق التي هي المانع الحقيقي لوجود الفكر السياسي وقد تصدى لهم هنري فرانكفورت بالقول (ولو نحن سلمنا بان البلاد التي تنشأ فيها الحضارة تؤثر في شكلها فيجب ان نعارض قاعدة سبنجلر التي تقترب من الحتمية الاقتصادية. ذلك لأنه بتفسيره الانسجام بين كل حضارة وبيئتها الطبيعية على هذا النمط ينكر حرية الروح الانسانية التي تثبتها على خير وجه) (1). وهذا ما أكده ايضا الباحث في تاريخ العراق القديم (نورثكوت باركينسون) وقد وجه للمفهوم الاحادي الجانب لتاريخ الفكر السياسي انتقادا شديدا من حيث أشار في معرض تشخيصه لبعض الاخطاء في دراسة تاريخ الفكر السياسي، وهي ان الخطأ الاول يتمثل في ان الفكر السياسي يقتصر على بعض المؤلفين لينكر على الآخرين من البشر ثم يقول: (والذي يترتب على هذا هو أن نجعل، خطأ، من بلاد الاغريق القديمة، منبعا لكل فكر سياسي. إن مؤرخي التشكيلات الكلاسيكية لم يشعروا بالحاجة الا نادرا، للعودة الى أبعد من العهد الاغريقي). (2)
ولكن هذه الآراء التي تغمط حق الحضارات الشرقية بوجود فكرها السياسي واجهت نقدا شديدا من الباحث العراقي الدكتور عبد الرضا الطعان حيث يرى ( إن عدم الاهتمام بالفكر السياسي في وادي الرافدين تحكمه بلا شك، أسباب عديدة لعل في طليعتها الخصائص الخاصة التي يتميز بها، أننا سنأتي على متابعة هذه الخصائص فيما بعد، وإنما نكتفي الآن بالقول بأن الطبيعة الاسطورية التي تحكم الفكر السياسي، بالإضافة الى الطبيعة التراثية، كانت قد حالة دون ظهور الفكر السياسي بشكله الجلي، بكلمة اخرى أن هذه الخصائص كانت قد كونت غلافا حاجبا حال دون تلمسه بشكل عيني. فاذا كان من السهل، على سبيل المثال، الوقوع على الفكر السياسي الاغريقي بمجرد العودة الى المؤلفات السياسية التي سطرها الكتاب الاغريق من أمثال (أفلاطون) و (أرسطو) فإنه من الصعب الوقوع على مثل هذا الفكر في وادي الرافدين) (3).
ثانيا : العوامل المؤثرة في تطور الفكر السياسي
لابد من الاشارة هنا الى مستوى تطور الفكر السياسي باعتباره مظهرا من مظاهر الوعي الاجتماعي ناتج عن طبيعة الصراع بين القوى الاجتماعية ومستوى تطوره يمر بمرحلتين:
- المرحلة الاولى وهي نشوء القوى الاجتماعية حيث تكون قوى قائمة بذاتها لم تع مصالحها الطبقية الاجتماعية بعد في ظل الصراع الطبقي الاجتماعي الدائر في المجتمع.
- المرحلة الثانية حيث يتطور مستوى الوعي الطبقي وتصبح القوى الاجتماعية قائمة لذاتها حينها تعي مصالحها الطبقية وترسم معالم فكرها السياسي القائم على تحديد علاقتها بالسلطة السياسية .
ماهي العناصر التي تتحكم في مستوى تطور الفكر السياسي:
1- عامل انتاج الحياة المادية والتي تحدد مستوى التطور الاقتصادي الاجتماعي ويحدد ذلك المستوى (اسلوب الانتاج المادي).
2- طبيعة النظام السياسي القائم والعلاقة بين السلطة والمجتمع.
3- تأثير الأديان والتراث والأسطورة في تشكيل الوعي الاجتماعي وتنظيم الحياة الاجتماعية.
4- العلاقة الجدلية بين الزمان والمكان وأبعاد التطور التاريخي الحضاري.
ومن خلال هذه المحددات نستنبط ان السلطة في العراق القديم تمثل كلية العلاقة بين الجوانب الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي يلعب فيها العامل الديني الدور المحدد لكافة جوانب الحياة بما فيها العلاقة بين الفرد والدولة والمجتمع ، وقد أدى هذا الدور الى تقديس الخطاب واعتماده على النقل الشفاهي وتهويل دور الأساطير التي تشكل المكون الاساسي للفكر السياسي في حضارة وادي الرافدين بشكل خاص والحضارة الشرقية بشكل عام، مما جعل من الفكر السياسي قراءة عينية للأحداث والوقائع خالية من الاستنباط و هو عبارة عن ممارسة يومية للطقوس الدينية وتجسيد للعلاقة بين الملك الاله والمعبد باعتباره الواسطة للعلاقة غير المباشرة بالأفراد وقد أثر ذلك على تعامل الأفراد مع الظواهر المادية والاجتماعية وأثر على طبيعة تفسيرهم لها .
وكان للاستيطان الحضاري في بداية الألفية السابعة قبل الميلاد في وادي الرافدين حيث كانت الزاعة في الجزء الاعلى منه مواقع حسونة وسامراء وحضارة تل عبيد وكانت حضارتها الاكبر هي أريدو في أقصى الجنوب من الفرات قرب أطراف الصحراء، الأثر البالغ في تطور الفكر السياسي حيث دلت الحفريات ان إله العبادة في العصر القديم هو إله (أنكي)، إله الماء الذي استمرت عبادته في سومر وأكد حتى نهايات التاريخ البابلي. قد انزل من السماء الى الارض من خلال بناء الزقورات وتحول من إله الارادة المطلقة للطبيعة الى إله الإرادة الذاتية للبشر الذين يستمدون سلطتهم من إله الطبيعة مثل إله الخصب (أنانا) وتركزت السلطة السياسية بيد الملك الإله وممثليه الكهنة.
وقد جاءت الاديان السماوية فيما بعد لتطرح نفسها بديلا ايضا للاستلام السلطة السياسية والحكم وبنت فكرها السياسية على الحكم من خلال الإرادة الاهية المطلقة والكتاب المقدس، أظهرت أنها البديل الافضل للسلطة التي سبقتها ولكنها لم تتخل عن تقديس الفكر السياسي الذي استمد قوته من إرادة الله المطلقة الممنوحة للإنسان وفي هذه المرحلة تجاوزت الشفهية والأسطورة لتطرح كتب مقدسة تنظم الحياة الاجتماعية والعلاقات بين الناس وتشرع القوانين في مختلف مجالات الحياة.
إن دراسة التطور الاقتصادي للعراق القديم يتطلب عدم اخضاعه لمراحل التطور التاريخية الخمسة التي رسمتها الماركسية الكلاسيكية بشكل مجرد للدلالة على مسار تطور المجتمعات قبل مرحلة الرأسمالية ، لا نعني اننا لا نؤمن بهذا التقسيم ولكن لوي عنقه واراغامه بهذا الشكل أوذاك وأعتباره قابلا التطبيق على جميع المجتمعات غير دقيق، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فان ايطاليا واليونان لم يمرا في المرحلة الاقطاعية عكس المانيا الاقطاعية وألمانيا لم تمر في مرحلة العبودية عكس اليونان التي عاشت العبودية، أي يتطلب الاخذ بنظر الاعتبار مستوى تطور المجتمعات في البلدان العربية والأسيوية وفق مفهوم ماركس حول التطور الاسيوي، وكتب الباحث فالح عبد الجبار (لقد كان ماركس على غرارهيجل يرى أن تاريخ البشر تاريخ واحد، تشترك فيه كل الحضارات والشعوب، وأن هذا التاريخ ينطوي على أنماط تقسيم عمل، مشاعية، عبودية، إقطاعية ،رأسمالية، وأيضا شرقية (نمط الانتاج الاسيوي القديم )(4)
ففي العراق القديم قبل أكثر من ستة ألاف سنة سادت العلاقات الأبوبة والمشتركات القروية التي تعتمد الاقتصاد الجمعي المشترك في ظل غياب الملكية الفردية والخاصة واعتبار جميع الاراضي مشاعة للملك والمعبد ومع الاستقرار في الالفية الثالثة قبل الميلاد وسيادة الزراعة والرعي ونظام الري والغزو والحروب والسبي ( مثل سبي بابل ) ظهرت بعض جواب من نظام الرق وتغيرت التركيبة الاجتماعية للمجتمع حيث هي خليط من الفلاحين والفلاحين المستأجرين والعبيد والرعاة والصيادين والجيش يقف على قمة هذه القوى الملك والمعبد، ويمثل هذه طابعا مشوها للتطور اذا ماتم مقارنته في الدراسات الكلاسيكية ، ومن هنا لابد ان نشير الى ان مستوى تطور الفكر السياسي في العراق القديم كان مرهونا بطبيعة التطور الاقتصادي الاجتماعي الزمكاني كغيره من البلدان الاخرى .
ثالثا : الفكر السياسي المعاصر
لقد احدثت الثورة الصناعية والثورة المعلوماتية تغيرات هامة في مفهوم الفكري السياسي وخلصته من بعد الأيديولوجي الضيق يعد ما أثرت عليه الانجازات العلمية في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللسانيات واتخذ أشكال متعددة مثل الفكر السياسي الليبرالي، والقومي، والسلفي الاصولي، والماركسي.. الخ
ومن اهم القضايا التي يتطلب البحث فيها هي علاقة الفكر السياسي بالإيديولوجية ، لان الايديولوجية تعبر عن مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية ، ويتأثر وعي الافراد في مستوى التطور الاقتصادي الاجتماعي وتكون الايديولوجية المحرك لعملية الصراع الطبقي وتشكل جزءا من البناء الفوقي ، حيث يكون الفكر السياسي تعبيرا مكثفا عن الايديولوجية ، ويشكل الفكر السياسي جوهر العمل السياسي للقوى والأحزاب السياسية المدافعة عن مصالح الفئات والطبقات الاجتماعية ذات الاهداف والمصالح المشتركة ، وتسهم الايديولوجية في تحديد سمات الفكر السياسي والوسط الاجتماعي الموثر فيه وتربطه بشكل جدلي مع حركة تطور المجتمع ، وتساهم في تماسكه ووحدة موضوعه وتحدد العلاقته الجدلية بين الثابت والمتغير اي الربط بين الاحداث الراهنة وامتداداتها التاريخية .
ولابد من الإشارة الى أهمية اللغة (علم اللسانيات) التي تلعب ايضا دورا فاعل بإيصال الفكر السياسي الى المتلقي من خلال اللغة المفهومة البليغة المعاني والدلالات والقادرة على ايصال الافكار بشكل واضح وجلي والتي تسهم في تكون رأي عام يتبنى هذا الفكر ويعمل به. ويقول المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في هذه المضمار (ان العقل السياسي كممارسة وكايديولوجيا ، هو في الحالتين ظاهرة جمعية ، أنما يجد مرجعيته في المخيال الاجتماعي وليس في النظام المعرفي . النظام المعرفي يحكم الفعل المعرفي والمخيال الاجتماعي فيما أنه منظومة من البديهيات والمعايير والقيم والرموز فهو ليس ميدانا لتحصيل المعرفة بل هو مجال لاكتساب القناعات ، مجال تسود فيه حالة الايمان والاعتقاد ) (5 ) .
رابعا : الفكر السياسي الماركسي
لقد مرَّ الفكر السياسي الماركسي في فترة عصيبة بعد صعود االستالينية التي أدت الى الجمود العقائدي وسيادة الدوغما الفكرية للأغلبية الاحزاب الشيوعية والعمالية والتي خلقت فجوة واسعة بين الفكر والممارسة التي هي جوهر الفكر السياسي الماركسي ، وكانت هناك محاولات عديدة لتجديد الفكر السياسي الماركسي ومنها محاولات غرامشي في تجديد الفكر السياسي الماركسي من خلال أطروحته المتعلقة في دراسة التطور المتفاوت ودراسة التراث وأهمية معرفة ارتباط الاسطورة في تاريخ الشعوب وتكوينهم النفسي وتأثير الوعي الديني مع التركيز على الربط الجدلي بين الفكر والممارسة عبر نظرية الهيمنة ودور الكتلة التاريخية في حرب تبادل المواقع حيث يظهر الفاعل السياسي باعتباره ممثل لطيف واسع من القوى الاجتماعية لايمكن اختزاله بتمثيل طبقي ضيق .
كما واجهت الفكر السياسي الماركسي عملية فك التشابك بين المفهوم الميتافريقي للايديولوجيا وطابعها الابستمولوجي والتي تمثل اشكالية العلاقة بين الايديولجية والفكر السياسي التي تساهم في تشكيل الوعي الزائف من خلال التعارض بين المصالح الطبقية والانتماء السياسي والمثال على ذلك البونديين الاشتراكيين الديمقراطيين اليهود ونقابة التضامن العمالية البولندية.
ولابد من الاشارة الى ان الفكر السياسي لم يعد اليوم محصورا في الاطر الايديولوجية الضيقة بل أصبح على علاقات اشمل وأعمق بالعلوم الاخرى. ويقول الباحث د. أسعد صالح الشملان (ولكن اليوم أصبح يمثل شكل من أشكال الابتكارات المفاهيمية المتعاضدة التي تتقاطع فيها علوم ومقاربات متعددة مستمدة من أطروحات مستجدة في علوم السياسة والفلسفة المعاصرة واللسانيات وعلم النفس التحليلي وغيرها) (6).
خامسا : إشكالية الفكر السياسي الماركسي في البلدان العربية
لعب الفكر السياسي الماركسي في البلدان العربية، كما في مناطق اخرى من عالمنا المعاصر، دورا هاما في نشوء الوعي الطبقي ودفع الملايين من الشغيلة والكادحين للانخراط في النضال الوطني الديمقراطي والتصدي لقضايا الحراك الاجتماعي كقضايا تحرير المرأة وحقوق الطفل والعائلة ومجانية التعليم والخدمات والصحة وحقوق الشبيبة وغيرهما، وطرح نفسه بديلا للقوى الرجعية الموالية للاستعمار وخاض معارك سياسية هامة من اجل التحرر والاستقلال. وفي مرحلة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات كان الفكر السياسي الماركسي في البلدان العربية يسيطر على الشارع السياسي ويمثل معارضة قوية للأنظمة القومية العربية وطرح برنامجه البديل للاستكمال مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ولكن الفكر السياسي الماركسي في البلدان العربية واجه العديد من الاشكاليات التي لازال بعض منها قائم على الرغم من محاولات تجديد الفكر السياسي المتواصلة ومن اهم هذه الاشكاليات هي:
1- لقد كانت القراءة السائدة لتطور المجتمع على أساس الانقسامات الطبقية وطبيعة الصراع الطبقي الناشب هي القراءة السائدة دون إعارة الاهتمام الكافي لما يجري الاهتمام من صراعات و انقسامات على صعيد العرقي والديني والعشائري والقبلي والتي أدت الى حدوث صراعات مذهبية وطائفية وأثنيه أثرت على تطور المجتمعات ، كما لم يتم مراعاة الطابع الريعي للاقتصاد الذي ساد في السبعينات والثمانينات وتأثيراته على الحراك الاجتماعي ، وسادت النظرة الواحدية الدغوماتية بتأثير المدرسة السوفيتية في اغلب الاحيان في القراءة والتحليل للظواهر الاقتصادية والاجتماعية مثل مفهوم التطور اللاراسمالي والتوجه الاشتراكي والتعويل على احزاب البرجوازية الصغيرة في قيادة مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية للوصول الى الاشتراكية وعدم التشخيص السليم لطبيعة السلطة السياسية الاجتماعية الطبقية وشكل التحالفات السياسية معها والتي أده اغلبها في النهاية الى قمع وإرهاب ومأساة وأضعاف للحركة الشيوعية والعمالية في البلدان العربية ، ولكن هذا لا يعني عدم وجود العديد من الابحاث والدراسات التي طرحت وجهات نظر سليمة درست هذه الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق النهج الماركسي وشخصت بصورة علمية وواقعية إشكالية الخطاب الماركسي في البلدان العربية ونبهت الى ضرورة أعادة النظر في سياسات الاحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان العربية .
2- لقد كان هناك التباس في فهم التراث ودور والأسطورة في التاريخ العربي الاسلامي وتأثيرهما البالغ في تشكيل وعي الفرد في المجتمعات العربية ، مما عطل توظيف الفكر السياسي الماركسي للتراث التقدمي والاستفادة منه لان ولم يجر الانتباه الى ان الظاهرة الدينية والتراث لا يمكن تجاوزهم في مجتمعات الطرفية والتبعية الرأسمالية ، وقد اشار العلامة حسين مروه في كتابه النزعات المادية في التاريخ العربي والإسلامي الى موطئ القصور واعتبر مؤلفه هو العمل المتكامل في بحث التراث من منطلق ماركسي ، حيث تناول فيه التاريخ الاسلامي من الجاهلية الى الخلافة الاسلامية العباسية و يقول ( فمنذ العصر الوسيط الذي صدر عنه تراثنا الفكري بمختلف اشكاله ، حتى الحقبة الراهنة من عصرنا ، ظلت دراسة هذا التراث رهن النظرات والمواقف المثالية والميتافيزيقية التي تتفق جميعها ، بمختلف مذاهبها وتياراتها على خط عام مشترك تحكمه رؤية أحادية الجانب للمنجزات الفكرية في العصر العربي -الاسلامي الوسيط ، أي رؤية هذه المنجزات في استقلالية مطلقة عن تاريخها ، بمعنى هذه الرؤية ظلت قاصرة عن كشف العلاقة الواقعية الموضوعية ، غير المباشرة ، بين القوانين الداخلية لعملية الانجاز الفكري وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي . ولذا بقي تاريخ الفكر العربي -الاسلامي تاريخا ذاتيا سكونيا أو (لا تاريخيا) لقطع صلته بجذوره الاجتماعية، اي بتاريخه الحقيقي الموضوعي) (7)
ولكننا نؤكد ان كل المحاولات التي تمت للبحث في التراث لم تكن محاولات مؤسساتية من قبل الاحزاب الشيوعية والعمالية العربية بل كانت محاولات فردية ابتداء من محاولة المؤرخ والباحث العراقي فيصل السامر في الخمسينيات حول ثورة الزنج مرورا في محمود امين العالم وهادي العلوي وقاسم حسين العزيز وطيب تزيني ومهدي العامل وحسين مروه وغيرهما وكانت جميعها جهودا فردية. وقد اشار حسين مروه الى ذلك في مؤلفه النزعات المادية في الفلسفة العربية -الاسلامية *.
3-عدم فهم التناقض القائم بين تطور الوعي الاجتماعي والواقع الاجتماعي والعلاقة الجدلية بينهما وينتج عن ذلك فكر سياسي لايمثل الواقع ويتناقض معه في التحليل والدراسة .
كما تواجه الفكر السياسي الماركسي اليوم عدة قضايا هامة يتطلب دراستها وتحليها بعمق وهي :
1- الاقتصاد الريعي 2- دور العشيرة والقبيلة الاجتماعي وتأثيراتها السياسية 3- التطرف الديني والصراعات المذهبية.
ويمثل الاقتصاد الريعي الاساس للنشاطات الطفيلية غير المنتجة التي تؤدي الى قيام الدولة العميقة والفساد والجريمة المنظمة وتساهم في نسج علاقات التخادم المبنية على الرشى والتربح على حساب المال العام وتعطيل الدورة الانتاجية وإشاعة روح اللاوطنية والارتباط بوشائج قوية مع الشركات العابرة للقوميات والمتعددة الجنسيات. وتتعامل القوى الماسكة بالسلطة السياسية مع السلطة السياسية باعتباره غنيمة وكانت عبارة (مانطيها) تعبيرا عن مفهوم القوى الطائفية والجهوية المتنفذة للاحتكار السلطة السياسية وأفراغ العملية السياسية من محتواها الديمقراطي السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
اما بالنسبة لدور العشيرة والقبيلة في المجتمعات الطرفية والتبعية الرأسمالية لا يمكن تجاوزه وخصوصا في ظل تراجع دور الدولة والعودة الى تنظيم الحياة الاجتماعية بوسائل ما قبل الدولة ، وتلعب العشيرة والقبيلة دورا اساسيا في التاثير على الحياة السياسية بإشكال مختلفة ، ويتحدث عن هذا الجانب الباحث سامي زبيدة في كتابه الاسلام الدولة والمجتمع ،حيث يقول ( ولكن يبقى على دراسة هذه التحولات بسوسيولوجيا سياسية عامة ، أن تواجه حقيقة أن التضامنات والاصطفافات والقوى السياسية لايمكن أن تفسر ببساطة أو أساسا بلغة الطبقة والمفاهيم ذات العلاقة * ربما بالقدر الذي يمكن معه تفسيرها في المجتمعات الغربية! *. ولايتعلق الامر بأستمرارأِشكال قديمة من التضامنات الابتدائية في البقاء بقدر ما يتعلق بأعادة بنائها سياسيا وأيديولوجيا بالارتباط بالاوضاع الجديدة .)(8 )
ولا يمكن انكار الصراعات الدينية والمذهبية الطائفية ذات الطابع السياسي أيضا والتي لها امتداداتها التاريخية منذ 1400 سنة ، ولكن يتطلب الفصل بينها وبين الطابع الاجتماعي للطوائف باعتبارها مكونات اجتماعية قائمة بذاتها و تشكل الصراعات الطائفية والمذهبية عنصرا ضاغطا على الفكر السياسي المعاصر في محاولة من القوى السياسية الدينية التي تعتبرها قضية وجودية تتعلق بمصير المكونات الاجتماعية المحددة وبديلا عن الصراع الطبقي الاجتماعي واستخدامها للتحشيد للخطاب السياسي الطائفي الديني المبني على الكراهية والتطرف .
ويقول الكاتب والمفكر كريم مروه (ولعل المشكلة في هذا الموضوع هي مشكلة الماركسيين ، مشكلة الشيوعيين كأحزاب وحركات في العالمين العربي والاسلامي ، وفي أماكن أخرى من العالم ، في تعاملهم مع هذه النصوص ،أذهم ، في الاغلب لم يأخذوا في الاعتبار بشكل كامل ودقيق خلال صياغة مواقفهم الملموسة أمرين اساسين : الامر الاول ، واقع بلدانهم وظروفها ومستوى تطورها وتركيبتها الاجتماعي ، دور الدين فيها ، وموقعه وتأثيره في وعي الناس عامه من جهة ، وضرورة التحرر من النصوص والاسهام في الفكر الماركسي في الممارسة أرتباطا بواقع بلدانهم وشعوبهم وتراثها ) (9)
مما يتطلب من الماركسيين التصدي للقوى الطائفية الرامية الى حرف الصراع الاجتماعي عن مساره الحقيقي عبر تزيف وعي الشغيلة والكادحين واستخدامهم كأدوات للتحقيق مشاريعها الايديولوجية الطائفية.
سادسا : الفكر السياسي للحزب الشيوعي العراقي
يمتلك الحزب الشيوعي العراقي تسعة عقود من النضال والكفاح طرح خلال العديد من البرامج والتصورات الفكرية والسياسية منذ ولادته في 31 عام 1934 وخاض كفاح ونضالا ضريا من أجل الوطن الحر والشعب السعيد وكان الميثاق الوطني للحزب الشيوعي العراقي في المؤتمر الاول 1945 تجسيدا لمستلزمات كفاح الشيوعيين العراقيين ونضالهم الوطني الديمقراطي ، وكان بحق وثيقة جامعة لمواقف الحزب وسياسته على الصعيد الوطني الديمقراطي وتصوراته لحلول القضايا السياسية المتعلقة في الاستقلال والتحرر الوطني ومعالجة البطالة والفقروالتحلف الاجتماعي واستخدام الثروات المادية لخدمة المجتمع وتنميته وبناء نظام ديمقراطي دستوري يضمن التعديدية ويحقق العدالة الاجتماعية .
وجاءت برامج الحزب الشيوعي العراقي ومواقفه السياسية في مؤتمراته 10 التي اعقبت المؤتمر الاول تجسيدا للفكر السياسي للحزب الشيوعي العراقي الذي ينتهج النهج الماركسي ولا تخلو هذه المسيرة النضالية من الاخطاء والهنات والإشكاليات والإخفاقات والنجاحات التي جسدتها تقييمات الحزب في الكونفرس الثاني والثالث والمؤتمر الرابع والثامن حول التجربة الاشتراكية وتقيم تجربة الأنصار الشيوعيين ، واختيارنا لوثيقة نحو التغير الشامل لايعني تجاوز لهذا الارث التاريخي من الفكر السياسي للحزب الشيوعي العراقي ولكن هذه الوثيقة جاءت تجسيدا للفكر السياسي للحزب الشيوعي العراقي في الوقت الراهن حيث لخصت فيها الوثيقة البرنامجية التي أقرها المؤتمر الحادي عشر ، و مثلت الوثيقة رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية لعملية التغير الشامل ، كما عكست الوثيقة طبيعة الصراع الاجتماعي الناشب واتجاهات تطوره ، وطرحت الوثيقة طبيعة الازمة البنيوية الشاملة لنظام المحاصصة الطائفية والاثنية ، وتناولت الوثيقة عملية تغير ادواتنا السلمية وتنوع اساليبنا واستخدام كافة أشكال النضال من حراك جماهيري ونضال برلماني ونضال سياسي عبر تطوير تحالفاتنا وتوسيعها لتضم اغلبية القوى الوطنية الديمقراطية ، وشخصت الوثيقة الصراع الرئيسي يدور حول بناء الدولة والنظام السياسي ، وأكدت الوثيقة المنهج الماركسي في القراء والتحليل والعلاقة الجدلية بين الواقع والممارسة .
الخاتمة :ان الفكر السياسي في مجتمعات الطرفية التبعية للرأسمالية يتطلب تحليله وفق النهج الماركسي الديالكتيكي وتجاوز تطبيق قوالب قوانين المادية التاريخية بشكلها الميكانيكي وتطبيقها تطبيقا حرفيا على الواقع الذي يتناقض معها حيث تصبح غير قابلة للتطبيق العملي مما يجعل التناقض بين الواقع والممارسة عامل من العوامل الرئيسية لتعطيل الفعل السياسي ، كما يتطلب ايضا دراسة العلاقة بين التغير التاريخي ومفهوم الوعي الطبقي لان الفئات والطبقات الاجتماعية في مجتمعات التبعية والطرفية لا يظهر فيها تقييم العمل الطبقي بوضوح بفعل تشوه العلاقات الاجتماعية وعدم وجود علاقات رأسمالية اجتماعية خالصة كما هي في البلدان الرأسمالية المتقدمة في المركز حيث تقيم العمل والعلاقات الرأسمالية واضحة المعالم ، أما في البلدان الطرفية تتداخل العلاقات الاجتماعية بفعل التشوه الحاصل للتطور الاقتصادي الاجتماعي الذي ينجم عنه وجود علاقات ماقبل الرأسمالية مثل جماعات وتكوينات اجتماعية كالعشائر والقبائل والطوائف الدينية بجانب جماعات الشغيلة والحرفين والعمال والفلاحين وبقايا الاقطاع والبرجوازية التجارية والطفيلية والبيروقراطية ورجال الدين وتمثل الدولة أكبر رأسمالي ، مما يتطلب من الفكر السياسي ان يأخذ بنظر الاعتبار دور هذه المكونات والمؤسسات والقوى الاجتماعية ووظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
الهوامش
1 - ورد الاقتباس عند: د. عبد الرضا الطعان، الفكر السياسي في العراق القديم، الرشيد للنشر، -1981، ص20
2- نفس المصدر السابق، ص33
3- نفس المصدر السابق، ص 10
4- فالح عبد الجبار ، دار الفارابي _ بيروت ، الطبعة الاولى 2010 ، ص 66_67 .
5- محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، دراسات الوحدة العربية - الطبعة الثالثة، 1995، ص16 .
6 -أسعد صالح الشملان، من الايديولوجيا الى الخطاب ...دراسة مقارنة مابعد البنيوية لمفهوم الخطاب السياسي، متاح على الانترنيت على الرابط التالي: .emarefa.net .detail
7- سامي زبيدة =الاسلام الدولة والمجتمع =دار المدى للثقافة= الطبعة الاولى 1995، ص147.
8- حسين مروة ،النزعات المادية في الفلسفة العربية _الاسلامية ، الجاهلية _نشأةوصدرالاسلام _المجلد الاول ،دار الفارابي الطبعة الاولى 2002 ،ص 7-8 ، ويشير العلامة الراحل حسين مروه الى ان هناك محاولات سبقته من قبل *محمود امين العالم ، معارك فكرية - كتاب الهلال -العدد177ديسمبر1965،هادي العلوي - نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي _مطبعة الارشاد بغداد 1971 ، طيب تيزيني ، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط ، دار دمشق ،سورية 1971 ، مهدي العامل ،أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية _بيروت 1974
وغاب عن العلامة الراحل الدراسة الاولى للباحث فيصل السامر عن ثورة الزنج وبحث الدكتور قاسم العزيز حول البابكية في اواسط السبعينات .
9- كريم مروة، حوار الايديولوجيات- بين أفكار ماركسية وأفكار دينية- دار الفارابي ،بيروت - لبنان ، الطبعة الاولى 1997 ، ص51 .