تعرفتُ على الأستاذ فخري كريم في صيف عام 1962 في الموقف العام في باب المعظم. وهذا لا يعني اننا كنا أصدقاء، إنما كنا موقوفين على نفس القضية والتي سُميت في وقتها قضية "التجارب النووية". حينها قرر مجلس أنصار السلام في العراق ان يؤيد الحركة العالمية التي كان يقودها الفيلسوف البريطاني “برتراند روسل” رئيس مجلس السلم العالمي، للاحتجاج على التجارب النووية بشكل عام والتي تقوم بها امريكا في صحراء نيفادا الأمريكية آن ذاك بشكل خاص. وكان لحملة برتراند روسل هدفان أساسيان هما وقف سباق التسلح النووي من خلال ايقاف التجارب النووية التي يقوم بها الشرق والغرب وما يسببه ذلك من تلوث بيئي مُستديم، وكذلك منع خطر نشوب حرب نووية بين الاتحاد السوفيتي والغرب بقيادة الولايات المتحدة، خاصة بعدما شاهد العالم أهوال وبشاعة ما حدث في هيروشيما وناكا زاكي. كانت الاحتجاجات تجري بمنتهى السهولة والحرية في عموم اوروبا الغربية وكندا واميركا، إلا ان الشباب العراقي الذي قرر المشاركة بهذه الحملة دفع ثمنها غالياً.
وكان القرار أن تُشكل وفود تمثل جميع شرائح الشعب العراقي للذهاب للسفارة الأمريكية في بغداد في يوم الجمعة المصادف الثاني والعشرين من حزيران عام 1962، وتقديم عريضة احتجاج مكتوبة. وتهيأت مجموعة تمثل المهندسين ومنهم حامد منيب البستاني واخرى تمثل التجار ومنهم علي كرمنجي وأخرى للعمال ومن بينهم النقابي مهدي حبيب وأخرى للأدباء والصحفيين، وكان من بينهم الشاعر محمود عبد الريفي والصحفي مجيد الراضي وفخري كريم (صاحب مؤسسة المدى حالياً). وكانت مجموعة الطلاب برئاسة كريم الحجية وعضوية حكمت الدقاق وكاتب هذه السطور وحوالي ستة آخرين. وتجمعنا في باب المعظم قرب كلية الهندسة ودار الطلاب. وكل مجموعة ما عليها الا ان تؤجر سيارة او باص لتسليم عريضة الاحتجاج للسفارة، والرحيل بنفس الواسطة المؤجرة. ولم يكن هناك اي نية في التظاهر او الشغب او الاعتداء او اي شكل من اشكال العنف.
وصلنا إلى السفارة حيث كان كل شيء هادئا وعاديا. ترجلنا وبيدنا عريضة الاحتجاج كي نسلمها بشكل سلمي وحضاري إلى السفير او من يمثله. وحال وصولنا بوابة السفارة وإذا بنا نفاجأ بمجموعة كبيرة من رجال الأمن العراقي بملابسهم المدنية في داخل السفارة، وهذا يعني انهم كانوا يعلمون بمجيئنا. فأما ان السفارة كانت تعلم ونسقت مع الأمن او ان الأمن لديه خبر ونسق مع السفارة. وبدأوا بالصياح والضرب بالأيادي والهراوات، وإذا بسيارات البوكس الخضراء تأتي جاهزة لاعتقالنا ونقلنا إلى احدى دوائر الأمن. ونزلنا من سيارات البوكس حيث كان رجال الأمن بانتظارنا مصطفين على جانبي الممر المؤدي للنظارة وغرف التحقيق على شكل استعداد للتشريفات. وعلى كل واحد منا ان يمشي بينهم للوصول للجانب الآخر للحجز. كان من بين الأشخاص الذين أمامي كريم الحجية الذي رفض ان يطأطئ رأسه فانهالوا عليه بالضرب المبرح. اما انا فكنت في عمر الرابعة عشر او الخامسة عشر ولم أحلق ذقني بعد. يبدوا أانهم أدركوا ذلك ولم يعتد عليّ أحد.
بعد ذلك وزعونا على عدة مواقف لكثرة عددنا. فرحلونا انا وحوالي خمسة عشر شخصاً إلى مركز شرطة المنصور قرب ساحة سباق الخيل. وكان في هذا المركز ردهتان للموقوفين، الأولى كبيرة وذات باب من حديد مشبك اي مفتوح على الخارج للرؤيا وللتهوية. والثانية في تقديري مُعدة كموقف او زنزانة لشخص او شخصين فقط، مساحته حوالي 6 أمتار في اربعة أمتار، بابه حديد صلب لا منفذ فيها سوى شباك أعلى الباب حجمه بقدر كف اليد. وعلى الأغلب فإنه مصمم ليكون سجنا انفراديا لأعتى المجرمين. المهم اختاروا لنا السجن الانفرادي ووضعونا جميعا فيه، وكان عددنا حوالي اربعة او خمسة عشر شخصاً.
وبعد عشرة أيام عجاف، وفي اليوم الأول من تموز عام 1962 تم نقلنا إلى الموقف العام في باب المعظم. وهناك التحقت مجدداً بزميلي وصديقي حكمت وكريم الحجية رئيس الوفد الطلابي وعلي الكرمنجي صديق خالي حجي كريم من سوق الشورجة. كان انتقالنا إلى الموقف العام كمن ذهب من النار إلى الجنة. حيث ان لكل شخص مكان ويطغ (فراش) ومراوح سقفيه وماء ودورات مياه خارج غرفة الموقف نستخدمها متى نشاء وكان لنا حمام للغسل ومطبخ للسجناء ومقره في القلعة الخامسة. كان معظم المسجونين في القلعة الخامسة والسادسة هم من الشيوعيين واليساريين وأكراد من حزب البارتي المتهمين بأحداث الموصل وكركوك. وهناك التقيت بحمزة سلمان المحامي من منطقة الزوية الكرادة الشرقية والمتهم بالمشاركة في احداث الموصل والذي ظل موقوفاً مع رفاقه، لحين ردة 8 شباط 1963 حيث تم تصفيته مع المئات ممن كانوا معه وكان في مركز القيادة في الموقف بحكم مرتبته السياسية. والتقيت بصادق جعفر الفلاحي القائد العمالي النقابي المخضرم الذي كان يقدم محاضرات سياسية ثقافية والموسيقار أحمد الخليل الذي لحن وغنى أفضل الأغاني للزعيم والثورة مثل اغنية هربجي كُرد وعرب رمز النضال واغنية موطني (ليس نشيد موطني) والمهندس المثقف حامد منيب البستاني وهو عم زميلي وصديقي علي طاهر منيب البستاني وصفاء الجصاني (ابن أخت الشاعر الجواهري) ولطيف الحاج (اخ عزيز الحاج)، وكليبان العبلي رئيس نقابة الميكانيك الذي كان مرحاً دائماً ومهدي حبيب العامل المثقف والناشط في نقابة عمال الخياطة، والعديد من خيرة الأدباء والشعراء والمناضلين الذين كانوا يسترجعون ذكريات السجون في سجن الحلة والكوت وبعقوبة ونكرة السلمان أيام العهد الملكي، وكأن التاريخ يعيد نفسه. ومن الغريب جداً ان كل الموقوفين كانوا من أشد المؤيدين للزعيم عبد الكريم قاسم وثورة تموز.
يتكون الموقف العام عدا السجن المركزي، من ستة قلاع، وكنا نحن في القلعة السادسة التي تتكون من ثلاثة قواوويش (قاعات كبيرة) وحمام كبير ومطبخ وحوش واسع نفرش به منادرنا في الليل. كان زميلي حكمت في القاعة الأولى وكنت في القاعة الثالثة، وكنا نتزاور كثيراً. كنت الاحظ شاباً رشيقاً وسيماً ذو عيون خضر يقف في باب القاعة الأولى، يراقب ويتابع كأنه مدير مدرسة أثناء الفرصة بين الدروس، إلا انه لا يتكلم ويبدو عليه انه غارق في التفكير او ان تفكيره شارد في مكان آخر، وربما كان مثلي يفكر ويتساءل! لماذا نحن هنا؟ وهل هذه القضية التي اعتقلنا بسببها هي قضية تستحق هذا العناء، ولماذا تعتقل السلطة مؤيديها؟ وكيف يمكن ان تكون مُعتقلاً ولا زلت مُناصراً لمن اعتقلك؟ أسئلةً لازالت الإجابة عليها تحمل اوجه متباينة، إلا انها جميعاً غير مقنعة.
وفي حديث لي في حينها مع زميلي وصديق العمر حكمت، أخبرني ان فخري كريم حبيب زنكنة صحفي يعمل في صحيفة "اتحاد الشعب" (التي كانت مُغلقة في حينها) ومن القياديين، وأخبرني من انه كان يرعاه ونوعاً ما يحميه لأنه كان في عمر السادسة عشر فقط. وفي أحد الأيام انقطع الماء في الموقف، وإذا بفخري كريم يبادر بالسيطرة على خزين الماء الوحيد وهو "الحِب" (الكوز) وتقنين الشرب منه بالأستكان (أقداح الشاي) فقط، كي يتم استهلاكه دون إسراف من قبل الموقوفين وعددهم لا يقل عن مئة وخمسين موقوفاً في كل قلعة، لأن انقطاع المياه ربما يستمر لمدة طويلة او يكون مقصوداً. وبذلك اظهر الأستاذ فخري مبادرة قيادية تستحق التقدير.
لم ينته الموضوع هنا وانما السلطات البوليسية تنسى حقوق المواطنة ولا تنسى حقوقها في فرض الطاعة العمياء على مواطنيها. ففي اليوم الحادي والثلاثين من شهر تموز 1962 وبعد مرور اربعين يوماً على توقيفنا تقرر إطلاق سراحنا بكفالة واحيلت قضيتنا إلى الحاكم العسكري العرفي الثاني شاكر مدحت السعود رئيس المحكمة العرفية الثانية والذي هو من أشد الحاقدين على الوطنيين والتقدميين. والسبب ان هذه القضية أحيلت إلى محكمة عرفية لأن العراق كان ما يزال تحت سلطة الأحكام العرفية منذ 14 تموز 1958 على الرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على الثورة، وحُكم على المشاركين في تلك الفعالية بالسجن أحد عشر شهراً مع وقف التنفيذ في عهد عبد السلام عارف.
يأتي اسم فخري كريم ومؤسسة المدى في الإعلام بين الآونة والأخرى، ودائماً استرجع بها مشهد ذلك الشاب الوسيم الواقف بباب القاووش، الشارد ذهنياً أم الغارق في التفكير أم الحامل لهموم شعب وآلامه وآماله! فخري كريم مناضل ظل اميناً لتوجهاته، قدم أفضل نموذج للقطاع الخاص الناجح تجارياً والهادف ثقافياً، بجهده الخاص وظل مُلتزماً لأفكار اعتنقها حينما كان شاباً ووفياً لرفاق دربه الذين تفاعلوا معه طيلة السبعين عاماً من مسيرته. إنسان مثله يبقى شامخاً لا تهزه معتقلات الفاشست ولا رصاصات غدر جبانة من ظلاميين لا يريدون لنور الثقافة ان يبسط شعاعه على ربوع الوطن.
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
29 شباط 2024