لم أكن أرغب بكتابة المزيد عن هذا اليوم الدامي 8 شباط، فقد كتبت عنه عدة مقالات وأشبعه المناضلون شرحا وتفصيلا، وكشفوا المأساة التي تعرض لها أبناء شعبنا في ذلك الانقلاب الانجلوأمريكي الذي ساهمت فيه مصر جمال عبد الناصر بنشاط لا تحسد عليه. إذ كانت رشاشات بور سعيد - صناعة مصرية - تتبختر بأيدي قطعان الحرس اللاقومي الذين انتشروا في بغداد وقطعوا الشوارع بنقاط ومفارز وحواجز حاقدة على كل ما يتسم بالإخلاص للوطن، فاعتقلوا الالاف وقتلوا بقسوة لا مثيل لها كل من يدافع عن الجمهورية الاولى التي انبثقت من رحم الجيش والشعب في 14 تموز 1958.
ما زالت ذكرى ذلك اليوم الدامي ماثلة أمام عيوننا وما زال شهداء شعبنا رموزا تنير الطريق من أجل وطن حر وشعب سعيد.
وبهذه المناسبة الاليمة أعيد نشر مقال سابق بعنوان:
عبد الكريم قاسم.. بطولة في الحياة والاستشهاد
كل عام في هذه المناسبة الاليمة نعيش ذكرى هؤلاء الرجال العظام الذين كتبوا تاريخ العراق الحديث بمداد دمائهم الزكية، ولنا ان نعد يوم الرابع عشر من تموز عام 1958 بداية كتابة تاريخ العراق الحديث، لان هذا اليوم الذي قاد فيه عبد الكريم قاسم ثورته ضد التخلف والنظام البائد كان بحق يوما جديدا تشرق فيه شمس الحرية على العراق من شماله الى جنوبه، من جبال كردستان الشماء الى اهوار الجنوب الابية، ولم يكن عبثا ان خرجت الجماهير عن بكرة ابيها تحيي الثورة المباركة.
نتذكر عبد الكريم قاسم ورفاقه الابطال الذين شاركوا في الثورة ووقفوا بشجاعة حتى آخر رمق في حياتهم وبذلوا ارواحهم الغالية فداء للوطن والشعب بكل نكران ذات ودون مقابل، فخلدهم التاريخ في صفحاته الزاهرة.
في هذه الظروف العصيبة التي يعيشها شعبنا الذي اباح دمائه المجرمون الوافدون من اطراف البوادي والكهوف المظلمة، وامست ثرواته نهبا للمتخلفين المتسربلين بعباءات الدين والخرافة والدجل ، نتذكر رجال ثورة الرابع عشر من تموز هؤلاء الرجال المخلصين لوطنهم الذين شيدوا في اقل من خمس سنوات عمرانا ومشاريع ووضعوا أسسا وأطرا قانونية للمجتمع واقاموا صناعات وصروحا جعلتهم مثار فخر كبير ومثالا على صدق الدوافع الوطنية التي دفعتهم الى القيام بثورتهم ليخدموا شعبهم ووطنهم لا لينهبوه مثلما نرى اليوم من انتخبهم الشعب ليحكموا بالعدل فاخذوا يحرقون البنوك وسجلات النفط ليخفوا جرائمهم التي اقترفوها بحق شعبهم دونما حياء وخجل .
كان الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم يمتلك نظرة بعيدة المدى ، فاراد ان يضع نفسه فوق الميول والاتجاهات كما كان يقول كي يستطيع ادارة دفة الحكم دون انحياز لطائفة او قومية ولكن الجهل الذي كان يضرب اطنابه بين القوى السياسية العراقية والمحاولات اللئيمة التي قام بها الشوفينيون من القوميين ضد الزعيم الراحل كانت تستهزئ بهذا الشعار كما استهزأت معظم القوى بشعاره الرحمة فوق القانون ، وشعاره عفا الله عما سلف ، وانما اراد من تلك الشعارات معالجة المشاكل الشائكة في المجتمع العراقي والتي لا يمكن حلها بواسطة قانون او قاعدة فقهية جامدة ، فكان يبحث عن وسائل غير مألوفة لوضع المجتمع الذي يعاني من تراكم تاريخي كبير من التخلف والتخندق خلف المفاهيم البالية والعشائرية من ثأر وانتقام وقسوة على مسار الرحمة والتسامح والعفو ليتفرغ للبناء والاعمار والتقدم.
لم يكن عبد الكريم قاسم طامعا بمغانم شخصية ولا بامتيازات دنيوية، كان مثالا في النزاهة والزهد والعفة، فأصبح منارا يهتدى بنزاهته نتمنى ان يأتي في قابل الايام من يحذو حذوه في النزاهة والحكم.
نتذكر بحزن واسى يوم مصرعه مضرجا بدمائه الزكية في دار الاذاعة العراقية التي احتلتها عصابة قذرة لم تقدم للعراق سوى الكوارث والويلات فيما بعد حين تسلمت دفة الحكم فقادت العراق الى الموت والخراب.