تُعد المعارضة السياسية بمثابة عنصر الإتزان لمنظومة الحكم، وبدونها لا يستقيم مسارها أو تكتمل أركانها. لأن بنيان النظام السياسى الديمقراطى يتأسس على امرين وهما ، السلطة الحاكمة، المؤيدة بسند سياسي ذي كتلة برلمانية كبيرة وأدوات إعلامية مؤثرة. والامر الآخر ، المعارضة الوطنية، التى تقف خلفها أحزاب الأقلية، بتمثيلها البرلماني وأذرعها التوعوية. وهكذا، تتجسد الديمقراطية فى تمكين القوى المعبّرة عن الأغلبية من الحكم، مع إفساح المجال لممثلي الأقلية لمباشرة حقهم الأصيل فى المعارضة الإيجابية. ومن ثم، تبقى الانتقادات الفردية الموجهة للسلطة، وإن كانت مشروعة، بمنأى عن دائرة المعارضة الإيجابية الفاعلة. إذ تتطلب الأخيرة نقداً منظماً ومُمأسساً، تضطلع به وسائط سياسية معتمدة ممثلة فى الأحزاب، والحركات الاجتماعية، والروابط المجتمعية الرسمية وغير الرسمية، عبر الأقنية الشرعية، التي تعتبر ركناً من أركان التركيبة المؤسسية التفاعلية للنظام السياسي. وبذلك يُشكل وجود المعارضة الإيجابية دليلاً على استقرار وحيوية النظام السياسي، بحيث تعكس قوة تلك المعارضة تماسك ونجاعة السلطة الحاكمة والعكس صحيح .
هنالك معارضة للحكومة، حيث تقوم فلسفة هذه المعارضة على الإنتقاد القوي للشكل السياسي والمحتوى الاجتماعي للدولة الوطنية التي تأسست عقب الاستقلال الوطني باعتبارها دولة لا تتساوى فيها الفرص أمام مواطنيها، ولا تعكس في هويتها الرسمية تعدد الهويات والأعراق. مع طغيان المحتوى السياسي للدول الشرق أوسطية على الحياة العامة ، فالمعارضة تواجه أزمة جمهور كبيرة ، فقد عادت هيمنة الخطاب القبلي، وتراجع الالتزام الحزبي إلى أقصى الحدود، وباتت المعارضة الطرف الأضعف في مواجهة أنظمة سياسية تسندها الدولة بمقدراتها والقبائل بأرحامها وعلاقاتها، والمال السياسي بتأثيره وفعاليته، والمؤسسة العسكرية بتأثيرها. وإلى جانب هذه العوائق، يبرز عائقان آخران يقفان في وجه المعارضة اليوم، وهما: العجز المالي بفعل الخناق القوي الذي يفرضه عليها النظام ومخاوف رجال الأعمال من المضايقة، وهو ما اضطر أقطاب المعارضة إلى التخلِّي عن بعض أنشطتها الجماهيرية بفعل العجز عن التمويل، وضعف التحليل السياسي بسبب العجز عن الوصول إلى المعلومات الدقيقة عن الوضع السياسي والاقتصادي للنظام؛ وهو ما جعل الخطاب السياسي للمعارضة بعيدًا عن العلمية والدقة في أحيانٍ كثيرة. وبناء الدولة الوطنية اليوم يحتاج ليس فقط إلى تفعيل قيم المواطنة وبناء النسيج الوحدوي للدولة، ولكن أيضا إلى تجاوز مخلفات الصراعات الداخلية وخاصة منها المسلحة، حيث تضرر الاقتصاد وتم تدمير البنية التحتية والمرافق الحيوية، وعدم الوصول إلى الحل وفشل تسويات الحوار زاد من إطالة أمد الصراعات والتي تبدو أنها لن تنتهي في الوقت القريب، بل يبدو أنه يزداد تعقدا مع التدخلات الخارجية التي تحاول الاستفادة من الوضع لصالحها وخدمة لأجنداتها الخاصة، وهو ما ينذر باستمرار حالة اللااستقرار وضعف الدول. ضعف القدرة على التعبئة السياسيَّة بسبب الصورة النمطيّة السلبيّة عن جدوى العمل الحزبي في أغلب بلدان الشرق ، بالإضافة إلى صعوبة إدماج شريحة واسعة من طلبة الجامعات ممن لديهم أشقاء عاملون في الجيش والأجهزة الأمنية، لأن في ذلك - كما يشير المشاركون - تأثير على المسار المهني للعسكريين العاملين ويضعف حظوظهم في الحصول على الاستفادة الشخصية مثل الاشتراك بالدورات والسفر، بالتالي تخسر الأحزاب السياسيَّة تعبئة شريحة واسعة من طلبة الجامعات الذين لديهم أقارب وأشقاء في هذه المؤسسات. تغييب الشباب الحزبي عن وسائل الإعلام الوطنية، والافتقار إلى وجود المنبر الوطني الذي يساهم في إيصال الأفكار والمشاركة في إيجاد الحلول للمشاكل والتحديات الوطنية، وإبداء الرأي في قضايا الشأن العام. غياب آليات العمل المشترك بين الأحزاب، يؤدي إلى غياب التنافسية السياسيَّة على البرامج الثقافية والاقتصاديَّة والاجتماعية، ويتضح من مداخلات المشاركين، ضعف اللقاءات المشتركة بين الأحزاب وغياب التنسيق فيما بينها. وأغلب الأحزاب غذت الصراعات الوطنية، أو كانت وقوداً لها، وبعضها حمل رايات أيديولوجية سرعان ما تنَكَّر لها، وأحزاب أخرى إكتفت بالحضن الأقوى، فيما راهنت أحزاب كثيرة على النزعة الشخصية لبناء زعامة فردية تبرز لفترة وتنطفيء إلى الأبد. هناك ضعف لدى هذه الأحزاب في التنظير الفكري، وضعف عدد كبير من قياداتها سياسياً وفكرياً وتنظيمياً، وكثيراً ما تتخذ هذه الأحزاب طابعاً جهوياً وشخصياً، فضلاً عن عدم ميلها للاندماج وتشكيل أحزاب كبيرة وقوية، وعدم قدرتها على توفير مصادر دخل لعملها. و"تزايد عدد الأحزاب في فضاء ديمقراطي قد يُعد مؤشراً على التعددية"، لكن "إذا كانت الأخيرة عقيمة ولا تسهم في إثراء الجانب الفكري، فإنها تعد عاملاً معرقلاً للفعل السياسي، وخاصة إذا كان ذلك في فترة التحول الديمقراطي وهي سمة مميزة لها". وتُعتبر المعارضة السياسية أحد أبرز مرتكزات القوة الشاملة للدولة. ولكي يُعتبر العمل الجماهيري حركة، فإنه يحتاج بالطبع إلى دعم ومشاركة شعبية، ولكن يجب أيضًا أن يكون هذا العمل متواصلًا على مدار مدة، وأن يؤدي عدة أدوار لا تقتصر فقط على الاحتجاج. بعبارة أخرى، تختلف الحركات السياسية عن المنظمات التقليدية، ولكنها في الوقت ذاته ليست نوبات من التحرك العفوية، بل تقع في المنتصف. لذا اعتبر مفكرون غربيون من أمثال أرسطو، وتوكفيل، وجود تلك المعارضة مؤشراً على حيوية وكفاءة النظام السياسى، داخليا وخارجيا. وعلى الرغم من الخلط بين الاحتجاج والحركة في الخطاب العادي، لكنهما ليسا شيئًا واحدًا، فالاحتجاج هو حراك تكتيكي قصير المدى، أما الحركة فهي جهد استراتيجي طويل المدى للحشد والتنظيم. من أجل فهم هذا الاختلاف بشكل أفضل، بالإضافة إلى كيفية تحويل الاحتجاج إلى الحركة. ويُعد أفلاطون من أوائل الفلاسفة الذين اهتموا بدراسة التغيرات التى يمكن أن تطرأ على البناء السياسى، أما أرسطو فكان سبّاقاً فى دراسته للثورات حيث يرى أن الثورة ظاهرة سياسية تمثِّل عملية أساسية لإحداث التغيير الذى قد يؤدى إلى استبدال الجماعات الاجتماعية ، وبالتالى جميع أنماط الحكم كلها معرضة للثورة بما فيها نمط الحكم الديمقراطى نتيجة عدم الملائمة بين ما تُريده الشعوب وما يقوم به الحكام، ويقسِّم أرسطو الثورات إلى نوعين: نوع يؤدى إلى تغيير الدستور القائم فينتقل من نظام حكم إلى نظام . وتعتبر الثورة عند سان سيمون (1)آخر، ونوع يغير الحكام فى إطار بنية النظام القائم وماركس مرحلة من مراحل التطور التاريخي التى تتصف بالحتمية نظرا لعدم ملائمة النظام القديم وضرورة استبداله بنظام آخر أكثر فعالية وتعبيرا عن الشعب، وفقا لهذا التصور تعتبر الثورة الفرنسية نموذجا لثورة استبدلت الحكومة القديمة بحكومة جديدة أكثر رشداً.
لم تكن عملية بناء الديمقراطيات لإستبدال الأنظمة غير الديمقراطية، ولن تكون، سهلة أو سريعة. فبعد عدة عقود خلت، تحولت تيارات التغيير في كثير من البلدان، وعلى الرغم من خضوعها أحيانا للتيارات المعاكسة لحركتها، نحو سياسات أكثر ً انفتاحا وتشاركية ومسؤولية. كما وعملت المستويات المتقدمة من التحضر وتحسن الدخل والتعليم ومحو الأمية على تعزيز الطموحات النبيلة في الإستقلال الذاتي والتعبير السياسي؛ الأمر الذي تسارعت وتيرته بفعل الإنتشار الواسع لتقنيات المعلومات ووسائل الإتصال الجديدة التي تُسهِّل على حركات المعارضة القيام بعمليات الحشد والتعبئة. وإذا كان التغيير السياسي لأجل تعديل الاوضاع الإجتماعية والسياسية نحو ألأفضل، ينبغي معرفة حجم التغييرات المطلوبة من جهة، ومدى إيجابية نتائج التغيير من جهة أخرى. والتغيير يكون على حجم وقوة ووعي الحراك داخل المجتمع والذي قد يكون أساسه اقتصاديا أو سياسيا أو أيديولوجيا فكريا، كما قد يكون سلميا أو عنفيا نتيجة لتغييرات داخل الدولة نفسها أو تأثرا بعوامل خارجية أو محيطة أو على حسب التوازنات الدولية.
والمعارضة السياسية هي ركن أساس لبناء النظام البرلماني، والسبب في عدم اختيار المعارضة السياسية في الغالب ناجم عن عدم رغبة جميع الاطراف السياسية، أن تخسر اماكنها في السلطة لسبب او لآخر، وبعد هذه السنوات من التجربة السياسية في العراق، نجد أن بعض الاحزاب السياسية تذكر المعارضة السياسية وهو خيار صحيح بطبيعة الحال، لكنه ناجم عن عدم رغبة الفرقاء السياسيين في تحمل مسؤولية الفشل، أو الخلل الذي عانت منه العملية السياسية العراقية. وهذه الحالة صحيحة وحالة مطلوبة لبناء النظام السياسي البرلماني بشكل صحيح في العراق، ولا نعني بالمعارضة السياسية التي يكتنفها الغموض وينظر اليها الشارع العراقي بعدم الثقة، وحتى الاطراف الاخرى أي الاطراف السياسية تنظر اليها بعدم الوثوق بها . ويرى فيه البعض أن هذه المعارضة لن تكون معارضة فعّالة وليس هدفها التقويم وتصحيح مسار العملية السياسية، وآخرون يقولون إنَّ الخيار هو خيار جدي لتصحيح العملية السياسية، ولترسيخ الديمقراطية في البلاد. ومن معرقلات تحديث المنظومة السياسيَّة وتوجيه التمويل الحكومي للأحزاب السياسيَّة لمرحلة الانتخابات فقط، يضعف الأدوار الاقتصاديَّة والبرامج الإبداعية داخل الأحزاب، حيث ان تمويل برامج تتعلق بريادة الأعمال والاعتماد على الذات في الاستثمار الاقتصادي للحزب، يعتبر دعما أكثر استدامة من الدعم المقتصر على المشاركة في الانتخابات.
و ظاهرة العنف السياسي لا ترتبط بعوامل داخلية فقط ولكن أيضا خارجية، ومن بينها تدخل دول في شؤون دول أخرى، أو تدخلات مشبوهة عن طريق تمويل جماعات إرهابية او أحزاب سياسية معينة تخدم أجندتها بهذه الدول. لقد تعثَّرَ التحول الديمقراطي بفعل هيمنة مؤسسات الحكم وغياب الإرادة في الإصلاح، وتهافت المعارضات يُعبِّر عن أحد وجهي السياسة في هذا السياق، في حين يتجلى الوجه الآخر في ضعف متنامٍ للدولة الوطنية وتآكل خطير في شرعيتها المجتمعية.
-----------------------------------
1-إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافى، الموسوعة الميسرة للمصطلحات السياسية ،الإسكندرية : مركـز الإسكندرية للكتاب، ٢٠٠٥ ص ١٤٠