تشكل انتخابات مجالس المحافظات المزمع اجراؤها في كانون الأول خطوة بالغة الاهمية في الانتقال من النظام المركزي في الحكم إلى نظام الإدارة الذاتية، حيث توفر هذه الانتخابات، رغم ما يعتريها من نواقص وخروقات، لبنة مهمة في اساس البناء الديمقراطي الذي يراد للعراق اقامته على أنقاض النظام الشمولي، وما تلاه من حالة مشوهة وغريبة تمثلت في المحاصصة الطائفية، التي تكاد تجهز على طموحات العراقيين وامانيهم المشروعة. غير ان اجراء الانتخابات وتشكيل المجالس المحلية، وحتى انطلاق نشاطها، لا يمكن ان يكون كافيا لتفعيل مبدأ الديمقراطية التمثيلية ما لم يترافق مع العمل على جعل كل ذلك تقليدا ثابتا في حياة المجتمع، والارتقاء بالثقافة القانونية بين الناخبين بشكل عام، والمنتخبين لتلك المجالس على وجه الخصوص، وهو الامر الذي لا يمكن ان يتم دون مساهمة فاعلة ونشيطة من قبل المؤسسات السياسية (الاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني)، وكذلك المثقفين والمتخصصين في مجال الدولة والقانون وغيرهم. وآمل ان تكون المادة المطروحة مساهمة متواضعة في هذا الإطار.

تشير الاثار التاريخية إلى ان المدن سبقت ظهور وانتشار فكرة الإدارة الذاتية بفترة طويلة. وإذا كان النظر إلى الاخيرة على انها أحد الخيارات لبناء المجتمع المدني، فان الحديث عن إدارة المدن، كموضوع مستقل للبحث العلمي كان ملازما لجميع مراحل تطور الحضارة المدنية وعلى مر العصور. فقد كانت مألوفة، حتى في بداية القرن التاسع عشر، على الاقل في اوساط الباحثين، فكرة مفادها ان إدارة الدولة للمدينة لا يمكنها، بأي حال، التعويض عن الإدارة الذاتية للمدن والمجمعات السكانية، بل ان الاخيرة اخذت تكتسب اهمية استثنائية مع تطور الدول وتشعب مهمات اجهزة الإدارة فيها، الامر الذي يستدعي بالضرورة نقل الكثير من المهمات إلى إدارة مرادفة تكون أكثر كفاءة وجدوى في تنفيذ الاختصاصات ذات الطابع المحلي. وفي جميع الاحوال فانه سيكون من الصعب فهم جوهر الإدارة الذاتية بمعزل عن إدارة الدولة، ذلك لأن الكثير من الوظائف لا يمكن القيام بها الا من خلال التنسيق المباشر بين اجهزة السلطة المحلية واجهزة الإدارة الذاتية.
خلال البحث في موضوعة إدارة المجمعات السكانية (المدن) تبرز مجموعة كبيرة من المعضلات والمشاكل، التي تتوقف على حلها امكانية بناء منظومة فعالة للإدارة الذاتية. وربما برز في مقدمة تلك المعضلات مسألة ايجاد الظروف المادية والتقنية المناسبة والتي يتمكن السكان بواسطتها من تفعيل إدارة أنفسهم ذاتيا. من هنا يبدو محفوفا بالمزيد من المخاطر، وحتى المجازفة، الانتقال من المركزية الشديدة، التي اتبعها النظام البائد في العراق نهجا لإدارة الشؤون المحلية، إلى الإدارة الذاتية للمدن وتوابعها (الوحدات الادارية) دون المرور بمرحلة انتقالية، يتم خلالها الاعداد اللازم، سواء المادي منه أو المعنوي، لذلك الانتقال. وفي جميع الاحوال تبدو انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة، التي اجريت في العراق، مع كل ما رافقها من خروقات تتحمل الاجهزة الانتخابية (المفوضية) المسؤولية الكاملة عنها، تبدو ضرورية على الاقل لجعل تفعيل الحق الانتخابي تقليدا دائما، ولتربية المواطن العراقي على مبادئ الديمقراطية، التي يراد انتهاجها في عراق ما بعد نظام الشمولية المقبور.
من هنا يكتسب البحث في الإدارة الذاتية، وخصوصا مبادئها الاساسية، اهمية استثنائية في ظروف العراق الحالية.
المبادئ الاساسية لتشكيل منظومة الإدارة الذاتية:
1- مبدأ التكامل والاستمرارية: والذي يعني الحيلولة دون حدوث فراغ في تركيبة (جهاز) السلطة. حيث يهدف تفعيل هذا المبدأ إلى خلق الظروف المناسبة لتوزيع السلطة وبالشكل الذي يؤدي إلى ملئ جميع الفراغات، الامر الذي يحول دون تسلل العناصر السلبية إلى إدارة تلك الاجهزة. ويبدو مبدأ التكامل مهما جدا في الدول التي تعاني من الظروف الاستثنائية وبروز ظاهرة تعاظم دور بدائل الدولة (المؤسسة الدينية العشيرة والطائفة والعصابة ....) تلك البدائل التي تمتلك من الادوات، على المستوى المحلي، أكثر مما تمتلكه الدولة لإدارة الشؤون المحلية نتيجة لاحتكاكها التقليدي مع الناس، وهو الامر الذي يؤدي، إذا ما استمر لفترات طويلة، إلى تدني منزلة قواعد الحق كناظم للعلاقات الاجتماعية وتفكك النسيج الاجتماعي وفقدان الدولة للهيبة والاهلية على تلبية احتياجات المواطنين الاساسية.
2- مبدأ التبعية: الذي يعني توزيع واعادة توزيع الاختصاصات بين المستويات الادارية المختلفة لسلطة الدولة. ويحدد تفعيل هذا المبدأ التعاقب الثابت والاستمرارية في تنفيذ صلاحيات السلطة من قبل اجهزة الإدارة، بالإضافة إلى تحديده نظام مسؤولية تلك الاجهزة امام السكان (الوحدة السكانية).
ويكون من الممكن، وفق مبدأ التبعية، ترحيل الاختصاصات إلى مستويات ادارية أعلى، شريطة استحالة تنفيذ تلك الصلاحيات من قبل المستويات الدنيا للإدارة.
ويبدو ان الدستور الامريكي (1787) كان السباق في تثبيت مبدأ التبعية، حيث نص على ان "الاختصاصات التي لم يحلها الدستور إلى الولايات المتحدة والتي لا يمنع الدستور الولايات من مزاولتها تعتبر من اختصاصات للولايات او الشعب". ويشير مبدأ التبعية كذلك إلى ضرورة التوزيع الامثل للاختصاصات بين مستويات الإدارة المختلفة.
ولمبدأ التبعية مقياسان أحدهما عمودي ويضم توزيع اختصاصات السلطة بين مستويات الإدارة ابتداء من السلطة المحلية وانتهاء بأجهزة الدولة. فالطابع الديناميكي للفعاليات الجارية في الوحدات السكانية (المدينة، القرية ...الخ) تتطلب الاخذ بعين الاعتبار التناسب بين متطلبات السكان في تلك الوحدة مع حجم الاختصاصات (الصلاحيات) الممنوحة لأجهزة ادارتها.
اما المقياس الافقي لمبدأ التبعية فيشمل طريقة واجراءات توزيع الاختصاصات بين السلطات على المستوى الفيدرالي (الاتحادي) ومستوى اقاليم الدولة، اضافة إلى المستوى المحلي.
ففي ثالوث السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية يعمل مبدأ التبعية على ايجاد تسلسل مستقر وثابت في تنظيم السياسة الاجتماعية ابتداء  من السلطة التشريعية، التي تحدد الاطر التشريعية لتلك السياسة. ومن ثم السلطة التنفيذية التي تحدد الاتجاهات الواقعية لتلك السياسة. واخيرا السلطة القضائية التي تراقب وتشرف على اليات تفعيل تلك السياسة في الظروف الاجتماعية والسياسية المعينة.
ان مبدأ التبعية يقتضي ان تكون السلطة مقسمة بين الهياكل بالشكل الذي يؤمن تقليص المسافة بين السلطة وسكان الوحدات التي تقوم (السلطة) بتمثيلهم. فيما تساعد الزيادة في عدد السكان على زيادة عدد المستويات الادارية وعلى تنسيق انشطتها، بالشكل الذي يقوم بتلبية افضل لمتطلبات السكان وظروف معيشتهم، وتوزيع المسؤوليات بين الاطراف المختلفة، المشتركة في السلطة.
3 - مبدأ الديمقراطية: الذي يهدف إلى تأمين مشاركة اوسع لسكان الوحدات في اتخاذ القرارات التي تحمل طابعا محليا. ويكمن تفعيل مبدأ الديمقراطية بإعداد البرامج لتطوير الوحدات السكانية (البلدات) اعتماد ا على جذب مواطني تلك الوحدات للمساهمة في الانشطة اليومية وتحديد اطر عمل ومسؤوليات المنظمات الشعبية الناشطة في تلك الوحدات.
ومن بين المبادئ المتفرعة عن مبدأ الديمقراطية، والتي لا يمكن ان تستقيم بدونها إدارة ذاتية ممثلة لمصالح السكان المحلية يمكن ابراز التالي:
1- انتخاب اجهزة السلطة التمثيلية.
2- وجود ملكية اجتماعية في اطار الوحدات السكانية.
3- رفض التبعية، التي تفتقر إلى اطر وآليات مقننة، في نظام الإدارة .
4- وجود الاساس التعاقدي في العلاقة بين السلطة التمثيلية والسكان.
5- تلبية متطلبات الوحدات على حساب مصادرها وامكاناتها الذاتية (اعتمادا على ما ورد في الفقرة 2).
6- اعتماد مبدأ التخصص في مجال الإدارة الذاتية الاجتماعية.
7- اعتماد مبدأ المنافسة لتولي مناصب الاجهزة البلدية.
8- اعتماد مبدأ المسؤولية امام مواطني الوحدة التي ينشط فيها جهاز الإدارة الذاتية والغاء مبدأ المسؤولية امام سلطات الدولة الرسمية.
9- الاستقلالية في اتخاذ القرارات.
10- الحماية القانونية لأجهزة الإدارة الذاتية.

ونحن بصدد الحديث عن مبادئ الإدارة الذاتية ينبغي التمييز بين مفهومي الإدارة المحلية والإدارة الذاتية. فالإدارة المحلية تمتلك نوعا من الاستقلالية السياسية وتكون بمثابة الجهاز المنفذ لسياسة الدولة في الوحدات (الاقاليم، المقاطعات، الولايات ...الخ)، فيما يتم تحديد صلاحيات الإدارة الذاتية استنادا إلى تشريعات السلطات الفيدرالية (المركزية) وبقرارات منها. وهنا بالتحديد يمكننا العثور على عناصر الانفصام بين مصالح السلطتين المركزية والمحلية. وهو الامر الذي يمكن اعتباره وسيلة مهمة من قبل السلطات المركزية للتأثير على المظاهر الانفصالية لسلطات الاقاليم.
وتعتبر الإدارة الذاتية واحدا من خيارات الإدارة المحلية، حيث تدخل في مفهوم الإدارة المحلية اشكال اخرى مثل الفيدرالية واللامركزية، اضافة إلى النظام المركزي في إدارة وحدات الدولة المختلفة.

فالفيدرالية تقوم بتحويل سلطة الدولة إلى نظام إدارة اقاليمي (جهوي ، وفق تعبير الادبيات القانونية لدول شمال افريقيا) مع احالة جملة من اختصاصات الدولة لسلطات الاقليم (او الاقاليم)، الامر الذي يعني تمتع السلطات المحلية لتلك الوحدات بالاستقلالية، التي يتوقف حجمها ومدياتها على نوع الفيدرالية والنظام السياسي السائد في الدولة.

اما نظام المركزية فانه يؤسس على قيام الإدارة المحلية بتنفيذ بعض الوظائف في وحدة ادارية معينة. ويستخدم نظام المركزية لتوسيع مجال اختصاصات سلطة الدولة المركزية عن طريق تحويل تلك الاختصاصات إلى ادارات محلية، مع وجود نظام رقابة شديد من قبل السلطات المركزية. وقد وجد الشكل المركزي في الإدارة المحلية تجلياته ابان الاستعمار الاجنبي للكثير من دول اسيا وافريقيا، وكذلك في الكثير من الانظمة الشمولية الشرق اوسطية.
وبخلاف المركزية يؤسس النظام اللامركزي في الإدارة المحلية على احالة وظائف إدارة الوحدات السكانية المختلفة للوحدات ذاتها. وتقوم الدولة اعتمادا على مبدأ اللامركزية في الإدارة بتأمين وحدة البلاد عن طريق توسيع حقوق والتزامات اقاليمها. وقد وجد تطبيقاته في فرنسا استنادا إلى قانون 1972. ويعتمد كذلك نظام اللامركزية في الدنمارك والكثير من الدول الاوربية.

ويفترض تفعيل مبدأ اللامركزية الناشئة وجود حدود واضحة وشفافة بين اختصاصات اجهزة الدولة والاجهزة البلدية. فيما يتم بلوغ اللامركزية من خلال احالة اختصاصات الدولة ومسؤولياتها إلى الوحدات لتنفيذها، مع ضمان حصول الاخيرة على مقابل مادي كثمن تنفيذها لتلك الوظائف. ويضم نظام تفعيل آلية اللامركزية العناصر التالية:
1- تحديد حجم الاحتياجات المادية والمالية لتنفيذ تلك الوظائف.
2- توثيق الصلاحيات والمسؤوليات المحالة من اجهزة الدولة إلى الإدارات الذاتية وفقا لقواعد القانون المنظم لتلك العلاقة.
3- تحديد نوعية وفاعلية اليات تحويل الاختصاصات.
وتعني اللامركزية، فيما تعنيه، وضع جزء من المنفعة الاجتماعية خارج حدود اختصاصات اجهزة الدولة، ذلك ان توفر الامكانية لدى التجمعات السكانية بإيجاد اليات مناسبة لتنفيذ وظائف ذات صفة محلية، سيوفر على الدولة وتلك التجمعات المزيد من الجهد وسينمي لدى الإدارة الذاتية روح المبادرة والثقة بالنفس والاستقلالية في اتخاذ القرار وتنفيذه.
انني ارى ان اجراءات عاجلة وضرورية ينبغي على جهاز دولتنا التشريعي القيام بها لتفعيل مبدأ الديمقراطية التمثيلية على المستوى المحلي وتأمين إدارة ذاتية فاعلة، وربما كان سن قانون للأحزاب السياسية وقانون انتخابي يحدد بوضوح وشفافية اطر تنظيم العملية الانتخابية ومصادر تمويل الحملات الانتخابية، بالإضافة إلى اعادة تشكيل الاجهزة الانتخابية بعيدا عن تأثير الانتماءات الطائفية والعرقية ...الخ، ربما كان كل ذلك اولى الاجراءات التي ينبغي القيام بها لتأمين الإدارة الذاتية الحقيقية.

عن أهمية انتخابات مجالس المحافظات) *الدكتور فلاح اسماعيل حاجم مرشح الحزب الشيوعي العراقي ضمن تحالف قيم المدني/ رقم القائمة (٢٠٣) / التسلسل (٥).