هل فاجأ إعصار ضواحي باريس خلال الاسبوع الماضي الاحتجاجي الحكومة والنخب السياسية؟ وهو الإعصار الذي هب إثر مقتل الفتى نائل في نقطة تدقيق مرورية على يد ضابط شرطة، لعل المفاجأة فقط في توقيت الإعصار، مع أن فرنسا شهدت عشرات الحوادث المشابهة والتي راح ضحيتها ابناء من الضواحي على خلفية مخالفات مرورية، أما عنف الهيجان العفوي الكاسر فلعل يفسره مخزون الغضب الهائل المتراكم، وهؤلاء الصبية والمراهقون لم يقرأوا لا قوانين الدولة ولم ينتموا لا لتنظيمات علنية مشروعة ولا سرية لتنظيمات. ومع ذلك لم يكن متوقعاً أن يكون الإعصار حجمه بهذا الأتساع ليشمل المدن الكبرى، ولا أن يصمد طوال أسبوع كامل، رغم القمع الوحشي التي تلقاها المحتجون واعتقال الآلاف منهم على أيدي الشرطة. 


والحق ما كان ينبغي أن يفاجأ هذا الإعصار الذي ضرب "مدينة الأنوار" وهز هيبتها ولمعانها أمام العالم، نقول ما كان ينبغي أن يفاجأ الرئيس ماكرون وحكومته، ولا النخبة السياسية، فكل الأوضاع المأساوية التي يحياها شعب الضواحي من مختلف النواحي المعيشية والإسكانية، علاوة على ارتفاع نسبة البطالة في صفوفهم، وهي أوضاع تتراكم منذ عقود، إنما كانت تنذر بالانفجار في أي وقت في وجوه متسببيها الطبقيين. وكان جرس الانذار الأقوى انفجار 2005 الذي لم تتعظ منه البتة الطبقة السياسية الرأسمالية الحاكمة، ثم تبعته انفجارات متقطعة أقل شدة، وصولاً إلى الإعصار الأخير الأكثر شدةً وهيجاناً. وحدهم المتغابون أو المتعامون عن تلك الأوضاع المزمنة هم الذين بوسعهم أن يتظاهروا بمباغتة الانفجار لهم. على أن الإعصار الكاسح لا يخلو أيضاً من دلالة تاريخية، فقد جاء متزامنا مع الذكرى 55 للانتفاضة الطلابية الشهيرة 1968والتي أجبرت تبعاتها السياسية الرئيس شارل ديجول على الاستقالة، هو الذي نعت المتظاهرين ب "يسار متطرف" أو " مسخرة"، طبقاً لما ذكرته فلورنس جوتييه إحدى القياديات في الانتفاضة الطلابية والتي أضحت لاحقاً أستاذة زائرة في جامعة باريس السابعة. وكان هذا  أقصى ما تفوه به حينذاك أعلى مسؤول في الدولة. وكانت صولات الطلبة المتظاهرين قد قادتهم لاكتشاف "عالم الضواحي" ، أو كما أسمتها جوتييه "المدينة الضخمة" المهمشة الفقيرة (داخل باريس الكبرى) وسكانها هم من المهاجرين والنساء و" أشباه البروليتاريا" على حد تعبيرها، في حين جاءت أوصاف أركان حكومة الرئيس ماكرون، بل وأعضاء في البرلمان وأحزاب اليمين المتطرف، بحق أطفال وصبية وشباب الضواحي فهي تنضح بأحط وأقذر النعوت العنصرية بلا خجل ولا مواربة!
ولعل الرئيس شيراك كان الأكثر واقعية في تعليقه على أزمة الضواحي المستديمة بين نظرائه الرؤساء المتعاقبين منذ 1968 : " المهاجرون لم يأتوا بمفردهم، إنما تم جلبهم بالشاحنات والقوارب؛ لأن فرنسا بحاجة للعمالة في المناجم وصناعة السيارات، وجميع الصناعات الملوثة التي يرفضها الفرنسيون" ونضيف إليها سائر المهن الوضيعة.

وإذا كان من الصحيح أنه صُرفت بضع مليارات من اليوروهات على الضواحي لتحقيق بعض الإصلاحات الشكلية، إلا أنه من الصحيح جميعها كانت دون الحد الأدنى المطلوب. أما الشعار الذي رفعته الحكومة بأن حددت "الأحياء الأكثر أولوية" للإعمار والتنمية والبرامج الاجتماعية لسكان الضواحي الذين بدوا وكأنهم يعيشون على كوكب آخر مجهول خارج تغطية الأرصاد الفلكية الفرنسية"، إنما سرعان ما تبخر، مثله مثل وعود ما كرون للضواحي في حملته الانتخابية الذي رُجحت كفة فوزه بفضل أصوات الضواحي. عدا ذلك فإن الإصلاحات التي تمت لم تعالج جذور الأزمة العميقة التي يتجدد انفجارها بين حين وآخر. الأخطر من هذا وذاك فإن أسلوب تعامل حكومة ماكرون مع الانفجار الأخير جاء كتعامل الشرطة في احتقارهم، وهذا ما يصب الزيت على النار ودخان الحرائق لم ينقشع بعد، دون توخي ولو تهدئة مؤقتة، وهو ما يعزز النظرة الدونية الطبقية بنكهة عنصرية تجاه سكان الضواحي تحديداً، دون مبالاة الحكومة واليمين المترف بعواقب هذا المسلك العنصري في تمهيد التربة لانفجار جديد مُقبل سيكون أكثر خطورة لأن سيفجر عندئذ بركان الغضب في كل فرنسا لا الضواحي فقط، وحينها ستكون فرنسا منقسمة إلى معسكرين طبقيين متواجهين. ولنتأمل في ردود فعل وتصريحات اليمين المتطرف التصعيدية التي اتخذت منها الحكومة ليس موقف المتفرج فقط، بل المبارك والمشارك، بينما رئيس كل الفرنسيين أخذ موقف المتفرج: 

فقد وصفت سكان الضواحي واحدة من أكبر نقابات الشرطة Alliance de pooice francaise المتعاطفة مع قوى اليمين الفرنسي المتطرف بزعامة مارين لوبان، وصف سكان الضواحي ب " الفيالق المتوحشة" ما يُذكّرنا بما وصفه إيّاهم الرئيس السابق ساركوزي ب " اللصوص" والذي أستعاره من الرئيس المصري الراحل السادات لانتفاضة 1977 الشعبية التي احتقرها وسمّهاها " انتفاضة الحرامية". وعلى هذا النحو رفض يرونو لومير، وزير الاقتصاد والمال، دون أن يرف له جفن، تخصيص أي مبالغ جديدة طارئة لتمويل برامج اجتماعية وسكنية وثقافية لأكثر الأحياء منكوبية في "عالم الضواحي". أما إريك سيوتي (رئيس حزب الجمهوريين التقليدي) فقد كان أكثر فظاظة، بحيث طالب بفرض غرامات مالية على العائلات التي خرّب ونهب أطفالها وصبيانها الممتلكات العامة والخاصة، وهو التصريح الذي يتناغم مع تصريح ماتيو فاليه المسؤول النقابي في قطاع الشرطة الذي أضاف إليه بوجوب تشغيلهم في أعمال بالسخرة، إذا ما عجزوا عن دفع الغرامات المطلوبة! وأخيراً بادر اليميني المتطرف جان مسيحة، ذو الأصل المصري للأسف، بإنشاء صندوق تبرعات للشرطي المتهم بقتل نائل المرزوقي، وهو ما يزال قيد التحقيق، وتم جمع أكثر من مليون يورو، وجاءت هذه المبادرة رداً على صندوق التبرعات لعائلة نائل الذي لم يجمع سوى أقل من نصف هذا المبلغ. ثم ما قيمة الأموال التي ترصدها الدولة للضواحي، على ضآلتها، وابنائها يعاملون يومياً بأسلوب تمييزي احتقاري فاضح يُدمي كرامة الإنسان في دولة ما فتئت تتشدق بقوانين” الجمهورية" وحقوق الإنسان المستمد - كما يُفترض- من الثورة الفرنسية العظيمة!   

 نُسب للإمام علي قوله: "احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع" ولعل ما حدث خلال الأسبوع الماضي في فرنسا من أعمال عنف وتخريب، قام بها أطفال وفتيان ومراهقو الضواحي من جهة، والقمع الوحشي للشرطة واعتقال آلاف القُصّر والمراهقين من جهة اخرى، عدا عن ردود الفعل الاستفزازية وردود فعل للحكومة وقوى اليمين المتطرف التصعيدية من جهة اخرى، هو بالضبط ما يُعبّر عن صولة الجائع في مواجهة صولة الشبعان في آن واحد. 

عرض مقالات: