تعمل الحكومة الأمريكية بلا كلل على تشويه التصورات العامة للماضي، فيما يتعلق بحرب أوكرانيا، حيث تكرر إدارة بايدن بلا توقف الادعاء، أن حرب أوكرانيا بدأت بهجوم "غير مبرر" من جانب روسيا على أوكرانيا في 24 شباط 2022، لكن الولايات المتحدة هي في الواقع من قاد إلى الحرب، بطرق توقعها كبار الدبلوماسيين الأمريكيين. قبل أندلاعها بعقود، مما يعني أن تجنبها كان ممكنا، كما أن إيقافها الآن عن طريق التفاوض واجب.

ربما كان النهج الأفضل لروسيا هو تكثيف الدبلوماسية مع أوروبا والعالم غير الغربي لشرح ومعارضة نزعة العسكرة والهيمنة الأمريكية. والواقع أن الدفع الأمريكي المستمر لتوسيع الناتو يواجه بمعارضة واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم، وكان من المحتمل أن تكون الدبلوماسية الروسية أكثر فاعلية من الحرب.

يستخدم فريق بايدن نعت "غير المبررة" باستمرار لوصف الحرب، وآخرها ما ورد في خطاب الرئيس بايدن في الذكرى السنوية الأولى للحرب، وفي بيان مجموعة السبع وفي بيانات الناتو. وببغائية تتبنى هذا الوصف وسائل الإعلام المؤيدة للحرب، وتكرر وصف "غير المبررة" ما لأ يقل عن 26 مرة في خمسة مقالات افتتاحية، وسبعة مقالات، و14 عمود رأي لكتاب صحيفة نيويورك تايمز.

وفي هذا الوصف أنكار لأستفزازين أمريكيين رئيسيين، أولهما توجه الولايات المتحدة لتوسيع الناتو ليشمل أوكرانيا وجورجيا، لأستكمال محاصرة روسيا بدول للناتو في منطقة البحر الأسود (أوكرانيا، رومانيا، بلغاريا، تركيا وجورجيا)، وثانيهما الدور الأمريكي في أقامة نظام معاد للروس في أوكرانيا، من خلال الأطاحة العنيفة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش في شباط ـ فبراير 2014.

بدأت الحرب وإطلاق النيران في أوكرانيا، في ذلك التأريخ، أي قبل تسع سنوات، وليس في شباط ـ فبراير 2022، كما تريد الحكومة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي وزعماء مجموعة السبع أن يقنعونا.

يرفض بايدن وفريقه للسياسة الخارجية مناقشة جذور الحرب هذه، لأن الأعتراف بها من شأنه تقويض رواية تلك الأدارة، على ثلاثة مستويات، أولا: أنه يفضح حقيقة أنه كان يمكن تجنب الحرب، كما كان يمكن أيقافها في وقت مبكر، وتجنب تدمير أوكرانيا، وتجنب خسارة الولايات المتحدة أكثر من مئة مليار دولا حتى الآن. ثانيا: فضح الدور الشخصي للرئيس بايدن في عملية إسقاط يانوكوفيتس، ودوره كـداعم قوي للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وداعم لتوسيع الناتو. ثالثا: أحتمال أن يؤدي الكشف عن هذه الحقائق الى دفع بايدن الى طاولة المفاوضات، بما يقوض مسعى ادارته المستمر لتوسيع الناتو.

تظهر وثائق الأرشيف بشكل لا لبس فيه أن الحكومتين الأمريكية والألمانية قد وعدتا الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، مرارا وتكرارا، بأن الناتو لن يتقدم "بوصة واحدة باتجاه الشرق" عندما حل الإتحاد السوفييتي حلف وارشو. ومع ذلك بدأ التخطيط الأمريكي لتوسيع الحلف في أوائل التسعينات. وقبل أن يصبح فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا بوقت طويل، في عام 1997 أوضح مستشار الأمن القومي الأمريكي زيغينيو برجينسكي بدقة ملفتة الجدول الزمني لتوسيع الناتو.

 كان الدبلوماسيون الأمريكيون وقادة أوكرانيا يعرفون جيدًا، أن توسيع الناتو يمكن أن يؤدي إلى الحرب، ووصف الباحث السياسي الأمريكي الكبير جورج كينان توسيع حلف الناتو بأنه "خطأ مصيري"، وحذر في مقال نشره في نيويورك تايمز من أن ذلك قد يؤدي الى تأجيج النزاعات القومية والمعادية للغرب وتوجهاته العسكرية، بين أوساط الرأي العام الروسي، ويحيي أجواء الحرب الباردة في علاقات الشرق بالغرب وينعكس سلبا على تطور الديمقراطية الروسية، بما يدفع السياسة الخارجية الروسية باتجاهات لا تروق لنا.

وفي مذكراته التي نشرها عام 2016 كتب وزير الدفاع في حكومة بيل كلينتون ويليام بيري الذي استقال احتجاجا على توسيع الناتو: كان أول عمل لنا في هذه اللحظة الحاسمة منتصف التسعينات بأتجاه سيء، حيث بدأ العمل على توسيع الناتو، وضم دول من شرق أوربا على حدود روسيا إلى الحلف. في ذلك الوقت كنا نعمل عن كثب مع روسيا، وبدأوا هناك في التعود على فكرة أن الناتو يمكن أن يكون صديقًا وليس عدوا، لكنهم كانوا غير مرتاحين جدًا لوجود الناتو مباشرة على حدودهم، وتوجهوا لنا بنداء قوي بعدم المضي قدما في ذلك.

المدير الحالي لوكالة المخابرات الأمريكية ويليام بيرنز، الذي كان سفيرا للولايات المتحدة في موسكو عام 2008، أرسل من هناك تقريرا مطولا حذر فيه من المخاطر الجسيمة لتوسيع حلف الناتو، قال في جانب منه: أن تطلعات أوكرانيا وجورجيا للإنضمام الى الناتو لا تمس وتراً حساساً في روسيا فحسب، بل إنها تولد مخاوف جدية بشأن عواقب ذلك على الاستقرار في المنطقة. روسيا لا تعي فقط الحصار والجهود المبذولة لتقويض نفوذها في المنطقة، بل هي تخشى أيضا من عواقب لا يمكن التنبؤ بها، وخارجة عن السيطرة، من شأنها التأثير على المصالح الأمنية الروسية، ويخبرنا الخبراء أن روسيا قلقة بشكل خاص من أن الانقسامات القوية في أوكرانيا حول عضوية الناتو، حيث أن مناهضة الكثير من روس أوكرانيا للعضوية، يمكن أن يؤدي الى أنقسام كبير، قد يتطور في أسوأ الأحوال الى عنف أو حرب أهلية. وهو وضع لا ترغب روسيا في مواجهته، لأنه سيتعين عليها أن تقرر ما إذا كانت ستتدخل في النزاع.

قادة أوكرانيا كانوا بدورهم يدركون بوضوح أن الضغط من أجل توسيع الناتو ليشمل أوكرانيا سيعني الحرب، حيث أعلن مستشار زيلينسكي السابق أولكسي أريستوفيتش في مقابلة له عام 2019: "أن ثمن انضمامنا الى الناتو هو حرب كبيرة مع روسيا".

خلال الفترة 2010 ـ 2013 دافع يانوكوفيتش عن الحياد، بما يتماشى مع توجهات الرأي العام الأوكراني، فعملت الولايات المتحدة على الأطاحة به كما يكشف شريط مصور يظهر مساعدة وزير الخارجية حينها فيكتوريا نولاند، والسفير الأمريكي في كييف جيفري بيات، يخططان لحكومة ما بعد يانوكوفيتش قبل أسابيع من الإطاحة به، وفي مكالمة هاتفية مع نولاند أوضحت أنها كانت تنسق عن كثب مع نائب الرئيس آنذاك بايدن ومستشاره الحالي للأمن القومي جاك سوليفان، الذي يحتل الآن قلب السياسة الأمريكية تجاه أوكرانيا.  

بعد الإطاحة بيانوكوفيتش، اندلعت الحرب في دونباس، وطالبت روسيا بشبه جزيرة القرم، بينما طالبت الحكومة الأوكرانية الجديدة من جانبها بعضوية الناتو، وقامت أمريكا بتسليح الجيش الأوكراني وساعدت في إعادة هيكلته، لجعله قابلا للعمل المشترك مع الناتو. وفي عام 2021 أكد كل من بايدن وقيادة حلف الناتو الألتزام بقوة بمستقبل أوكرانيا في الناتو.

في الفترة التي سبقت الغزو الروسي مباشرة، احتل توسع الناتو مركز الصدارة في الأهتمامات الروسية، وفي السابع عشر من كانون الأول ـ ديسمبر 2021 طالبت مذكرة روسية موجهة الى الولايات المتحدة وحلف الناتو بوقف توسيع الحلف، في تحذير بأن ذلك التوسع سيكون سببا لحرب. وكرر بوتين ذلك في اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي، وفي خطابه الى الأمة الروسية في 21 شباط ـ فيراير 2022

مؤخرا كتب المؤرخ جيفري روبرتس أن وقف الحرب ممكن من خلال صفقة روسية ـ غربية تقوم على وقف توسع الناتو، وحياد أوكرانيا، مقابل ضمانات قوية لأستقلالها وسيادتها. وفي مارس 2022 أعلن الجانبان الأوكراني والروسي، عن إحراز تقدم نحو حل تفاوضي سريع للحرب على أساس حياد أوكرانيا، ووفقا لرئيس الوزراء الأسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت الدي سعى الى التوسط لأنهاء الحرب، فأن أتفاقا بشأن ذلك كان على وشك أن يبرم، قبل أن تحول دونه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا.

وفيما تعلن إدارة بايدن أن الغزو الروسي غير مبرر، اتبعت روسيا عام 2021 خيارات دبلوماسية لتجنب الحرب، رفضها بايدن، وأصر على أن روسيا ليس لها رأي على الإطلاق في مسألة توسيع الناتو. وجنحت روسيا إلى الدبلوماسية في آذار (مارس) 2022، وتدخل فريق بايدن مرة أخرى لمنع نهاية دبلوماسية للحرب.

من خلال الأعتراف بأن مسألة توسيع الناتو تقع في قلب هذه الحرب، فإننا نفهم سبب عدم إنهاء تدفق الأسلحة الأمريكية على أوكرانيا، وستصعد روسيا حسب الضرورة لمنع توسع الناتو ليشمل أوكرانيا.

مفتاح السلام في أوكرانيا هو التفاوض حول حيادها، وأصرار إدارة بايدن على توسيع حلف الناتو ليشمل أوكرانيا يجعل منها ضحية لطموحات عسكرية أمريكية خاطئة وغير قابلة للتحقق.

_______________________________

نص المقال باللغة الأنغليزية

https://www.commondreams.org/opinion/the-war-in-ukraine-was-provoked-and-why-that-matters-if-we-want-peace


* جيفري د. ساكس أستاذ جامعي ومدير مركز التنمية المستدامة بجامعة كولومبيا، حيث أدار معهد الأرض من عام 2002 حتى عام 2016. وهو أيضًا رئيس شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة ومفوضًا في لجنة النطاق العريض التابعة للأمم المتحدة.