مُقدمة:

نتجَ من انتقال كارل ماركس الفيلسوف وعالم الإقتصاد السياسي والثوري الألماني من مبدأ الديمقراطية الثورية إلى الشيوعية الثورية في عام 1844، تطوّرٌ كبيرٌ في الصراع الطبقي.

وفي مقالين له نُشرا 1844 بعنوان «في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل» يكشف ماركس لأول مرة الدور التاريخي للبروليتاريا و يصل إلى النتيجة القائلة بحتمية الثورة الاجتماعية، و ضرورة توحيد حركة الطبقة العاملة مع نظرة علمية إلى العالم.

 و في ذلك الوقت كان ماركس قد إلتقى بإنجلز و بدأ الإثنان يصوغان بطريقة منهجية نظرة جديدة للعالم تُوّجت أعمالهما في صياغة البيان الشيوعي عام 1848.

 إن هذا المُؤلَف «يضع الخطوط العريضة لتصور جديد للعالم، هو المادية المُتماسكة،  ويضم الجدل بإعتباره أكثر نظريات التطور شمولاً و عمقاً، و نظرية صراع الطبقات ، و الدور الثوري التاريخي العالمي للبروليتاريا – خالقة المجتمع الشيوعي الجديد» (كما وصفه لينين).

ألهمتْ هذ الأفكار  الطبقة العاملة في البلدان الأوروبية وخاصة المتقدمة منها صناعياً وبدأ العمال بتنظيم أنفسهم عبر تشكيل منظمات وأحزاب  سياسية: إشتراكية، وإشتراكية ديمقراطية، وشيوعية ونقابات للدفاع عن حقوقهم. وقد نجح الثوري الروسي فلاديمير  إيليتش لينين في انتزاع السلطة من الحكومة البرجوازية الروسية في أكتوبر 1917 وإقامة أول سلطة  للطبقة العاملة بالتحالف مع الفلاحين .

كان لثورة اكتوبر الاشتراكية العُظمى صدىً مُدوياً ليس في أوروبا وحدها بل وفي كل قارات العالم. وعلى أثر الإنتصار العظيم الذي حققته ثورة البلاشفة الروس وقيام  الدولة السوفيتية ونشوء وتطور الطبقة العاملة في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تشكلت الكثير من الإحزاب الديمقراطية واليسارية ( إشتراكية، وإشتراكية ديمقراطية، وشيوعية) وتعددت مرجعياتها الفكرية ونهوجها السياسية من ماركسية، وماركسية -  لينينية،  وتروتسكية، وماوية و التجربة الألبانية وغيرها.

ومن بين الإحزاب الشيوعية الأوروبية التي تأسست بعد فترة قصيرة من انتصار ثورة اكتوبر   يأتي الحزب الشيوعي الدنماركي، الذي تأسس في عام 1919.

شهد الحزب الشيوعي الدنماركي انتعاشاً وإزدهاراً في فترات معينة كما شهد إخفاقات وتراجعات وإنقسامات في فترات أخرى، وذلك بسبب الإجتهادات في تطبيق النظرية ، وإختلاف  المدارس الفكرية ، وتبعاً للظروف الدولية التي سادت ، والظروف السياسية الداخلية في البلد.

لقد أدت هذه الإنقسامات إلى ضعف الحزب الشيوعي الدنماركي وتهميش دوره على صعيد البرلمان وعلى الساحة السياسية بشكل عام، وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وهيمنة الإقتصاد الرأسمالي والليبرالية الجديدة ، والهجوم على القطاع العام في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة ودول أوروبا الشرقية لصالح إنعاش القطاع الخاص واتباع سياسة الخصخصة. كشفت الازمة الاقتصادية العالمية في 2008 وبعدها بسنوات وباء كورونا عجز النظام الرأسمالي في ضمان الأمن والسلم العالميين، والحفاظ على بيئة نظيفة، وتوفير الضمانات الصحية الكافية للمواطنين . ها هي الامبريالية الامريكية بليبراليتها المتوحشة قد أعدّت وخططت من جديد لحرب قذرة على الأراضي الاوكرانية مُعرضة بذلك الأمن والسلم العالميين الى خطر، وخَلقتْ مشكلات وأزمات عالمية كبيرة في مجالي الطاقة والغذاء، كان بالإمكان تفاديها بسهولة من خلال إعطاء ضمانات أمنية لروسيا الإتحادية بعدم دخول أوكرانيا للناتو. ورافق هذه السياسة صعود اليمين واليمين المتطرف في اوروبا، وهجوماً على مكتسبات الطبقة العاملة وزيادة استغلالها لصالح أرباب العمل ، وتراجع في الرفاهية الإقتصادية والإجتماعية.

دفع هذا الوضع المجموعات الشيوعية المنقسمة إلى التقارب فيما بينها وإيجاد صيغ للتعاون والتنسيق، ومحاولات لإعادة وحدة الحزب وإستعادة مكانتة المفقودة.

هذه الأجواء الإيجابية التي أراها أمام أعيني هي التي حفزتني على إلقاء نظرة على تاريخ الحزب الشيوعي الدنماركي وتجربته النضالية بإيجابياتها وسلبياتها، وسعيَه نحو رص صفوفه المبعثرة عبر إعادة التوحيد.

إن اي نجاح سيتحقق في هذا المجال سيترك أثره الايجابي على الانقسامات الحاصلة داخل الأحزاب الشيوعية الأخرى، ويدفع بها نحو توحيد جهودها وتقوية نفوذها ، ولا سيّما ونحن مقبلون على عالم متعدد الاقطاب لن يكون بمقدور الامبريالية الأمريكية فرض هيمنتها على سيادة الدول المستقلة كما جرى في السابق ، وسوف لن تتمكن من إعاقة نشاط الأحزاب الشيوعية واليسارية بشكل عام في ظل توازن جديد للقوى الدولية.

ونظراً لطول مادة البحث سأحاول  نشرها على عدة أجزاء:

الجزء الأول

تأسس الحزب يوم 9 نوفمبر 1919 في مؤتمر عُقِد في مدينة فريدريسيا الدنماركية من قِبل ثلاث مجموعات مُنشقة عن الاشتراكية الديمقراطية(١)

 1) نُشطاء من أقدم جناح يساري مُنظم في الدنمارك (تجمّع النقابات المعارضة) ، والتي كانت تعمل بشكل أساسي داخل النقابات العمالية.

 2) أعضاء اتحاد الشباب الاشتراكي الديمقراطي المناهض للعسكرة ، والذي طوّر خلال الحرب العالمية الاولى نقداً لسياسة الاشتراكية الديمقراطية الرسمية.

 3) حزب العمال الاشتراكي ، الذي تأسس في ربيع عام 1918 على يد اشتراكيين ديمقراطيين يساريين سابقين.

  وإتّخذ له اسم  الحزب الإشتراكي اليساري الدنماركي.

 في عام 1920 ، غَيّر الحزب إسمه إلى الحزب الشيوعي الدنماركي - وأصبحَ جزءاً من الأممية الشيوعية(الكومنترن)(٢). كان الحزب قد إستوحى أفكاره من الثورة الروسية عام 1917 ، عندما استولى البلاشفة على السلطة في روسيا. وبقي الحزب الشيوعي الدنماركي هو الحزب السياسي الدنماركي الوحيد الذي يقف على يسار الاشتراكية الديموقراطية حتى نهاية الخمسينيات.

 ************************

(١) ويكيبيديا

(٢) الموقع الإلكتروني للحزب الشيوعي الدنماركي  DKP.

عرض مقالات: