في نص تعريفي تقدمه دوائر السياسة الأمريكية عن طبيعة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية          USAIDوكالة تابعة لحكومة الولايات المتحدة الفيدرالية ومسؤولة في المقام الأول عن إدارة المساعدات الخارجية المقدمة (للمدنيين). حيث تصف الوكالة عملها بالسعي لمساعدة الشعوب التي تعاني من عديد المشاكل وفي المقدمة منها الاقتصادية، لتحسين ظروف معيشتها وللتعافي من الكوارث، وتكافح للعيش في أوضاع حرة وديمقراطية. وحددت الوكالة أهدافها والتي تتضمن توفير المساعدة الاقتصادية والتنموية والإنسانية حول العالم "لدعم تنفيذ السياسات الخارجية للولايات المتحدة".

 الجملة الأخيرة من التعريف بوكالة التنمية، تبدو في نهاية المطاف دالة كاشفة لعمق الأهداف وأبعادها الإستراتيجية، وظهرت في الكثير من المنعطفات التاريخية كونها الغاية والدافع لمجمل تلك المساعدات السخية المقدمة بحجة دفع الشعوب المكافحة لنيل حرياتها ودمقرطة حياتها السياسية والاجتماعية. أي دون مواربة وفذلكة، وعلى المدى القريب والبعيد، تنفيذ أهداف الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية.

 لم تبخل الولايات المتحدة ومنذ آماد بعيدة بتقديم تلك المساعدات التي تسبقها دائما سياقات عمل وبرامج معدة لترتيب الخطط ووضعها في سياقات ممنهجة للتعامل مع أوضاع مناطق وبلدان ذات طبيعة محددة، تدخل ضمن اهتمامات الإدارة الأمريكية وتعطي بعدا حيويا للمشاركة ودعم وتنفيذ سياساتها:

ففي عام 2004 أشيع بأن الإدارة الأمريكية سوف تعلن في حزيران منه، عن برنامج واسع حول الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تشمل العالم العربي وتمتد لتحتوي محيطه الواسع أيضا. البرنامج أو المشروع الذي عرض، يحدد توجهات الإدارة الأمريكية للتعامل مع المنطقة وفق أسس ورؤية سبق أن أعلن عنها في مناسبات عديدة. وتتركز جلها في ثلاثة محاور. الأول دمقرطة المنطقة!! والثاني ربطها بالاقتصاد الدولي وبالذات الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة، والمحور الثالث يتمثل بتخليصها من مفاهيم العداء المتوارث للسياسة الأمريكية، وإشراكها في الجهود المبذولة لمحاربة الإرهاب.

تضمن مشروع الإدارة الأمريكية للتنمية، طيفا واسعا من المفاهيم المعرفية ومبادرات للشراكة المصممة خصيصا لتقديم المساعدة، لقيام البلدان المعنية، بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويشمل المسعى هذا تقديم العون المادي والمعنوي الدبلوماسي وغير الدبلوماسي للنشاطات المهنية والاجتماعية، للذين يرغبون في المشاركة بقيادة المجتمع والدولة، من خلال خلق مبادرات ايجابية لإنجاح مهام منظمات المجتمع المدني وحركات التنوير، وتعزيز البرامج الحيوية لمعالجة مشاكل حقوق الإنسان. على أن تدرس المبادرة وتعالج مشاكل وتشوهات تعاني منها مجتمعات الشرق أوسط في محاولة لإماطة اللثام عن طبيعة ونوع العوائق ومن ثم وضع الحلول لها ليتم معالجتها.

صبت المبادرة أعلاه وموضوعاتها على جهد المشاركة في التغيير، من خلال التأثير بأسلوب الصدمة، وأيضا تغذية المبادرات الداخلية المرنة والممنهجة والمنتقاة بعناية التي ستشارك فيها النخب السياسية. ومع كل تلك الاستعدادات لزج القدرات في عمليات الشراكة نجد أن المبادرة خلت من توضيح أو بيان أو دراسة التأثير السلبي في فرض الخيارات القسرية من الخارج، وإقصاء التحولات أو التغييرات التي تقدم وفق المبادرات الوطنية، مما جعل المشروع يظهر ناقصا وهشا تجاه رغبات الطرف الأخر، الموجب تفعيل مشاركته والسماح لخياراته بالتفاعل والنجاح.

من خلال جميع الوثائق الصادرة عن الإدارة الأمريكية وأيضا الدراسات التي قدمها الباحثون المقربون منها وكذلك المقالات التي كتبها محررو الصحف من المؤازرين لتوجهاتها، يشار إلى أن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي دائما ما كان يشكل تهديدا متزايدا لاستقرار العالم ومصالح الدول الصناعية الكبرى، لأسباب تتعلق أكثرها باحتواء ذلك العالم على خزين هائل من منظومات التفكير الطارد، وأنماط من مجتمعات تضمر العداء الديني والقومي (غير المبرر!!) للولايات المتحدة وحلفائها.

أغلب هذه الدراسات والبحوث دائما ما تغاضت عن أخطاء وخطايا الإدارة الأمريكية، ولم تصنفها ضمن العوامل الطاردة أو المسببة لذلك العداء والنفرة، وتهمل الطريقة البرغماتية في تعامل الغرب مع تلك الشعوب، والتعديات والقسر والجرائم التي يرتكبها الرأسمال العالمي في مواجهة طموح وتطلعات تلك الشعوب نحو الحرية وامتلاك خيراتها الاقتصادية والحفاظ على استقلالها وخصوصياتها الوطنية.

ليس غريبا أن تثير سياسات الوكالة الدولية للتنمية أعجابا شديدا لدى صانعيها، ولكنها في نهاية المطاف وبسبب محتواها العام وأساليبها القسرية، تقوي من عزيمة المضادين والرافضين لنظريات الإملاء وفرض الحلول، بعد أن يشعروا بكمية الإقصاء الذي تحويه تلك المشاريع والبرامج الموجهة لهم بالذات، مما يعني بقاءهم مهمشين وغير مرغوب فيهم، ويعاملون كفئران تجارب. رغم تأكيد البرنامج على الشراكة ووجود الآخرين كأدوات منفذة وواجب مشاركتهم الفعلية في تنفيذ جزئياته.

ففي الوقت الذي تعلن الإدارة الأمريكية سعيها لنشر مفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية، نشاهدها تقدم العون للكثير من حكومات البلدان المعنية بالمبادرة، وبالذات من الذين يمثلون النوع الأكثر قدرة على انتهاك تلك الحقوق وخنقها. وتبدو مشاركة الإدارة الأمريكية فاعلة وذات تأثير صادم في إسناد ودعم هؤلاء الحكام في مواجهة شعوبهم. تلك الازدواجية في المعايير والتفاضل، جعلت بعض مجتمعات مشرقية تتبنى خيار العداء لكل ما يصدر عن الولايات المتحدة حتى في الحالات الإيجابية. وهي محقة في هذا. فمسألة حقوق الإنسان والعدل الدولي والسلام والحريات والديمقراطية، لا يمكن أن تخضع للانتقائية أو خيار المصالح، إن أريد لها أن تنمو بشكل طبيعي ومقنع.

عند هذه الإشكالية الحقيقية تواجهنا الكثير من الإجابات المقنعة عن ازدواجية المعايير لدى الإدارة الأمريكية، وخير دليل على ذلك الدعم المطلق الذي تقدمه لأصدقائها في منطقتنا وشرق وغرب آسيا وبالذات لحليفتها إسرائيل بالضد من حقوق وتطلعات الشعب الفلسطيني. وتلاقي التعديات اليومية الوحشية للسلطات الإسرائيلية الكثير من الدعم والتعتيم من قبل السياسيين في الإدارة الأمريكية، وهناك الكثير من الأمثلة العيانية التي تبدو حقيقية ومقنعة، لتأشير ذلك الخلل الأخلاقي السياسي، الذي يدفع لطرح التحفظات الكثيرة تجاه المشروع الأمريكي حتى بين أصدقائها في المنطقة.

 فالاعتقاد الغالب بان ثقافة الغرب وأمريكا ليست بقيم عالمية لكي تفرض، فهناك ثقافات أخرى يجب الاعتراف بها واحترامها، وبدلا من إعطاء محاضرات إرشادية في الأخلاق والثقافة، على الغرب وأمريكا احترام عادات وتقاليد تلك الشعوب الشرقية، التي ترفع الصوت دائما بالقول، لماذا تنظرون لنا كحقول تجارب وشعوب طارئة على التاريخ، رغم أن التاريخ بدأ من وجودنا على هذه الأرض قبل أن تتكون حضاراتكم.  ودائما ما فسرت نوايا الغرب، بالعملية القسرية لفرض مفاهيم غربية وغريبة على المجتمعات الشرقية، التي بدورها تشير لامتلاكها خصوصياتها الثقافية، وأيضا لديها مفهومها الاجتماعي والسياسي والديني عن نوعية (محلية) للديمقراطية وحقوق الإنسان. وتحاجج هذه السلطات ومعها المنظمات والجماعات الاجتماعية والسياسية والدينية، بأنها لم تعط الوقت أو الفرصة لتطبيق معاييرها الخاصة بالديمقراطية والحريات المدنية، والإجابة على تلك الأسئلة والانشغالات الكبيرة. وتتبادل تلك الأطراف مع الغرب وكذلك مع خصومها المحليين الاتهامات بتعطيل وتفكيك أسس العمل لإظهار تلك المعايير بخصوصيتها الوطنية.

فالتنظيمات والقوى السياسية والاجتماعية المحلية تتحصن بحجج تعتقد أنها تمتلك ثقافة وتقاليد تغنيها عن المفاهيم الغربية حول الحريات والديمقراطية والمجتمع المدني، وإنها ترتكن إلى خاصياتها الثقافية وموروثها الاجتماعي. ولكن في البحث والاستقصاء عن تلك الخصوصيات، نشاهدها تقدم مشاريعها بقصور بائن، وبالمجمل تكون في الغالب أفعال ورؤى مهلهلة تحد من تطور المجتمعات، وتنحو لخلق بؤر تشيع فكرة الوصاية والقسر. ومع اقتناعها بامتلاكها اليقين (البعيد عن الحكمة) بامتلاك الحقيقة المطلقة، فإنها تغذي خروقات تعدم بسببها حرية الرأي والعدالة الاجتماعية والتطلعات نحو الديمقراطية. وأيضا فأن تلك المؤسسات تتحرك في ظل فقدان قواعد ونصوص متكاملة يحتكم إليها كمرجعيات تمتلك حلولا منطقية لمشاكل عديدة تتراوح بين البسيط وصولا للمركب والمعقد منها.

في نفس الوقت  فالسلطات الحاكمة وعبر مؤسساتها تحاول إدامة أو إشاعة المعايير القاصرة عن المفاهيم الحقوقية للحريات، باذلة جهودا وأموالا طائلة لكبح جماح القوى والأشخاص الساعين والمناشدين لتعميم معايير الحريات والديمقراطية في مجتمعاتهم.وتأتي تلك الإجراءات رغبة في وضع القيود ومنع أي تغيير يمكن له خلق أوضاع يتاح من خلالها إجراء تعديلات في هياكل السلطة والتشريعات القائمة .ويهيمن هذا الأداء على مسيرة الأنظمة الحاكمة التي باتت اليوم تستشعر القلق وتتوجس خيفة من المشاريع الوافدة وبالذات الأمريكية والغربية الخاصة بمنطقتها، وتعيش تحت هاجس ووطأة مشاعر الخوف من المثل العراقي والمآل الذي ذهب إليه العراق جراء الاحتلال الأمريكي.

وإذا كان لتلك السلطات عذر في مشاعر الخوف التي تتلبسها، فأمر رفض المشاريع الأمريكية لا يقتصر على السلطات المحلية والتجمعات والتنظيمات الدينية والطائفية، وإنما يشمل أيضا تنظيمات لبرالية يسارية، وتأتي اعتراضات هؤلاء على أسس خصام تأريخي غذته نفرة وشحن أيدلوجي، والقناعة التامة بان جميع ما يأتي من الإدارة الأمريكية ما هو إلا مسعى لتفضيل مصالح الرأسمالية على مصالح الشعوب. ويدفع هذا الاعتقاد بالكثير من دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحركات التنوير، وفي أغلب بلدان الشرق للإحجام عن التعاون مع مساعي الولايات المتحدة لتعميم مفاهيمها في هذا الشأن، لأسباب وطنية ومشاعر متصاعدة من الشكوك، وتطرح في هذا الشأن الكثير من الأمثلة عن سوء نية الإدارة الأمريكية وما تبييته مشاريعها من مخاطر للمنطقة.  حيث توضع الخيارات الوطنية للشعوب وبالمجمل، لصالح السير في ركب مصالحها الأمنية والاقتصادية ذات الطبيعة الامبريالية، وقد اختصر بول برايمر رئيس سلطة الائتلاف المؤقت عند احتلال العراق كل ذلك في مقابلة إعلامية بالقول، إن مصالح الولايات المتحدة تتقدم على واجباتها في القانون الدولي.   

عرض مقالات: