بما يشبه روايات الخيال العلمي، وجدت نفسي فجأة على متن مركبة آلة الزمن كالتي جاءت في رواية هربرت جورج ويلز، الّا أنّ المركبة هذه وعلى خلاف المنطق العلمي كانت مجهزّة للسفر نحو الماضي. وما أن جلست فيها حتى بادرني الربابنة العاملون عليها بسؤال عن وجهتي، نحو الماضي طبعا. فقلت للعاملين وبهدوء كامل ونحن نعيش صراع شيعي بفيلم شجاعة ابو لؤلؤة، وسنّي بمسلسل معاوية في شهر رمضان القادم وكأننا في مباراة كلاسيكو بين فريقي كرة قدم، من أننّي أريد السفر إلى العام 652 للميلاد وإلى منطقة الربذة شرق المدينة المنورّة تحديدا.

 ما أن خرجت من المركبة التي هبطت هناك، حتّى رأيتني أمام رجل وأمرأة ومعهما غلام فعرفت من أنّه ابو ذر وأمرأته وغلامه الذي بانت على وجوهم علامات الخوف والتعجب من شكل المركبة وطريقة هبوطها.

 أنا: السلام عليكم يا أبو ذر.

أبو ذر: وعليكم السلام ورحمة من الله وبركاته، هل معك لي سابق معرفة، قالها متعجبا؟

أنا: لا، ولكنك وفي مكانك هذا وسبب وجودك فيه، أصبحت أشهر من نار على علم. فمن ذا الذي لا يعرف أبا ذر، ومن ذا الذي لا يعرف الربذة.

أبو ذر: أنّ قدومك اليّ هنا على ما يبدو هو لأمر جلل، فما هو؟

أنا: أريد أن تسافر معي على هذه المركبة إلى النجف حيث قبر صاحبك الأمام عليّ ومنها إلى كربلاء حيث قبر أبنه الحسين.

أبو ذر وعيناه غارقتان بالدموع: هل سأشهد موته!

أنا: بل مقتله وأبنه، ولنسافر على نفس المركبة بعدها إلى الخضراء.

أبو ذر بعصبية ظاهرة: الخضراء هذه التي بناها سارق أموال الفقراء والأرامل والأيتام معاوية بن أبي سفيان في الشام.

أنا: لا أنها ليست ت......

أبو ذر مقاطعا: أتعرف من أنني منفي هنا لأنني وأنا في الشام وبمواجهة معاوية كنت آخذ بظاهر القرآن وأتلو آية ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وكنت أقفّ على دكّة في سوق دمشق وأقول محرضّا الفقراء على الأغنياء صارخا (يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، فلما رأى معاوية أن فعلي يصدق قولي كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا..).

أنا: نعم لقد قرأنا في كتب التاريخ عن مواقفك هذه، وهذا ما دفعني للقدوم أليك، كون الحرب لا زالت مستعرة بين سراة شيعة علي وسراة شيعة معاوية.

أبو ذر: الحرب بينهما قائمة لليوم، وماذا عن فقراء الناس عند الطرفين!؟

أنا: نعم الحرب قائمة لليوم، أمّا فقراء الطرفين فهم كما فقراء العالم يعانون من الفقر والجوع والظلم والأضطهاد.

أبو ذر: هلّا تأخذني بمركبتك هذه عند معاوية في قصره الخضراء بالشام، لأحرّض الفقراء عليه من جديد.

أنا: نعم، سآخذك اليه لكنني أودّ أن تأتي معي أولّا إلى النجف وكربلاء حيث قبرعلي وأبنه الحسين ومن ثمّ إلى الخضراء في بغداد حيث سراة شيعة عليّ.

أبو ذر: أ سراة الشيعة يعيشون في الخضراء!؟

أنا: بلى يا أبا ذر، ووالله لخضرائهم أغنى من خضراء معاويّة.

 كانت المركبة في طريقها للهبوط في مدينة النجف الأشرف، وإذا بأبي ذرّ يسألني عن قبّة مذهبّة ينعكس نورها نحو السماء، فقلت له وأنا أنظر إلى وجهه لأتعرف على ردّة فعله: أّنه قبر إمام الفقراء والأيتام والأرامل والمساكين، أنّه قبر الأمام عليّ بن أبي طالب. فلطم أبو ذرّ وجهه وصاح، يا صاحبي يا أمير المؤمنين أرك تئنّ من ثقل الذهب على قبرك. وما أن نزلنا إلى الأرض وسط المدينة حيث الفقر ينشر أجنحته على الأطفال الفقراء والعراة حتّى صرخ بيّ أبو ذر، أن أعدني من حيث أتيت فقد سرق سراة الشيعة ومعمّميهم أمامهم وفقراء وأرامل وأيتام شيعته.

 في كربلاء تكرّر نفس المشهد، الّا أن أبو ذر وقف مبهوتا وهو يرى معمّم شيعي يجمّل الفقر في عيون الفقراء، وهو في أبهى حلّة. فنظر اليّ أبو ذر بنظرة فهمت منها أنّ آية (﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، تنطبق على هذا المعمّم وأمثاله وسراة الشيعة الذين أذاقوا الناس الذلّ والفقر.

 أنطلقت بنا المركبة من كربلاء إلى بغداد المسبيّة، وإذا بالفقر يسير جنبا إلى جنب الناس كما الموت، وإذا بسراة شيعة عليّ يستقلّون سيّارات رباعية الدفع مصفحّة ضد الرصاص خوفا من غضب الناس، وهم الذين يتاجرون بالتشيع بقولهم (يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزا عظيما). لم يتحمّل أبو ذر منظر البؤس في بغداد ولا رخاء ورفاهيّة سكّان الخضراء، فطلب منّي أن أطير به إلى دمشق ليتحدث إلى معاوية في قصره. وما هي الّا لحظات وأذا نحن بقصر الخضراء في دمشق، وما أن رأى الحرس أبو ذر في باحته حتى أمتشقوا سيوفهم صارخين: أنّه أبو ذر وجاء ليقتل الخليفة معاوية بن أبي سفيان. فصرخ بهم أبو ذر صرخة سمعها معاوية قائلا: خذوني أليه فأنا لا أحمل حتى العصا التي اتكأ عليها.

 أمر معاوية الحرس بأدخال أبو ذر إلى بلاطه وعدم الشدّة في معاملته كونه كان شيخا منهكا ومجردّا من أي سلاح يهدد حياته، ليستقبله سائلا إياه: ماذا اتى بك إلى الشام من جديد يا أبو ذر؟

 أبو ذر: جئت أليك وأنا أرى فقر شيعة علي الذي سُبّ من على منبرك والحسين الذي قُتل من قبل أبنك يزيد على أياد سراتهم، وغنى شيعتك في الشام وغيرها من الأصقاع لأقول: يا معاوية يا من تركت سنّة النبي والخلفاء وجعلت الحكم وراثة، والغدر سنّة وأنت تغدر بأيتام قتلى صفّين بعد أتفاقك مع الحسن بن علي وتقطع أعطياتهم، أنّك لأشرف وأطهر من ساسة الخضراء وسراة الشيعة في العراق، كونهم يسرقون حتى أموال فقراء شيعتهم ولم ينصفونهم كما أنصفت أنت أهل الشام...

 على باب قصر في المنطقة الخضراء وقف أبو ذرّ صارخا: هل ادلكّم على تجارة تربحون بها مالا لا يُعدّ ولا يُحصى، بلى قال القوم: دلّنا يا صاحب أمامنا أبو الحسن.. حينها صرخ أبو ذر أن لا تتوقفوا عن المتاجرة بعليّ

وأبناءه أيها الظَلمة، وحينها نشر سراة الشيعة سيوفهم ليجزّوا بها رؤوس فقراء العراق في ساحة التحرير والمطعم التركي وكراج السنك وساحة العشرين في النجف وساحة الحبوبي في الناصريّة وساحات وشوارع باقي مدن العراق.

 يروى أنّ النبي محمّد قال: رحم الله أبو ذر يمشي وحده ويموت وحده ويُبعث وحده، ويبدو أن شيعة العراق وفقراءه ونتيجة ظلم ساسته ومعمّميه سيكونون كما أبو ذر، يمشون وحدهم ويموتون وحدهم ويُبعثون وحدهم..

عرض مقالات: