في أعقاب الثورة الاسلامية عام 1979 لم تتوقف الأزمات التي ظل يواجهها النظام الايراني باستمرار،حروبأ طويله و طاحنة، عقوبات دولية، معارضة داخليه وصراعأ دائما مع القوة العظمى الوحيدة في العالم، ومع ذلك بقيت الحكومة صامدة ومستمرة لحد الآن.
كان النظام قد واجه أكبر التحديات حتى الآن: موجة احتجاجات شعبيه على نطاق واسع، بدأت في أيلول على أثر وفاة امرأة كردية ايرانية تدعى مهسا أميني أثناء احتجازها من قبل الشرطة. تختلف الاحتجاجات هذه المرة عن سابقاتها لاختلاف السبب المحفز لها، فقد تم القبض على أميني لارتدائها غطاء رأس (غير لائق)، مما دعا المحتجين الى تحدي قانون الحجاب الالزامي في إيران، القانون الذي يعتبر ركيزة أيديولوجية و أداةً للهيمنة الاجتماعية للجمهورية الاسلاميه. لثلاثة أشهر والمتظاهرون يبدون شجاعة في مواجهة عنف الدولة المفرط والنزول للشوارع بهتافات " المرأة الحياة، الحرية" مع اضراب عام يعكس تزايد الغضب الشعبي ضد النظام.
لقد استمر حكم رجال الدين لحد الآن بفضل القمع الوحشي المفرط، فبحسب ما تناقلته التقارير تم اعتقال 15000 مواطن، وقتل المئات منهم على ايدي قوات الامن.
في غضون ذلك تلوح في الأفق ازمة أخرى تهدد النظام، ازمة تتفاقم تحت السطح ولم تظهر بعد الى العلن، وقد تكون هي الأزمة الأخطر على الجمهورية الإسلامية على الاطلاق.
المرشد الأعلى علي خامنئي طاعن في السن و يقال انه يعاني من العديد من الامراض. إن موته الذي يلوح في الأفق، وعدم وجود خليفة متفق عليه يقوم مقامه، سيدخل الجمهورية الإسلامية في أزمة خلافة حادة - تحدي من هذا النوع هو بالضبط ما اسهم في تفكيك العديد من الأنظمة الاستبدادية في الماضي- قد تؤدي الأزمة قريبًا إلى تمكين إحدى المنظمات الأمنية القوية في إيران، الحرس الثوري الإسلامي، من القيام بدور مباشر في حكم إيران لأول مرة في تاريخها.
عندما اندلعت الاحتجاجات في أيلول الماضي ، لم يظهر خامنئي للعلن، وقد توقع أنصاره أن يبدي رداً علنياً، وذلك لاعتلال صحته بسبب جراحة الأمعاء. في السنوات الأخيرة، أصيب خامنئي، البالغ من العمر 83 عامًا، بمجموعة من الأمراض الخطيرة، بما في ذلك سرطان البروستات، لكنه أيضًا خيّب العديد من التنبؤات السابقة بوفاته الوشيكة.
على الرغم من أنه ظهر منذ ذلك الحين علنًا للتنديد بالاحتجاجات الأخيرة باعتبارها تخريبًا خارجيًا، إلا أنه يجدر النظر في الشكل الذي ستبدو عليه إيران، سواء من حيث السياسة الداخلية أو الخارجية، بعد مغادرة مرشدها الأعلى هذا العالم أخيراً. بيد أن الموجة الأخيرة من الرفض العلني لنظامه تشير الى مدى قسوة التغييرات المحتملة القادمة.
ستشكل وفاة خامنئي تحديًا كبيرًا للجمهورية الإسلامية، فمن يخلفه سيكون من جيل لم يشارك في الثورة. قال سينا أزودي ، محاضر في الشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن:
" إنه أمر لا يناقشه أحد تقريبًا علنًا داخل إيران ، لكن الدولة بأكملها تجري استعداداتها الآن لقضية الخلافة، كان خامنئي قد شارك في ثورة 1979، حتى انه قد سجن من قبل شرطة الشاه السرية، السافاك، الذين يراهم عملاءً للولايات المتحدة. وهو كثير التشكيك بالنوايا الغربية تجاه إيران، و ما أن يغادر المشهد حتى تتلاشى إحدى العوائق الرئيسية أمام تحسين علاقات إيران مع الغرب ".
أصبح خامنئي المرشد الأعلى في عام 1989، وقد حكم إيران أربع دورات تقريبًا، وهي فترة أطول من سلفه الوحيد، روح الله الخميني، زعيم الثورة ومؤسس الجمهورية الإسلامية. ومن أكثر من منظور يمكن القول بإن النظام الحاكم اليوم هو من صنعه الشخصي، وإن إدارة مراكز القوى المتنافسة داخل إيران تعتمد بشكل أساسي على مكانته كسلطة عليا. لقد قام خامنئي بتهميش معظم منافسيه داخل المؤسسة الدينية، وعزز نفسه كسلطة عليا لا جدال عليها تقريباً داخل النظام. هذا الاحتكار للسلطة والنفوذ- السمة السائدة للديكتاتوريات- جعل موقعه آمنًا، ومن غير المؤكد ان النظام يمتلك القدرة على استبداله بشكل مناسب بعد وفاته.
على الرغم من نفوذه المتفرد، فقد برزت داخل المؤسسة الأمنية الإيرانية فصائل قد تكون مستعدة للاستفادة من زوال خامنئي. ومن أبرز هؤلاء الحرس الثوري الإسلامي، وهو فرع من القوات المسلحة تم إنشاؤه بعد ثورة 1979 ككيان مسلح مؤدلج. قد يكون الحرس الثوري الإيراني هو القوة الوحيدة المتبقية داخل إيران والتي تتمتع بالنفوذ والحافز الذي يؤهلها للقيام بدور مباشر في السياسة الإيرانية بعد رحيل خامنئي.
في قرار مثير للجدل ادرجت ادارة ترامب عام 2019 الحرس الثوري في قائمة الارهاب. و الحرس الثوري لم يعد اليوم قوة عسكرية تحت أمرة المرشد فحسب، بل أصبحت لاعباً اقتصادياً رئيسياً داخل ايران، فهي تمتلك أعمالًا تجارية مربحة وممتلكات عقارية من المرجح أنها تسعى إلى الحفاظ عليها بغض النظر عن التغييرات التي قد تطرأ في السياسة الإيرانية. إن ادراك مستوى التحكم شبه المافيوي للحرس الثوري على المجتمع الإيراني اليوم هو المفتاح لفهم ما ستؤول اليه سياسات البلاد تحت قيادتهم.
لو أمعنا النظر لسلوكهم، ببدو أن قادة الحرس الثوري الإيراني يضعون منافعهم المادية في المقام الأول، فهم ليسوا مجرد أيديولوجيين. إنهم منهمكون في مجال جني الأموال، على عكس خامنئي، الذي حاول، ظاهريًا على الأقل، إظهار درجة من التواضع . انهم مهتمون بحماية مزاياهم الاقتصادية، وكانت العقوبات الدولية نافعة لهم في هذا المجال. إنهم لا يهيمنون على الاقتصاد الرسمي فحسب، بل يسيطرون على جزء كبير من السوق السوداء. جميع السلع الكمالية الواردة إلى إيران اليوم تصل عبر القنوات التي يسيطر عليها الحرس الثوري الإيراني .
يرى بعض الخبراء إنه من الممكن، بل و المرجّح، أن تقرر قيادة ذات نفوذ اقتصادي قوي جيدة التسليح في الحرس الثوري الإيراني، القيام بانقلاب عسكري للسيطرة المباشرة على إيران بعد وفاة خامنئي.
ليس من الضروري أن يكون مثل هذا الانقلاب علنيًا. فالعديد من البلدان الأخرى في المنطقة ، وأشهرها مصر وباكستان ، تدار من وراء الكواليس من قبل مؤسسات عسكرية قوية، على الرغم من حفاظها على مظهر الحكومة المدنية شكلياً. مثل هذه الترتيبات لم تخدم مواطني هذه الدول، لكنها تخدم بشكل جيد النخب العسكرية نفسها. لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الشخصيات القوية في الحرس الثوري الإيراني ستعارض مثل هذه الفرصة، أو ستمنع نفسها من اغتنامها إن سنحت بعد وفاة خامنئي.
كيفية حكم نظام محتمل بقيادة الحرس الثوري الإيراني لإيران ( لا سيما في مجال تقييد الحريات الشخصية، وهي في صميم مظالم أغلب الإيرانيين اليوم) ستعتمد على تقييم قادة النظام الى مدى ديمومة الانتفاع من المؤسسة الدينية الإيرانية.
تأسست الجمهورية الإسلامية كَدولة ثيوقراطية، وذلك بفضل قدسية سلطة رجال الدين عند الشيعة وهي الطائفة السائدة في إيران. رغم ذلك يبدو ان غلياناً شعبياً عاماً يتزايد ضد رجال الدين انفسهم بسبب سوء الحكم، وقد تعرض خامنئي لهجمات شخصيه، كما ان الايرانيين قد بدأوا يصورون انفسهم في مقاطع فيديو وهم يوجهون صفعات للعمائم على رؤوس رجال الدين، الأمر الذي يشير بوضوح إلى تراجع مصداقية المؤسسة الدينية بأعين الجمهور. الصورة القاتمة
لرجال الدين في عيون عامة الايرانيين ستلعب دوراً في كيفية تصرف حكومة الحرس الثوري المحتملة.
قال علي ألفونة، الزميل الأول في معهد الخليج العربي ومؤلف كتاب " الخلافة السياسية في الجمهورية الإسلامية" : " اذا ما تسنى لقادة الحرس الثوري إدارة ايران فعلياً، فان سياساتهم الداخلية سيحددها تقييمهم لمدى شرعية و مكانة رجال الدين الشيعة، فإذا كان رجال الدين الشيعة لا يزالون محتفظين بمكانتهم كمصدر للشرعية، فإن الحرس الثوري الإيراني سيواصل تقييد الحريات الشخصية على أسس دينية".
" أما في حالة فقد رجال الدين الشيعة لمنزلتهم بحيث لم يعودوا مصدراً للشرعية، فإن قادة الحرس الثوري سيتخلون عنهم ومن المحتمل انهم سيطلقون الحريات الشخصية، وليست السياسية، للمواطنين الإيرانيين، الإيرانيات اللائي يرتدين التنانير القصيرة ، و الشباب الإيراني الذين يقضون أوقات فراغهم في ممارسة الجنس والمخدرات وموسيقى الروك أند رول يمكنهم التعايش مع دكتاتورية عسكرية للحرس الثوري الإيراني لمدة عشر سنوات على الأقل في السلطة".
ليس هناك ما يشير إلى أن الحرس الثوري الإيراني مستعد لتسلّم السلطة في أي وقت قريب، خاصة وأن خامنئي قد يتعافى ويبقى على قيد الحياة لبضع سنوات قادمة. ومع ذلك، فإن رحيله الحتمي عن المشهد، في ظل غياب خليفة محدد اختاره أو سمح له بالارتقاء من داخل المؤسسة الدينية، يعني أن استشراف الصيغة المستقبلية للسياسة الإيرانية باتت فعلاً واضحة في الأفق.
إن الحكومة الإيرانية التي يقودها الحرس الثوري الإيراني - إما كدكتاتورية عسكرية مباشرة أو،على الأرجح، برأس أعلى كدمية تحت سيطرتهم- لا تحدث فقط تغييرات في بعض سياسات إيران الداخلية، بل وأيضًا في نهجها تجاه المجتمع الدولي.
من البديهي أن إيران التي تقودها نخب عسكرية لن تكون دولة ديمقراطية، ولكن من المرجح أن تعود الى تبني مواقف نفعية فيما يتعلق بعلاقتها مع إسرائيل والغرب، إن لم يكن مع دول العالم العربي. رغم ان النظام قد لايرتقي إلى مستوى تحقيق مطالب المحتجين في الشوارع بالتغيير الديمقراطي، إلا أن مثل هذا النظام قد يحول إيران إلى ما يشبه المملكة العربية السعودية مع انفتاح اجتماعي مما يجعله متناعماً مع المصالح الغربية، بالطبع بفضل ثروتها من الوقود الأحفوري، ومع ذلك يظل النظام سلطويا في جوهره.
وقال ألفونة "من المرجح أن يولد نظام عملي كهذا، بغض النظر عن أي تغييرات أيديولوجية مستقبلية على النظام الذي سيقوده الحرس الثوري الإيراني بعد وفاة خامنئي.
من عام1979 حتى عام1988 كان للحرس الثوري الإيراني علاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة في الماضي وكانت إسرائيل المصدر الرئيسي لمشتريات الحرس الثوري الإيراني من الأسلحة التي تنتجها الولايات المتحدة، وقد عقد الحرس الثوري الإيراني في مناسبات متعددة تحالفات تكتيكية مع الولايات المتحدة ضد طالبان وضد الدولة الإسلامية. لذا لا أرى أي سبب يمنع مثل هذه السياسات في ظل إيران التي يحكمها الحرس الثوري الإيراني.
على الرغم من ترجيحه إمكانية حدوث تغييرات في العلاقات الخارجية، إلا أن ألفونه حذر من أن بعض الأشياء سوف لن تتغير. وقال: " فيما يتعلق بالقضايا الأكثر جوهرية، كطموحات إيران النووية، والبرنامج الصاروخي، ودعم الوكلاء، ومعارضة وجود القوة العظمى في الخليج العربي، فلن يكون هناك تغيير طالما أن إيران مستمرة ككيان سياسي موحد". . "حتى إذا انهارت الجمهورية الإسلامية، فإن الإيرانيين يميلون بشكل جماعي إلى الزرادشتية واعادة إحياء الإمبراطورية الساسانية، هذه السياسات ستستمر كما كانت من قبل."
https://theintercept.com/2022/12/09/iran-regime-khamenei-death/