مع تعاظم أهمية البحث العلمي في مختلف الميادين التي تهم المجتمع، برز، بالضرورة، التعرف إلى المزاج الشعبي العام، ووجهة نظره، وما يرتأيه في تحديد التوجهات العامة للمجتمع، عبر عمليات استطلاعات للرأي العام فيه وقياس توجهاته.

لقد شهدت العقود الأخيرة تطورات وتحولات عالمية متسارعة, شملت كافة المجالات مما أدى إلى تعاظم أهمية البحث العلمي في مختلف الميادين ,ومنها استطلاعات الرأي العام وقياس توجهاته لما يكتسيه من أهمية بالغة في مختلف القضايا والمجالات التي باتت تؤثر بشكل كبير على صياغة التحولات الوطنية والأقليمية والعالمية بمختلف توجهاتها.

وأصبح مصطلح "الرأي العام" من أكثر المصطلحات رواجا بين الأكاديميين والباحثين نظرا للدور الذي لعبه ويلبعه في الدول المتحضرة في صياغة الاتجاهات العامة والتأثير على تطور القضايا الحاسمة بالتطورات السياسية والاقتصادية-الإجتماعية والثقافية والأمنية.

 من المؤسسات التي إعتمدت هذه المنهجية في الوطن العربي نشير هنا الى " المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، الذي تأسس في عام 2010، وإتخذ مقره في العاصمة القطرية الدوحة، كمؤسّسة بحثيّة فكريّة مستقلّة للعلوم الاجتماعية والإنسانية، النظرية والتطبيقية. وقد دأب المركز منذ عام 2011 على تنفيذ "المؤشر  العربي" ، كأستطلاع ميداني دوري للرأي العام العربي، ونشر نتائجه.وأصبح المؤشر يمثل مصدراً هاماً مفتوحاً للمهتمين بمتابعة الرأي العام العربي وتغيراته، سواء أكانوا أكاديميين أم باحثين أو صناع قرار أو إعلاميين وغيرهم من المهتمين.

 بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي في عام 2022 بشأن مجموعة من الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نفذ المركز استطلاعاً جديداً لَآراء المواطنين من 14 بلداً عربياً، تجاه 472 متغيراً.وقد أطلق المركز نتائج (المؤشر العربي 2022) في مؤتمر صحفي  عقده يوم 17/1/2023 في مقرّه بالدوحة، قام بإستعراضها المدير التنفيذي للمركز د. محمد المصري، مبيناً ان الاستطلاع الميداني نُفِّذ في الفترة ما بين حزيران وكانون الأول 2022. وشارك في تنفيذه 945 باحثًا وباحثة. وشملت العينة  33 ألفاً و300 مستجيباً ومستجيبة من مواطني: مصر والسودان والعراق والمغرب والجزائر وتونس وليبيا وفلسطين ولبنان والأردن والسعودية والكويت وموريتانيا وقطر.

 وأوضح د. المصري أن الاستطلاعات نفذت على عينات ضمن ما يسمى "العينة العنقودية الطبقية متعددة المراحل والموزونة ذاتياً"، وأُجريت مع المواطنين مقابلات شخصية مباشرة، ضمن عيّناتٍ ممثّلة للبلدان التي ينتمون إليها، بهامش خطأ يراوح بين ± 2 و3%. وجرى الأخذ في الحسبان كل المستويات التالية: الحضر، الريف، التقسيمات الإدارية الرئيسة في كل بلد.

 من نتائج الإستطلاع أنه كشف إنقسام الرأي العام العربي في تقييم الوضع السياسي في بلدانه، حيث وصفه 49 % من المواطنين بالسلبي (سيئ جدًا – سيئ) ، ورأي 44 % أنه إيجابي (جيد جدًا – جيد) بشكل عام. ورأى 52% أن الأوضاع العامة في بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ، وعزا 40% منهم ذلك إلى أسباب اقتصادية..

    وقد بين الاستطلاع أنّ الأوضاع الاقتصادية لمواطني المنطقة العربية هي أوضاع غير مرضية على الإطلاق؛ إذ إنّ 42% قالوا إنّ دخول أسرهم تغطّي نفقات احتياجاتهم الأساسية، ولا يستطيعون أن يدخروا منها (أسر الكفاف)، وأفاد 28% أنّ أسرهم تعيش في حالة حاجةٍ وعوز؛ إذ إنّ دخولهم لا تغطّي نفقات احتياجاتِهم. وتعتمد أغلبية أسر العوز على المعونات والاقتراض لسد احتياجاتها. وباستثناء مواطني بلدان الخليج، فإن أغلبية مواطني البلدان العربية هم ممن يقعون ضمن أسر "الكفاف" أو أسر "العوز".

 وعكست النتائج أن ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة في بلدانهم متباينة، حيث الثقتة مرتفعة بمؤسسة الجيش والأمن العام، اما سلطات الدولة القضائية والتنفيذية والتشريعية فالثقة بها أضعف. ونالت المجالس التشريعية (النيابية) ثقة أقل (47%)، مع أن أكثرية الرأي العامّ (57%) ترى أنها تقوم بالرقابة على الحكومات. ويرى 34% عكس ذلك. وكان مواطنو المشرق العربي هم الأقل موافقة على قيام المجالس التشريعية بدورها في الرقابة على أداء الحكومات، في حين أن مواطني الخليج كانوا الأكثر موافقةً على ذلك.

الرأي العام العربي شبه مجمع على أن الفساد المالي والإداري منتشرٌ في بلدانه، إذ أفاد 87% بأنه منتشر بدرجات متفاوتة. وأشارت البيانات إلى أن تصورات المواطنين وآراءَهم تجاه مدى انتشار الفساد في بلدانهم لم تتغير على نحوٍ جوهري. ويعدّ مواطنو بلدان المشرق هم الأكثر تأكيدًا على انتشار الفساد في بلدانهم، بينما كانت أعلى نسب من رأوا عدم انتشار الفساد هي في بلدان الخليج.

 أما على صعيد رؤية المواطنين لمدى تطبيق دولهم للقانون بالتساوي بين الناس، فقد رأى 39% أنّها تطبّق القانون ولكنها تحابي بعض الفئات، أي تميّز لمصلحتها. وافاد 34% ان دولهم تطبق القانون بالتساوي بين المواطنين.بينما رأى 24% أنّها لا تطبق القانون بالتساوي بين الناي على الإطلاق. أعلى نسب  في هذا المضمار أبداها مواطنو المشرق.

 وأظهرت النتائج شبه إجماع الرأي العام العربي على تأييد الديمقراطية، إذ عبّر 72% من المواطنين عن تأييدهم للنظامَ الديمقراطي، مقابل 19% عارضوه.أكثر من ثلثي المواطنين المؤيدين يؤيدون مقولة "إنّ النظام الديمقراطي وإن كانت له مشكلاته، هو أفضل من غيره من الأنظمة".

وأفاد 71% بأنّ النظام الديمقراطي التعددي ملائم ليطبَّق في بلدانهم. ومن هنا جاء رفض 53% -70% أنظمة، مثل: النظام السلطوي، أو نظام يتولى الحكم فيه العسكريون، أو حكم الأحزاب الإسلامية فقط، أو النظام القائم على الشريعة من دون انتخابات وأحزاب، أو النظام المقتصر على الأحزاب العلمانية (غير الدينية)، معتبرين اياها أنظمةٌ غير ملائمة لتطبَّق في بلدانهم.

  مقارنة نتائج هذا الاستطلاع بالاستطلاعات السابقة،أكدت إستمرار انحياز الرأي العام العربي إلى النظام الديمقراطي بشكل ثابت.

وتقييماً لمستوى الديمقراطية، من خلال حرية انتقاد حكومات بلدانهم وفق مقياس من 1 إلى 10 درجات، أظهر أن قدرة المواطنين على انتقاد حكوماتهم محدودة، إذ منحوها 5.8 درجات. وحصلت مصر وفلسطين والسعودية على أقل الدرجات على هذا المقياس.

 وأظهرت النتائج أيضاً إنقسام الرأي العام العربي في تقييمه لثورات الربيع العربي، فقد أفاد 46% أن الثورات والاحتجاجات الشعبية كانت إيجابية (إيجابي جدًا – إيجابي إلى حدٍ ما). في حين أفاد 39% أنها أمرٌ سلبي (سلبي جدًا – سلبي إلى حدٍ ما). وسُجّلت أعلى نسب التقييم الإيجابي: في الكويت (76%) ومصر (73%).

ورأى المواطنون أن أسباب اندلاع الثورات والاحتجاجات الشعبية كانت ضد الفساد، وإحتجاجاً على الوضع الاقتصادي السيئ، ومن أجل التحول إلى الديمقراطية، وإزاحة الأنظمة السلطوية.

وحول واقع ثورات الربيع العربي ومستقبلها، انقسم الرأي العامّ العربي بين متفائل ومتشائم، إذ أفاد 40% أنّها تمرّ بمرحلة تعثّر، إلّا أنّها ستحقق أهدافها في نهاية المطاف، مقابل 39% يرون أنّ الربيع العربي انتهى، وأنّ الأنظمة السابقة عادت إلى الحكم.

 بشأن التدين، أظهرت النتائج أنّ مواطني المنطقة العربية منقسمون إلى 3 كتل: الكتلة الأكبر هي التي وصفت نفسها بأنها "متديّنة إلى حدٍ ما"(61%)، الكتلة الثانية- "متدينة جدًّا" (24%)، بينما شكلت نسبة "غير المتديّنة"(11%) فقط.

 ولعل الأهم هو رفض 72% من المواطنين استخدام الدولة للدين للحصول على تأييد الناس لسياساتها، واستخدام المترشّحين للانتخابات للدينَ من أجل كسب أصوات الناخبين. ورفض 69% تكفير من لديهم وجهات نظر مختلفة في تفسير الدين. ورفض ( 65%) تكفير من ينتمون إلى أديان أخرى.

    واستطرادا، بينت النتائج استمرار انقسام الرأي العامّ في المنطقة العربية بخصوص فصل الدين عن السياسة. وقد سجلت أعلى النسب لتأييد فصل الدين عن السياسة في لبنان والعراق. أما أكبر نسبة للرافضين فقد سُجلت في موريتانيا وقطر.

 بشأن استخدام الإنترنت، أفاد77%من المواطنين بأنهم يستخدمونه مقابل 22% لا يستخدمونه. ويعتمد 88% من المستخدمين على أجهزة الهاتف المحمول في تصفح الإنترنت.

 أما أسباب استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ودوافعه،فهي متعددة، بيد ان النسبة الأكبر (36%) تستخدم الإنترنت من أجل التواصل مع الأصدقاء والمعارف.

 وعلى صعيد تقييم وسائل التواصل الاجتماعي، أفاد 57% بأنهم لا يثقون بها. وإعتبر 86 % من الرأي العام العربي أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تمثل خطورة على الأطفال والمراهقين، مقابل 12% لم يوافقوا على ذلك.

 بالمقابل، يثق 43% من مستخدمي تطبيقات التواصل الاجتماعي بالمعلومات والأخبار المتداولة على هذه الوسائل.وأكثر الموضوعات متابعةً من جانب مستخدمي هذه الوسائل ،هي الموضوعات الإجتماعية، تليها الموضوعات السياسية.ويفضل 28% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المحتوى النصي (نص، منشور، مكتوب).ويفضل 23% محتوى الفيديو.  

 أكاديمي عراقي متقاعد، مقيم في السويد

عرض مقالات: