مما قرأته للناشر المناضل اليساري التقدمي فخري كريم- مقالاً قيّماً بعنوان: " جعفر الصفار.. مروءة الإيمان" في صحيفة" المدى " والتي أعادت نشره صحيفة " طريق الشعب" لسان حال الحزب الشيوعي العراقي، وقد سبق لكريم أن شغل موقعاً إعلامياً متقدماً في هذا الحزب خلال عقد السبعينات في زمن " الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" التي وأد بها الدكتاتور صدّام عشية انفراده بالسلطة وملاحقته الدموية لقادة وكوادر الحزب. وحينما أدعى البعث الحاكم بأن الحزب الشيوعي يعمل في خندق آخر خارج خندق الجبهة، أتذكر إن لم تخن الذاكرة ردت طريق الشعب على هذا الادعاء بافتتاحية أو مقال تحت عنوان؛ " خندق واحد لا خندقان". ولظروف ما ارتأى كريم أن يتفرغ لمهنة النشر بما تتطلبه من استقلال عن العمل الحزبي، والتفرغ التام لخدمة نشر الثقافة التقدمية، واستضافة أقلامها في الصحافة التي كان ينشرها في المنفى، وخصوصاً خلال إقامته بدمشق. وأتذكر شخصيا بأني ساهمت ببعض المقالات حينذاك في مجلته الرائدة " المدى" في أواخر التسعينات، وقد أتخذ من اسمها لاحقاً اسماً لدار نشره.  وكانت اسماء الأقلام التقدمية في المنفى، وعلى رأسها الشيوعية، ضيوفاً دائمة على صفحات مجلاته، وصحفه. 

 وبعد سقوط نظام الدكتاتور إثر استكمال الاحتلال الأمريكي باحتلال بغداد كان من كريم من أوائل العائدين من دمشق، لينقل الدار إلى بغداد، والتي مازالت تخدم بدأب الثقافة التقدمية اليسارية والديمقراطية، في وقت لما يتمكن الحزب الشيوعي من تأسيس دار نشر خاصة به كأحزاب شقيقة في المنطقة، ويحضرني هنا بوجه خاص " دار الفارابي" الخاصة بالحزب الشيوعي اللبناني، وإن كانت بعض دور النشر العراقية ذات الميول التقدمية تتعاون مع الحزب في نشر مؤلفات ومواد ثقافية وإعلامية محسوبة على خط الحزب.

 ما أريد أن أصل إليه من هذه المقدمة أن كلا الطرفين- كريم والحزب- نسجا علاقة نموذجية مميزة من الرفاقة الجديدة والتعاون النضالي المشترك في مجال النشر والإعلام، ولم ينظر الحزب للعلاقة بمنظار الحسابات الحزبية الضيقة القديمة التي لعله وقع فيها في بعض محطات مسيرته الطويلة ، بل مازالت لم تتخلص منها للأسف بعض الأحزاب والمؤسسات اليسارية، والتي ظلت تنظر للشخصيات المستقلة التي كانت في صفوفها  بالنظرة الإلحاقية، بما فيها إقصاء الرأي المستقل، لا  بل وقع فيها معظم الأحزاب الشيوعية العالمية زمن الحقبة السوفييتية أسوةً بإعلام الحزب الشيوعي السوفييتي الحاكم.

 على أن الحزب الشيوعي العراقي هو واحد من الأحزاب اليسارية الذي تمكن من أن يقرن مراجعاته الفكرية بالأفعال إلى حد كبير، فاستفاد من أخطائه على قاعدة النقد والنقد الذاتي، وتلك المراجعات موثقة في وثائق مؤتمراته، ولا سيما في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ثم ما بعد سقوط النظام الصدّامي. وهو إذ يُذكّر سنويا بمجازر الثامن من شباط الأسود 1963 بحق الشيوعيين وقادة الحزب والشخصيات الديمقراطية على أيدي فاشست البعث والحرس القومي، فلأن دروس هذا الحدث الجلل مازالت عظيمة ولم تستنفذ بعد، علماً بأن الحزب كان له الدور الأكبر في إنشاء  "جبهة الاتحاد الوطني"  التي مهدت لثورة  14 تموز والمساهمة في التحضير لها، لكن ذوي النزعة الدكتاتورية المتوحشة الذين غدروا بالثورة هم أنفسهم الذين غدروا بعدئذ بالجبهة الوطنية إبان عقد سبعينات القرن الماضي، وهذا هو الدرس الذي ينبغي أن يكون حاضراً  بأهمية اليقظة الثورية على الدوام،  بأن لا يلدغ الحزب من جحره مرتين.

وإذا كانت الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية ما فتئت تسعى إلى بناء أوسع اصطفاف من قوى التغيير الديمقراطي، فالأولى أن تبدأ من بيتها الداخلي بتكتيل صفوفها والحرص على العلاقة مع كل القوى والشخصيات القريبة منها أو التي كانت في صفوفها وأضحت تناضل من موقعها المستقل ومتمسكة بنفس خطها اليساري. وتحضرني في هذا الشأن فقرة من مذكرات المناضل القيادي الشيوعي اللبناني الراحل يوسف خطار الحلو التي جاءت بعنوان " الدرب والرفاق" أقول: تحضرني فقرة اُعجبت بها، ونظراً لأهميتها -في تقديري- فإني استأذنكم بإعادة تثبيتها تالياً حرفياً: 

" إن بناء الحزب الشيوعي ليس عملية أفراد قاعدة وقادة منه وحسب، بل هو نشاط الشبكة الواسعة من أصدقائه المثقفين، مثل الدكتور جورج حنا، ورئيف خوري، وعمر فاخوري، والياس أبو شبكة، ومارون عبود، وسواهم ممن وجهوا أفكارهم ووضعوا أقلامهم في خدمة وطنهم وشعبهم، ودعموا القوى التقدمية المنظمة الطليعية فيه. إن مؤلفات الدكتور جورج حنا، ومؤلفات رئيف خوري، ومارون عبود وسواهما مما أنتجه الفكر التقدمي المادي اللبناني، تشكل اليوم وغداً بالنسبة لحزبنا وللنضال التحرري التقدمي في وطننا، دعماً قوياً لنضالنا في معركتنا ضد الاستعمار ومشاريعه، والصهيونية وتمددها، والرجعية وخياناتها.”. (يوسف خطار الحلو، الحزب والرفاق، الفارابي، بيروت، طبعة 1980، ص 322).    

عرض مقالات: