الصراع بين العفوية والتخطيط . بين الرغبوية والتحليل العلمي . بين الوهم والحقيقة

الفلسفة الماركسية كما عرفها لينين في اقصر واعمق تعريف هي فلسفة الطبقة العاملة ، وهي تستهدف الانقضاض على اقسى وآخر تشكيلة اقتصادية اجتماعية استغلالية ؛ التشكيلة الراسمالية . فبعد الجهد النظري المكثف الذي بذله ماركس وانجلز وكشفهما قوانين التطور الاجتماعي للراسمالية ، واجهتهما اهم قضية في الماركسية وهي علاقة النظرية بالتطبيق، علاقة وعي الواقع بممارسته ، علاقة معرفة الضرورة بإمكانية تحويلها الى حقيقة معاشة . وأول تجربة عصف ذهني ضخمة عاشها المفكران هي ثورات 1848 التي اشارا بوضوح وموضوعية ودون تردد ، انهما كانا واهمين في تحليلهما لتلك الثورات من حيث العلاقة بين العوامل الموضوعية والذاتية للثورة ، وان الطبقة العاملة لم تكن مؤهلة وقت ذاك لقيادة عمليات التحول للاشتراكية ، وان البرجوازية مازالت في ريعان شبابها وقوتها ، ما جعلها قادرة على استغلال اندفاع قاعدة تلك الثورات أي الجماهير الكادحة لصالح القضاء على ما تبقى من العلاقات الاقطاعية ، وتوجيه سهامها الفاشية في النهاية الى صدر الطبقة العاملة بعد فشل تلك الثورات .  فقد ذكر انجلز " ان التاريخ بين اننا نحن أيضا لم نكن على حق وان وجهة النظر التي كنا نتمسك بها كانت وهما من الأوهام وان التاريخ غير تماما الشروط والظروف التي ينبغي للبروليتاريا خوض النضال في ظلها، فان وسيلة النضال التي استخدمت في عام 1848 قد شاخت الان من جميع النواحي ". واكد  ماركس الفكرة نفسها " ان تطور الجمهورية البرجوازية التي انثبقت عن ثورة 1848 ادت الى انحصار السيادة الفعلية في يد البرجوازية الكبيرة بينما جميع الطبقات الاجتماعية الأخرى – الفلاحون والبرجوازيون الصغار التفوا حول البروليتاريا. وبين التاريخ ان إمكانية تحول ثورة الأقلية الى ثورة الأكثرية ليس الا وهما. اذ لم يكن من الممكن في 1848 التوصل الى التحول الاجتماعي بمجرد الهجوم المفاجئ، وان العودة الى الإمبراطورية في عام 1851، أعطت برهانا جديدا على عدم نضج التطلعات البروليتارية في ذلك الزمن.

نظرية ماركس في السياسة

في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة توجه ماركس للتعمق في دراسة الراسمالية وقوانين تطورها بعيدا عن الرغبات والاماني ووضع الأسس لنظرية في الممارسة السياسية التي تتلخص مهمتها في " بناء وتطوير رؤية شيوعية جديدة للعالم يمكنها تحفيز النضال الثوري للطبقة العاملة " . ويمكن تلخيص عناصر نظرية ماركس في السياسة بما يأتي :

أولا : البرنامج السياسي وهو البيان الشيوعي الذي جسد ماركس وانجلز فيه الرؤية المادية في التحليل وبالرغم من مرور اكثر من ( 174) عاما على صدوره وشيخوخة بعض تحليلاته ، فانه مازال يحتفظ براهنيته في المفاصل الأساسية الخاصة بنقد الراسمالية ودور الطبقة العاملة وحلفائها في دك قلاع الراسمالية .

ثانيا : التنظيم ؛ فقد ابدع ماركس وانجلز في خلق الاشكال التظيمية التي تساعد الطبقة العاملة على رص صفوفها في كفاحها اليومي ضد الراسمالية وتميزت تلك الاشكال التنظيمية بمرونتها وتنوعها ؛ فمن تأسيس رابطة الشيوعيين كاول حزب سياسي اممي للطبقة العاملة عام 1847، فتاسيس الأممية الأولى عام 1864 ، وتاسيس النقابات العمالية ، و تأسيس الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ، ثم تأسيس الأممية الثانية عام 1887 .

ثالثا : تعدد وتنوع اشكال الكفاح السياسي الذي شارك فيه او قاده ماركس وانجلز فمن تاليف الكتب ونشر المقالات ، الى تحشيد الطبقة العاملة من خلال نقاباتها للاضرابات والاعتصامات ، الى كومونة باريس وهي اول اقتحام ثوري في بناء نظام تقوده الطبقة العاملة . وبعد فشل الكومونة عام 1871، حصل تغير نوعي في توازن القوى اذ عاشت الراسمالية اكثر من ثلاثين عاما فترة استقرار وسلام وازدهار اقتصادي واجتماعي ، نتيجة نهبها ثروات الكثير من البلدان الطرفية التابعة ، وبدأت عملية دمقرطة الحياة السياسية التي شملت معظم البلدان الراسمالية المتقدمة وفرض هذا الواقع الجديد على انجلز ورفاقه في الأممية الثانية على تغيير أسلوب مقارعة الراسمالية من الأسلوب العنفي الى الأسلوب السلمي باستخدام صندوق الانتخابات أداة كفاحية للطبقة العاملة ، فتاسست الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في معظم الدول الراسمالية وحققت اتنصارات كبيرة في بعض البلدان الراسمالية من خلال وجود ممثليها في البرلمانات الأوروبية .

حرب الحركة وحرب المواقع

تتجسد عبقرية غرامشي في انه حصر نظرية الممارسة في الحركة الشيوعية بطريقتين هما : حرب المواقع " الأسلوب السلمي في مقارعة الراسمالية "  وحرب الحركة " الأسلوب العنفي للانقضاض على الراسمالية واستلام السلطة " ، ويشكل هذان المفهومان ركنين أساسيين في منظومة المفاهيم لغرامشي ، ان مفهوم حرب المواقع تبلور بعد فشل كومونة باريس وتوجه الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بقيادة انجلز ورفاقه في الأممية الثانية الى استغلال الانتخابات والحياة الديمقراطية في البلدان الراسمالية لتعزيز دور الطبقة العاملة عبر البرلمانات الأوروبية    اما بعد اشتعال الحرب العالمية الأولى فقد  واجهت غرامشي مجموعة أسئلة كبرى سواء ما يتعلق بنجاح ثورة أكتوبر في روسيا المتخلفة ، يقابلها اخفاق الثورات العمالية في اوربا المتقدمة صناعيا بسبب الهجمات الفاشية التي شنتها الراسمالية ضدها  ، او تتعلق بخصوصيات الوضع في إيطاليا ، مثل المسالة الجنوبية ودور الفاتيكان والدين واثرهما على المجتمع الإيطالي ، و صعود الفاشية بسبب فشل البرجوازية والطبقة العاملة في إيجاد حلول ومخارج للازمة في إيطاليا.

سعى غرامشي الى تحويل الماركسية الى قوة جبارة تتبناها الطبقة العاملة أي " كيفية تحويل ردود الأفعال والتمردات السلبية الى إرادة جماعية واعية ومؤثرة "واعتقد غرامشي ان مفهوم حرب المواقع هو ألاسلوب المناسب للحركة العمالية في أوروبا المتقدمة صناعيا . 

اما في روسيا القيصرية فالامر مختلف تماما ، اذ طرح لينين نظريته المتعلقة بإمكانية حدوث الثورة في اضعف الحلقات في المعسكر الامبريالي ، واستطاع الحزب البلشفي بقيادة لينين من اعلان ثورة أكتوبر وتاسيس اول دولة تقودها الطبقة العاملة وتسعى لبناء الاشتراكية ، وحصل ذلك بتنفيذ طريقة حرب الحركة أي النضال المباشر من اجل الاستيلاء على السلطة السياسية ، واكد غرامشي ان نجاح الحزب البلشفي في تنفيذ حرب الحركة في ثورة أكتوبر نابع من ان الدولة هناك كانت تتحكم في كل شيء ومنظمات المجتمع المدني هشة وعائمة .

مرحلة الانتقال من حرب الحركة الى حرب المواقع   

ان " الانتقال من حرب الحركة الى حرب المواقع في المجال السياسي هو اهم مسالة نظرية سياسية تم طرحها بعد الحرب العالمية الأولى وتعد من اصعب القضايا حلا "  .بل هي الجذر النظري الذي يقف وراء تبني الحركة الشيوعية بشكل عام الأسلوب السلمي في النضال اذا ما استثنينا الطريقة الصينية في استلام السلطة عبر الحرب الشعبية الشاملة .

ان تشكيل الكومنترن في الأممية الثالثة كهيأة تخطيط وتوجيه للحركة الشيوعية ،عمق من ظاهرة تغليب العام على ماهو خاص ، وتبني الستالينية فكرة بناء الاشتراكية في بلد واحد ، والتوجه للتنسيق مع البلدان الراسمالية ضد تغول الفاشية ، وضع غالبية الأحزاب الشيوعية امام اختيار حرب المواقع " الأسلوب السلمي في الكفاح السياسي " أساسا لرسم السياسة سواء الأحزاب الشيوعية في المركز الراسمالي او غالبية الأحزاب الشيوعية في حركة التحرر الوطني .

تجربة الحزب الشيوعي العراقي في مجال أساليب الكفاح  

بعد العرض السابق تتضح الأسباب الكامنة للصراع الفكري بين نمطي التفكير ؛ نمط الكفاح السلمي والكفاح العنفي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيس الحزب الى اللحظة الراهنة .

بالرغم من التوصيف الدقيق الذي خرج به الحزب الشيوعي العراقي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وطبيعة التحالف بين الاحتلال الإنجليزي والاقطاع و الذي رسم معالم الدولة العراقية من حيث الشكل والمحتوى، فان الحزب ظل متمسكا بالكفاح السلمي ولم يطرح إمكانية استخدام الاسلوب العنفي لتغيير النظام السياسي الملكي في العراق الا عام 1957 بسبب ضغط الشارع العراقي المنتفض، و بسبب الأساليب القمعية التي كان النظام الملكي يتعامل بها مع احرار العراق ، وأخيرا بسبب طروحات عدد من كوادر الحزب الذين لم يكونوا مقتنعين بالتوجه السلمي للتعامل مع نظام هو من صنيعة قوى الاحتلال . 

 وبعد اسقاط النظام الملكي عبر استخدام الجيش العراقي ودعم كبير من قبل الجماهير عام 1958 ، فان الصراع بين من تبنى طريقة حرب الحركة وبين من تبنى طريقة حرب المواقع استمر داخل الحزب يفعل فعله سلبا او إيجابا سواء في فترة حكم العارفين ام حكم البعث الثاني ام فترة الاحتلال الأمريكي .  

 

عرض مقالات: