تمتد جذور حركة التحرر الوطني العالمية الى نهاية القرن التاسع عشر بسبب ما آلت اليه الأمور في ظل تقسيم العمل الدولي الجائر  ، بين عالم راسمالي مستعمر وعالم تابع متخلف . لكن مفهوم حركة التحرر الوطني لم يأخذ شكله ومضمونه الا بعد الحرب العالمية الأولى التي أدت الى انهيار نظام الامبراطوريات وانتصار ثورة اكتوبر  و تطور مفهوم تقرير المصير وبشكل خاص بعد النداء الذي وجهه لينين الى الشعوب المضطهدة .

ان الخبرة المتراكمة لحركة التحرر الوطني العالمية تشير الى استخدام اسلوبين أساسيين في الكفاح السياسي لتحقيق اهداف حركة التحرر الوطني: الأسلوب الأول هو الكفاح السياسي السلمي في مقارعة المحتلين او وكلائهم الحاكمين، واعتبر أسلوب المهاتما غاندي (الأسلوب الهندي) هو النموذج لمثل هذا الكفاح ويتمثل في محاولة الحصول على الاستقلال السياسي دون اللجوء الى العنف. واتخذ في التطبيق اشكالا متنوعة تبعا للعوامل الخاصة لكل بلد من بلدان حركة التحرر الوطني وارتباطها بالعوامل الدولية المحيطة بهذه الحركة او تلك . والأسلوب الثاني هو الكفاح السياسي المستند على العنف في التعامل مع المحتلين اووكلائهم من الحاكمين ، واتخذهذا الأسلوب اشكالا متعددة أيضا في التطبيق مثل الحرب الشعبية التي اتخذت التجربة الصينية مثالا لها او الانقلابات العسكرية في عدد من البلدان ، او نتيجة انتفاضات شعبية كبيرة سلمية في بدايتها وتحولت الى ثورات اعتمدت العنف في النهاية لاحداث التغيير .

الحزب الشيوعي العراقي والانتفاضات قبل ثورة الرابع عشر من تموز

واجهت الحزب منذ تاسيسيه مهمات توصيف المرحلة التي يمر بها العراق آنذاك، والصراعات التي تتخللها، والقوى المحركة فيها، وطبيعة التحالفات التي نفرضها عوامل موضوعية وذاتية، واشكال النضال التي يمارسها في الحراك الاجتماعي بدءا من كتابة العرائض الى الانتفاضات والثورات، وأساليب الكفاح التي يستخدمها في نضاله؛ النضال السلمي او العنفي بحسب ما تتطلبه ظروف كل مرحلة. ولعب الرفيق فهد دورا أساسيا في تحديد الجذر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للاستعمار، وحمله مع الاقطاع مسؤولية تخلف بلادنا في كافة المجالات ، ورسم في كتاباته اللوحة الطبقية وطبيعة التحالفات الناتجه عنها ، وتجسدت جهود الرفيق فهد النظرية والعملية في نتائج الكونفرنس الأول والمؤتمر الوطني الأول عام 1945 والتي انعكست في ميثاق العمل الوطني. ومن اهم الخلاصات التي خرج بها الحزب آنذاك انه " يجب تدريب الشعب على جميع اشكال الكفاح السياسي وتهيئته لخوض معارك حاسمة مع العدو . والكفاح السياسي يجب ان يخضع للخطة السياسية الوطنية العامة ".

ان مبعث ميل العراقيين الى الانتفاض في العصر الحديث يعود الى ثلاثة عوامل: العامل الأول هو وجود الاحتلال البريطاني منذ بداية الحرب العالمية الأولى والاحتلالات الأخرى التي اعقبته، والعامل الثاني هو الظروف التي رافقت تشكيل الدولة العراقية من حيث شكل الدولة ومحتواها. والعامل الثالث هو العامل الاقتصادي والاجتماعي.  فبعد الاحتلال البريطاني للعراق واجه الشعب العراقي بغالبية طبقاته وفئاته وشرائحه الاجتماعية ثلاث مهمات: التخلص من الاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني الحقيقي، وبناء دولة وطنية ديمقراطية مستقلة تحترم إرادة الشعب العراقي، والقضاء على عوامل التخلف الاقتصادي والاجتماعي في بلدنا. وعلى هذا الطريق اخذ الحراك الاجتماعي اشكالا متنوعة  : " اضراب المسفن ( الدوكيار) في البصرة عام 1918 ففي 2/مايس 1919 بدات " ثورة الشيخ محمود الحفيد اعقبتها في 30/حزيران 1920 ثورة العشرين التي ساهم فيها اكثر من ( 120 ) الف فلاح وامتدت الى محتلف ارجاء العراق " ثم اضراب عمال الشالجية عام 1927 ، والاضراب العام عام 1931 والمقاطعة الجماهيرية لشركة كهرباء بغداد البريطانية عام 1933 . عام 1935 ساهم الحزب في كثير من الفعاليات الجماهيرية ومن ابرزهاالمظاهرة الشعبيةالكبرى التي قادها الشيوعيون في 3 تشرين الثاني في اعقاب نجاح الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق بكر صدقي في 29/10/1936 " . " كما قاد الحزب نضال الطبقة العاملة من اجل تحقيق قانون العمال رقم 72لسنة 1936 و" قاد الحزب في شتاء 1936- 1937الاضرابات  في اهم مشاريع البلاد، ويقدرعدد أيام الاضراب ب200 يوم عمل. مثل اضراب عمال الموانئ في البصرة ، والنفط في كركوك واضراب عمال انشاء سد الكوت .و انشاء قاعدة الحبانية ، والسكائر في بغداد "  .

بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة تصاعد المد الثوري في العالم بعد الانتصار على النازية وظهور المعسكر الاشتراكي، " اقترن النهوض الشعبي في العراق بتحول الحزب الشيوعي الى حزب جماهيري " اذ نم تأسيس المنظمات الديمقراطية الطلابية والشبابية والنسائية والتي لعبت أدوارا هامة في الحراك الجماهيري إضافة الى دور الطبقة العاملة واتحادها الداعم باستمرار لهذا الحراك. وكانت ثمار نشاط الحزب الشيوعي والحركة الوطنية والمنظمات الجماهيرية وثبة كانون 1948 وانتفاضة تشرين 1953 وانتفاضة 1956 الداعمة لمص ضد العدوان الثلاثي وجبهة 1957 التي مهدت لثورة الرابع عشر من تموز 1958 .

الحزب الشيوعي العراقي نشأ في بيئة تمور بالحركة وتتطلع الى التغيير وليس في بيئة هجينة غريبة عن الفكر الاشتراكي كما ادعى البعض ، فغالبية الفلاحين يعانون من سحق العلاقات الاقطاعية ، والطبقة العاملة الناشئة تعاني من وطاة الاستغلال الطبقي المزدوج فمن جهة هم ضحايا استغلال البرجوازية المحلية  ومن جهة أخرى هم ضحايا الراسمالية الأجنبية التي وطدت مشاريعها في بعض مناطق العراق ، كما عانت فئات المثقفين عموما والحرفيين الصغار وشرائح من البرجوازية المحلية واعداد غفيرة من المهمشين من اثار العلاقات شبه الاقطاعية شبه الراسمالية التي رسخها الاستعمار البريطاني خدمة لمصالحه. فليس غريبا ان يكون حملة شعلة الحزب الأولى من طلائع المثقفين والعمال والفلاحين ، يذكر المناضل زكي خيري بانه " كانت حركة الكادحين تسير سيرها العفوي غير المنظم فتاخذ أحيانا طابع الانفجار الشامل الرهيب ، شان ثورة العشرين المسلحة والاضراب العام في تموز 1931ثم تعاني من السبات الطويل ". ولذلك أصبح تأسيس حزب شيوعي عراقي ضرورة في ظل العفوية والفعل ورد الفعل وتحت وقع الصراعات التناحرية الداخلية والتوازنات الدولية آنذاك بعد انتصار ثورة أكتوبر ونمو حركة التحرر الوطني.

إشكالية العلاقة بين أساليب النضال المختلفة

اعتمد الحزب الشيوعي العراقي منذ تاسيسه أسلوب الكفاح السلمي للتخلص من الاحتلال البريطاني البغيض وبناء دولة ديمقراطية وإنقاذ العراق من التخلف الاقتصادي والاجتماعي ، ولم ترد في وثائق الكونفرنس الأول والمؤتمر الأول عام 1945 اية إشارة الى اسقاط النظام الملكي عبر العنف ، وحينما رفع بهاء الدين نوري سكرتير الحزب في عام 1953 شعاري اسقاط السلطة وحق الاكراد في الانفصال ، وقف اغلب قادة الحزب ضد ما اعتبروه اتجاها متياسرا ، وذكر الرفيق الراحل عزيز محمد في مقابلة مع الدكتور سيف القيسي بان انشقاق راية العمال كان بسبب طروحات بهاء الدين نوري لانها تجاوزت سياسات الحزب الشيوعي التي اتخذت في المؤتمر الأول ، اذ كان الحزب يدعو " للنضال من اجل تطوير النظام الملكي الى نظام ديمقراطي " ، وكان يسعى الى " إقامة حكومة ديمقراطية حقيقية في ظل نظام ملكي دستوري " . انعقد الكونفرنس الثاني في أيلول عام 1956 وأصدر وثيقة برنامجية بعنوان (في سبيل تحررنا الوطني والقومي) تبنى فيها " الأسلوب السلمي في النضال للإطاحة بالنظام الملكي والاقطاعي العميل " كما ذكر الراحل احمد دلزار في لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي. كما ذكر ذكر جاسم الحلوائي انه " على إثر انعقاد الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي في أيلول 1956، انعقد في بداية تشرين الأول في الكوفة اجتماع موسع لكوادر الحزب في الفرات الأوسط. ضم الاجتماع أعضاء اللجان المحلية وقيادة المنطقة، وحضره الرفيق سلام عادل سكرتير اللجنة المركزية ومعه عضو اللجنة المركزية سليم الجلبي. شرح الرفيق سلام عادل الوثيقة الصادرة عن الكونفرنس تحت عنوان " خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي ". ان القضية التي اثارت نقاشا في الاجتماع هي أساليب الكفاح . فقد شخصت الوثيقة طبيعة المعركة باعتبارها معركة ذات طابع سلمي غالب. ولم يقتنع العديد من المشاركين بالتوضيحات التي قدمت للاجتماع لتبرير هذا الاستنتاج  لان ما يواجه بلادنا هو قبل كل شيء ضرورة تحول السياسة القائمة من سياسة تعاون مع الاستعمار وتوافق مع الصهيونية وانعزال عن حركة التحرر الوطني الى سياسة وطنية عربية مستقلة .

ولم يلجأ الحزب الى إمكانية استخدام الأسلوب العنفي في اسقاط النظام الملكي الا بعد اجتماع اللجنة المركزية في تشرين عام 1956بعد انتفاضة الشعب العراقي تضامنا مع مصر ضد العدوان الثلاثي. اذ " اعادت للجنة المركزية في وقت مبكر دراسة هذا الموضوع وتوصلت الى تقرير مغايرعما ورد في وثائق الكونفرنس. اذ حددت أسلوب العنف هو الأسلوب الراجح في كفاح شعبنا وحركته الوطنية من اجل التغلب الحاسم على عدوانية وعنف الاستعمار وحكمه العميل ". وقد حصل هذا التغير في أسلوب الكفاح السياسي من الأسلوب السلمي الى الأسلوب العنفي لثلاثة عوامل  : الأول هو " ضغط تطور الاحداث في بلادنا بعد انتفاضة خريف 1956" والعامل الثاني هو الأساليب التعسفية التي يستخدمها النظام الملكي ضد أبناء الشعب العراقي والعامل الثالث هو نتيجة التفاعل مع اراء العديد من كوادر الحزب وقواعده الذين لم يقتنعوا في الأسلوب السلمي في الكفاح ضد النظام الملكي الاقطاعي .

وحرصا على التركيز على موضوع المقالة ودون الدخول في تفاصيل أصبحت معروفة، فان الصراع الفكري بين نمطي التفكير؛ نمط الكفاح السلمي والكفاح العنفي استمر وبدرجات متفاوتة خلال فترة ثورة تموز والموقف من سياسة عبد الكريم قاسم، وفترة الحكم العارفي، وفترة حكم البعث وانهيار الدكتاتورية عبر الاحتلال الأمريكي. والسؤال الكبير الآخر هو : لم هذا الاختلاف بالرغم من وضوح المنهج الماركسي ومتانة نظرية المعرفة الماركسية ؟ سيكون الجواب على هذا السؤال في مقالة قادمة .

عرض مقالات: