في الذكرى الثالثة لانطلاق ثورة تشرين المجيدة أود ان أطرح عدة ملاحظات ومقترحات اَنية تخص الحراك المدني وضرورة تطويره وتقريب انتصار قوى التغيير الديمقراطية على الطبقة السياسية الفاسدة..
الملاحظة الأولى- منذ 17 عاماً تواصل الغالبية العظمى من العراقيين موقفها السلبي: الصمت والتفرج على ما يجري في العراق من جرائم نكراء وهيمنة على مقدرات البلد، واستحواذ على جميع مؤسسات الدولة، ونهب المليارات، وإشاعة الفساد والمحسوبية والمنسوبية، وانتشار الفقر والبطالة ونقص وحتى انعدام الخدمات، إلى جانب قمع المحتجين بكل وحشية من قبل القوات القمعية.
بصراحة، ظاهرة الصمت والتفرج ليست من شيم العراقيين الأصلاء الذين لم يخنعوا للطغاة والدكتاتوريين والمتسلطين على رقاب الشعب. ومن يتخذ هذا الموقف المؤلم والمخجل إنما يثبت بأنه يتجاهل ما حصل ويحصل من جرائم وظلم وجور من قبل الطغمة الحاكمة، مع أنه يعيش في المعمعة وعائلته متضررة. هذا الموقف السلبي مرده:
* اللاأبالية والتفكير الأناني العقيم “ما عليه”، غير مدرك بان صمته يشجع الطغمة الحاكمة على مواصلة تسلطها وجورها واستهتارها وفسادها..
* الإحباط والقنوط وفقدان الأمل بحصول التغيير بعد ان طال حكم الطبقة السياسية الفاسدة لعقدين.
* الإرهاب والترهيب وبث الرعب والخوف، تارة، والقمع الوحشي، تارة أخرى، من قبل السلطة.
والأهم، ان الظاهرة المذكورة تؤشر إلى تلكؤ وعجز القوى المناضلة من أجل التغيير في استنهاض غالبية العراقيين وكسبهم. فلابد من تلافي ذلك عاجلا بعمل جماعي.
أطرح ذلك وأنا مدرك جيداً أن مهمة استنهاض الجماهير ليست هينة، خاصة في المرحلة الراهنة التي يعيشها شعبنا وتتسم بعدم تكافؤ الفرص ولا الإمكانيات بين قوى تناضل سلمياً وتطالب بحقوقها المشروعة وتُجابه مظاهراتها واحتجاجاتها بالرصاص والقتل، وهي لا تملك واحدا من ألف ما يمتلكه الخصم من سلطة ونفوذ ومال وسلاح وجيش من الأبواق الإعلامية ووعاظ السلاطين.
مع هذا، لابد من عمل طوعي للتحرك على المناطق والمحلات السكنية حيثما يوجد الفقر والعوز والمرض وانعدام الخدمات والعشوائيات والعاطلين عن العمل والكادحين الآخرين بهدف توعيتهم وفضح الطبقة الحاكمة المسؤولة عن أوضاعهم المأساوية، بينما هي أصبحت من المليونيرية على حساب إفقار الشعب وإذلاله. وبذلك يمكن كسبهم إلى جانب قوى التغيير.
الملاحظة الأخرى: بمقابل الموقف السلبي لغالبية العوائل العراقية المتضررة من منظومة المحاصصة الطائفية والفساد، يعتز المجتمع العراقي الجريح ويفتخر بشبيبته الواعية التي برزت كأيقونة حقيقية للثورة ونبراس وهاج لها. وأصبحت الأمل المعول عليه لتخليص العراق من منظومة السلطة الفاشلة والفاسدة والمليشيات المسلحة والمتاجرين بالدين والناشرين للتخلف والجهل والدجل والشعوذة.
يسجل التأريخ الحديث لشباب وشابات ثورة تشرين الباسلة بكل جدارة واستحقاق ما يلي:
- أنهم جيل عراقي أصيل، جيل واع، وراق، جيل الرجولة والشجاعة والغيرة والشهامة والعزة والكرامة.
- أنهم الجيل الذي تنبأ به الجواهري الكبير قبل عقود:
سينهض من صميم اليأس جيل شديد البأس جبار عنيد..
ونصح شاعرنا الخالد وكأنه بينهم الآن: قل للشباب تحفزوا وتيقظوا وتأهبوا للنائبات..
فهم الجيل العراقي، الذي لم يعد يسكت على الظلم والجور، ولا على الذل والمهانة، ولا على الاستبداد والعمالة، فتصدى للظالمين والمستبدين والخونة، بكل إباء، ممتلكاً العزم والشجاعة والأقدام بأبهى تجلياتها، ولا أدل على ذلك من استرخاص لأغلى ما يملك (الحياة)، وهم في عز الشباب وعنفوانه، في سبيل الخلاص من نظام فاسد جثم على صدور العراقيين 19عاماً، ولم تجلب الطغمة الحاكمة الفاسدة للعراقيين سوى الذل والفقر والجهل والتخلف والمرض، بعد أن نهبت ثروات البلد وعاثت في إدارته وعلى أرضه فساداً وظلماً بكل خسة ودناءة، وكأنه لم تكف الشعب العراقي معاناة وفواجع الكوارث التي عاشها طيلة أربعة عقود مضت في ظل النظام الدكتاتوري البعثي الفاشي..
لقد أثبت شباب وشابات العراق البواسل أنهم أمل المستقبل الأفضل لشعبهم ولأجياله القادمة! فطوبى ومليون طوبى لهم.
ولعل أبرز ما تتميز به ثورة تشرين المجيدة أنها جاءت عفوية، لا وصاية عليها من قبل الأحزاب السياسية، وبعيدة كل البعد عن التحزب والطائفية والعشائرية والتعصب المذهبي والطائفي والقومي، وقد لجمت أفواه من يتهمها بأنها “بتحريض” و”بدعم أجنبي”..
من شعاراتها الرائعة: (نريد وطن!) و (نازل اَخذ حقي!).. شعارات توثق الوطنية الحقة، والطموح باستعادة وطن مسلوب ومرتهن، لإعادة بنائه بعزيمة شبيبته الغيارى، وصولا لدولة المؤسسات والمواطنة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية، التي ستؤمن لكافة العراقيين والعراقيات، كباراً وصغاراً، الحياة الحرة الكريمة والمستقبل الأفضل.
بيد أنه رغم كل الإيجابيات، التي يفتخر بها التشرينيون، برزت، للأسف، في صفوفهم، دون إرادتهم، العديد من السلبيات والهنات ضمن مقومات النصر..
ثمة حقيقة صادمة وهي ان غالبية المنتفضين الشباب تفتقر إلى الخبرة والتجربة، وذلك أمر طبيعي لأنهم ما زالوا في مرحلة الشباب وقليلي الخبرة، فضلا عن أن نظام منظومة المحاصصة والفساد الجاثم على صدور العراقيين قد حرمهم من فرص عديدة وهامة من فرص المعرفة الحديثة والثقافة التقدمية والتطور العلمي والفكري، وأحل محلها الجهل والدجل والشعوذة، إلى جانب إشاعة عوامل التخلف، وسدت كافة فرص الحياة الحرة الكريمة في وجوه الشباب وتطلعاتهم، الأمر الذي دقع الآلاف من جيلهم إلى مستنقع الإدمان، وأنتحر المئات منهم، وقتل الأوباش حتى أحلام الشباب...
ان ضعف المعرفة والوعي والإدراك، وقلة التجربة الحياتية، في خضم مشاكل كثيرة متفاقمة ومتزايدة، والاندفاع المتسرع ودون تفكير، كل ذلك مهد لسهولة انخداع وانجرار شباب يافع وراء المندسين، وهم لا يعرفونهم، ولم ينبههم أحد عنهم، فخرجوا عن التظاهر السلمي، وقاموا بأعمال شغب وتخريب، كحرق ممتلكات الدولة والممتلكات الخاصة والمقرات الحزبية، إلى جانب حرق الإطارات، الذي يلوث الجو، الذي هو ملوث بشتى الملوثات والسموم الضارة بصحة المرضى والأطفال والشيوخ والعجائز...
رجائي الحار إلى التنسيقيات ونشطاء الحراك المدني أن يمنعوا المتظاهرين من حرق الإطارات أثناء إحتجاجاتهم لخطورته على البيئة وصحة المواطنين.
وان ينبهوا مراراً وتكراراً إلى المندسين والحذر من الوقوع في حبائلهم، وكشف أنشطتهم المخالفة لسلمية التظاهر والاحتجاج. وحبذا لو يتم طبع منشور بصفحة واحدة يتضمن التحذيرات المطلوبة يوزع قبل كل مظاهرة واحتجاج..
وعدا هذا، برزت قضية أخرى غير لائقة، ألا وهي التكبر والتعالي على الآخرين، والتمسك بالرأي حتى لو كان خاطئا، وعدم احترام الرأي الآخر، وجرى الاعتداء على شخصيات وطنية سياسية وقانونية، دون وجه حق، اَخرها رئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب المناضل المعروف النائب المستقل محمد عنوز.. وهذه ليست من شيم المناضلين والديمقراطيين الحقيقيين.
واقترانا بهذه السلوكية غير السوية، رفع قسم من الشباب المتظاهر ومن نشطاء الحراك المدني شعار يعادي الأحزاب العراقية كلها، دون تفريق بين الأحزاب المتنفذة في السلطة والفاسدة والتي عاثت في البلد فساداً وخراباً ودماراً طيلة السنين المنصرمة، وتستحق السقوط، وبين الأحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية التي لم تتلطخ أيديها لا بدماء العراقيين ولا بنهب أموال الدولة، وهي تعمل وتساند ثورة تشرين ومطالبها العادلة..
ليعلم الجميع أنه لا حياة حرة وديمقراطية حقيقية من دون وجود الأحزاب، خاصة ذات التأريخ العريق والمجيد والتي لعبت دورها المشهود في نضالات الشعب، وقدمت التضحيات الجسام واَلاف الشهداء ضد الاستعمار ومن أجل الاستقلال الناجز، وضد الدكتاتورية والاستبداد. هذه الأحزاب تستحق التقدير والاحترام، ويمكن الاستفادة من خبرتها وتجاربها الغنية. ومن المفيد جداً التنسيق والتعاون مع قياداتها، وكسب جماهيرها إلى صفوف قوى التغيير والثورة. مع ضرورة تفعيل قانون الأحزاب وتقليص أعداد الأحزاب الهامشية أو التابعة لبيوتات عائلية.
ليكن الموقف والمطالبة بإسقاط الأحزاب الفاسدة التي دمرت العراق وأذلت شعبه ونهبت أمواله باسم الدين و “الجهاد” و” المظلومية”...
الملاحظة الأخرى: على جميع الخيرين ان يدركوا أنه لا خلاص من منظومة المحاصصة والفساد والمليشيات إلا بتوحيد كافة القوى العراقية الخيرة، المدنية والوطنية الديمقراطية والتشرينية والناشئة، بالتنسيق والتعاون مع الاتحادات والنقابات وبقية منظمات المجتمع المدني، التي شاركت في ثورة تشرين، كالمحامين والمعلمين والأكاديميين والمهندسين والأطباء وذوي المهن الصحية والنساء والطلبة والعمال والفلاحين والتجار. لذلك، لابد ان تُكثف الجهود نحو تمتين وحدة قوى الثورة والتغيير الجذري والشامل.
ان الوحدة والتنسيق والعمل المشترك للقوى الخيرة ضمانة أكيدة لانتصار قوى التغيير الديمقراطية. وإلى جانب ذلك، أرى ضرورة طلب تنسيقيات تشرين استشارة ومساعدة طوعية من شخصيات أكاديمية ومهنية كفوءة ومستقلة، خاصة في القانون والدستور وعلم النفس السياسي وعلم الاجتماع، وما إلى ذلك.
أخيرا أن ما حصل في الأول من تشرين الجاري من تظاهرات في ساحة التحرير والنسور وفي المحافظات الأخرى، كان رسالة إلى الكتل السياسية بأن تشكل حكومة تحقق تطلعات العراقيين.