في لقاء تلفزيوني أجري معها عام 2005 تحدثت كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، عن أهداف واشنطن من أفتعال الأزمة الأوكرانية الحالية، مختصرة تلك الأهداف، بالحيلولة دون إعتماد أوربا على الطاقة الروسية الرخيصة، وجعل الأوربيين يعتمدون على ما أسمته بمنصة الطاقة في أمريكا الشمالية. رايس أكتفت بالحديث عن الهدف المباشر وهو وقف خطوط الطاقة الروسية التي تزود أوربا بالغاز الرخيص، دون أن تكشف عن الوسيلة التي ستتبع لتنفيذ الهدف المذكور، ودون أن تكشف كذلك عن الأهداف الأخرى الأكثر عمقا من الهدف المباشر.
وها هي مجريات المواجهة الأمريكية ـ الروسية في أوكرانيا تكشف عن ما أعرضت رايس عن الإفصاح عنه، وهو تقويض قدرات طرفين ناهضين، يحمل كل منهما بذور تشكيل قطب دولي يشكل خطرا على تفرد أمريكا بموقع القطب الأوحد، وهما الاتحاد الروسي والإتحاد الأوربي.
روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي نهضت من كبوة الأنهيار، وأرتقى أقتصادها ليحتل المرتبة الحادية عشرة في تسلسل البلدان الأقوى أقتصاديا، فإلى جانب مكانتها الكبرى في مجال الطاقة، تحولت روسيا من بلد مستورد للحبوب إلى مصدر لها، وطورت صناعاتها العسكرية لتتفوق في بعض منها على الصناعات العسكرية الأمريكية، وهي بهذا تنافس الولايات المتحدة في سوق الطاقة وسوق الغذاء، وسوق الأنتاج الحربي، فضلا عن استعادة بعض من دورها في مجال علوم وتكنلوجيا الفضاء. وهي أسباب أربعة تضعف على المستوى البعيد وربما المتوسط، أمكانية الحيلولة دون حصول روسيا على مكانة سياسية تناسب قدراتها الأقتصادية والعلمية، بما يجعلها تتطلع الى تغيير النظام العالمي باتجاه التعددية القطبية.
وإذا كانت رايس قد اكتفت بالحديث عن الأسباب الأقتصادية التي تحتم سد الطرق أمام روسيا لتحقيق أهدافها، فان خيلفتها في وزارة الخارجية هيلاري كلينتون، قد عبرت بشكل صريح عن الجوانب السياسية للمسعى الأمريكي بالقول: ((أن روسيا كبيرة أكثر مما ينبغي))، أي أن الاتحاد الروسي ينبغي أن يفكك، كما فكك الإتحاد السوفييتي، بما يقضي على حلم المنافسة الروسي.
أما الاتحاد الأوربي الذي مكنته الطاقة الروسية الرخيصة، من تطوير اقتصاد مزدهر، فقد شكل منافسا حقيقيا للولايات المتحدة في مختلف الأسواق العالمية، واتجه، عبر أصدار عملته الموحدة (اليورو) الى سياسة نقدية يمكن أن تهدد مكانة الدولار، الحاسمة في الأقتصاد العالمي، فهو رغم تحالفه السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة ينطوي على (خطر) السعي في وقت غير بعيد الى احتلال موقع قطب دولي منافس.
والخطة الأمثل للقضاء على خطر المنافسين المحتملين، هي ضربهم ببعضهم، أي ضرب روسيا بأوربا لأستنزاف الطرفين، بما يوصلهما لوضع يسهل التحكم به من قبل واشنطن، والأنفراد ليس فقط بالموقع السياسي والعسكري الأقوى، بل كذلك زيادة الهيمنة الأقتصادية على العالم، بتحويل روسيا وأوربا من منافسين أقتصاديين، إلى تابعين يمكن التحكم بمسار تطورهما الأقتصادي عبر إضعاف موقعهما في الأسواق العالمية.
واختيرت أوكرانيا لتكون مسرحا لتنفيذ الخطة، وهي من أكبر بلدان أوربا مساحة، وذات ثقل ديموغرافي كبير نسبيا ـ أكثر من أربعين مليون نسمة ـ وتحتزن نزعات معادية لروسيا، يمكن تأجيجها عبر تسعير العداء لسكان الأقاليم الأوكرانية التي يتكون سكانها من غالبية روسية، بما يستدرج روسيا الى التدخل في النزاع الداخلي الأوكراني. ليكون ذلك بدوره سببا لدفع بلدان الاتحاد الأوربي الى الوقوف الى جانب أوكرانيا ضد التدخل الروسي. أمر لابد أن يؤدي الى تدمير علاقة الاتحاد الأوربي بالأتحاد الروسي، ونقلها من دائرة التعاون الى دائرة العداء.
وجرى التمهيد لهذه العملية بتلغيم الإتحاد الأوربي وحلف الناتو، ببولندا وبلدان البطيق الثلاث ـ استونيا، ليتوانيا ولاتيفيا ـ التي تمتلك النفوذ فيها نخب شديدة العداء لروسيا من منطلقات تأريخية، نخب تشعر أنها مدينة بنفوذها في بلدانها إلى الدعم الأمريكي، وترى أن من مهامها لتدعيم ذلك النفوذ الوقوف الى جانب التوجهات والمواقف الأمريكية داخل الاتحاد والحلف. كما جرى التمهيد لهذه الخطة بخلخلة الاتحاد الأوربي عن طريق تشجيع بريطانيا على الأنسحاب منه. وجرها الى تحالف مضاد للصين، مكون منها ومن استراليا بقيادة الولايات المتحدة.
كان استدراج روسيا الى العمل العسكري ضد أوكرانيا بعد توجه الأخيرة الى الأنضمام الى حلف الناتو، بما يتيح لها جر الحلف الى دعمها في استخدام القوة لأعادة فرض سيطرتها على الأقاليم المتمردة ذات الأغلبية الروسية، وكذلك استعادة شبه جزيرة القرم التي أصبحت جزءا من الاتحاد الروسي بعد أن صوت سكانها في استفتاء أجري عام 2014، على الأستقلال عن أوكرانيا والأنضمام الى روسيا.
العملية الأستباقية الروسية كانت فرصة ستراتيجية لتنفيد خطة ضرب الاتحاد الروسي بالأتحاد الأوربي بما يضع نهاية للتعاون بين الجانبين، ويحرم أوربا من موارد الطاقة الروسية رخيصة السعر، وتحقيق الهدف الذي حددته غونداليدا رايس بنقل أعتماد أوربا الى ما أسمته بمنصة الطاقة الأمريكية الشمالية، وبأسعار باهضة تضعف من القدرة التنافسية للبضائع الأوربية أمام البضائع الأمريكية. وفي ذات الوقت خلق ظروف تؤدي الى تفكيك الإتحاد الروسي. لتتفرغ الولايات المتحدة بعدها لمواجهة الصين، التي أعتبرتها الإستراتيجية الأمريكية المعتمدة: ((أكبر تهديد للنظام العالمي)).