نستذكر اليوم الذكرى الثالثة لانتفاضة تشرين المجيدة والذي ساهم فيها جميع أبناء الشعب العراقي وانحاز اليها المثقفون بمختلف انتماءاتهم السياسية ومرجعياتهم الثقافية والفكرية، ولكن مساهمتهم وأهميته دورهم ظل محل نقاش وجدال يتوزع بين الذين يعتبرونهم قد ساهموا بشكل فعال من خلال مواقفهم وإنتاجهم الادبي والفني، ومعارضتهم لسياسة المحاصصة الطائفية، وما لعبوه من دور أساسي في التمهيد لانتفاضة تشرين المجيدة بعد العديد من التمارين اليومية الاحتجاجية التي ساهمت في نشوء الوعي الاحتجاجي الجمعي للجماهير وتسليحها ثقافيا وفكريا، بينما يرى آخرون ان المثقفين ظلوا مترددين والتحقوا بالانتفاضة متأخرين ، أما الرأي الثالث الذي لا يرى للمثقفين دورا بأي شكل من الأشكال في الانتفاضة التشرينية . ولكي نخوض في عمق تفاصيل هذه الموضوعة يتطلب منا تسليط الأضواء على واقع المثقفين والثقافة العراقية والتحديات التي واجهتهم وتواجههم منذ سقوط الدكتاتورية الفاشية، مرورا بالاحتلال الامبريالي الأمريكي، وما يعنيه المثقفون والثقافة الوطنية في ظل نظام المحاصصة الطائفية والجهوية الحالي.
أن المثقفين يواجهون تحديات فارقة أضعفت الدور الريادي للمثقفين والثقافة الوطنية الديمقراطية في التأثير على الوعي الجمعي الهادف إلى التغيير الديمقراطي عبر المشروع الثقافي التنويري الذي يحقق البديل الديمقراطي الحقيقي على قاعدة العدالة الاجتماعية والتقدم الاجتماعي، ومن أهم التحديات التي تواجههم لتحقيق المشروع الثقافي الوطني الديمقراطي هي:
أولا: آثار الدكتاتورية الفاشية وسياستها الثقافية التي أدت إلى تشويه وتحطيم قيم الثقافة الوطنية، وأثرت تأثير بالغا على مستوى الوعي الاجتماعي من خلال سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وحروبها الكارثية التي أسهمت في تدني المستوى التعليمي وانتشار الامية والجهل والخرافة والفقر والعوز والفاقة، واستخدمت الدكتاتورية الفاشية الصدامية الإعلام والمؤسسات الثقافية لنشر الافكار العنصرية والشوفينية وتسخيرها لعبادة الدكتاتور وحملته الايمانية وأفكار نظامه الشمولي ومشروعية حروبه العبثية.
ثانيا : الاحتلال الامبريالي الامريكي الذي قضى على بقايا المؤسسات الثقافية والإعلامية التي كانت تعاني من آثار الدكتاتورية والحروب و الحصار الجائر والذي جعلها خاوية ومعزولة عن تطورات الثقافة الانسانية العالمية ، فجاءت ممارسات الاحتلال التي سمحت بسرقة وإتلاف المتحف الوطني والأرشيف العراقي وسرقة المكتبة الوطنية العراقية وتخريب العديد من المؤسسات الثقافية وسرقة وإتلاف آلاف القطع الأثرية والأعمال الفنية لتزيد الواقع الثقافي تدهورا، بالإضافة إلى سعيهم الحثيث لنشر ثقافة العولمة النيوليبرالية وثقافة اليانكي الاستهلاكية .
ثالثا: الثقافية الظلامية السلفية والماضوية المبنية على إلغاء الآخر والدعوة للانغلاق على الموروث الجهوي والطائفي ومحاولة الخلط المتعمد بين الدين السياسي والتراث والهوية وتصوير الصراع كأنه صراع بين التراث والحداثة، وانتهاج سياسية ممنهجة لتحجيم الثقافة الوطنية الديمقراطية ومحاربة الصحفيين والفنانين والادباء والعلماء والأكاديميين وتشجيع الثقافة الغيبية والخرافات والجهل وتحويل العمل والتوظيف في المؤسسات الثقافية والإعلامية إلى سوق للمحاصصة الطائفية في كل تجلياتها.
وعلى الرغم من كل هذه التحديات والتداعيات الهائلة، إلا أن المثقفين الوطنيين الديمقراطيين استطاعوا ان يواجهوا هذه الآثار والمشاريع الرجعية بكل شجاعة وتحد رغم إمكاناتهم المتواضعة، وساعدهم في ذلك الفضاء الرقمي المفتوح ووسائل الاتصال الاجتماعي الذي يقع معظمها خرج سيطرة ورقابة وتحكم المؤسسات الرسمية القابضة على المشهد الثقافي الوطني، مما سهل بعض الشيء مهمة المثقفين الوطنيين الديمقراطيين في جعل الثقافة الوطنية الديمقراطية العمق الفكري والثقافي لانتفاضة تشرين الباسلة، وكانت لهم أدوار هامة منذ الشرارة الأولى للحراك في عام 2011 وما أعقبهما من تحركات ومظاهرات واعتصامات في عام 2015، والتي تتوجت بانتفاضة تشرين المجيدة عام 2019 والذي لعب فيها المثقفون دورا هاما في صياغة شعاراتها ودفعها للانتقال من الحراك المطلبي اليومي إلى الحراك الجماهيري الوطني تحت شعار (نريد وطن ) .
و تحمل المثقفون كغيرهم من الجماهير المنتفضة وزر وعبء العنف والقمع الذي واجهته الانتفاضة الجماهيرية من قبل الحكومات المتعاقبة ، فتعرضوا إلى الاعتقالات والتعذيب والعنف والاغتيالات، فتم اغتيال المفكر كامل شياع والكاتب المسرحي هادي المهدي والكاتب والباحث علاء المشذوب والمراسل الصحفي أحمد عبد الصمد والمصور صفاء التميمي والشاعر علي نجم اللامي والباحث هشام الهاشمي والدكتورة ريهام يعقوب ومعهم آلاف من المثقفين الآخرين من الخريجات والخريجين العاطلين عن العمل ومن الطالبات والطلاب والأساتذة والأطباء والصحفيين والفنانين المشاركين في الانتفاضة الذين تعرضوا إلى الإصابة والتعويق الجسدي والنفسي نتيجة استخدام القنابل الغازية المحرمة دوليا والقنابل الصوتية والاعتداءات في السكاكين والاعتداءات اللفظية والجسدية والتعذيب والاختطاف والاغتصاب.
كما هاجر إلى خارج الوطن أو رحل إلى كردستان لطلب الحماية المئات من المثقفين الذين طالتهم وذويهم وأقاربهم التهديدات في القتل من جهات مجهولة، دون ان تستطيع الحكومة توفير الحماية لهم وملاحقة الجهات التي تقوم بهذه الاعمال الارهابية والإجرامية المشينة.
ولازال هناك العشرات من المغيبين من أمثال المحامي الشاب علي جاسب والكاتب توفيق التميمي والناشط سجاد العراقي والكاتب والناشر مازن لطيف والعشرات الآخرين الذين لازال مصيرهم مجهولا حتى الآن.
لقد شارك المثقفون العراقيون في التظاهرات والمسيرات التي شهدتها العاصمة بغداد و محافظات الوسط والجنوب في 1تشرين 2019 والتي تحولت في الخامس والعشرين إلى تظاهرات ضخمة طرزها بالورود ذوو القمصان البيضاء من طالبات وطلاب اتحاد طلبة بغداد الذين حمتهم سواعد الشغيلة والكادحين والمثقفين الذين بذلوا ارواحهم في سبيل انتصار الانتفاضة متحدين حكومة عادل عبد المهدي وعنفها الدموي باستخدام الرصاص الحي والمطاطي والغاز القاتل، وشنت السلطات حملة اعتقالات واسعة مستخدمة مختلف الجهات الامنية وبالاشتراك مع الميليشيات لقمع الانتفاضة واستخدموا العنف والقوة القاتلة في محاولة منهم لإخماد الانتفاضة الباسلة، وجرى ارتكاب جريمة بشعة بحق متظاهري الناصرية في 28 تشرين الثاني 2019 راح ضحيتها 32 شابا، مما أدى إلى تصعيد الوضع في العاصمة بغداد وأغلب المحافظات في الوسط والجنوب، وجسد المنتفضون العديد من المآثر البطولية في ساحة التحرير والسنك وساحة الحبوبي وساحة العشرين و في ساحات مدن الحلة وكربلاء والعمارة والكوت والسماوة والديوانية وغيرها من المدن العراقية.
وكانت تلك البطولات والمآثر هي المادة الصحفية والشعرية والمسرحية والعمل التشكيلي وحديث الندوات والطاولات الصحفية التي جرت في الساحات والخيم وعلى صفحات الجرائد وعلى المنصات الالكترونية والإعلامية الذي أكد فيها المثقفون عبر هذه الأعمال المختلفة انهم جزء من القوى المحركة للحراك الجماهيري التشريني، وتحدوا بكل شجاعة الخطاب الطائفي لقوى المحاصصة والفساد والداعي إلى شيطنة الانتفاضة وتبرير قمعها بحجة الطرف الثالث، حيث أصدروا الصحف والجرائد مثل التكتك و25 تشرين الثاني والاحتجاج، لتنقل أخبار المنتفضين وبطولاتهم في أرجاء الوطن و تدعو إلى التضامن معهم والتعريف بواقع الساحات والخيم وظروفها والتصدى للتشويهات والتلفيقات والاتهامات الرخيصة التي كان يروج لها الإعلام الطائفي وجيوشه الالكترونية والتي تسعى إلى تسقيط المنتفضين واضعاف التأييد الشعبي لهم بعد ان عجزت وسائل الترهيب والترغيب في كسر شوكتهم وعزيمتهم، وجرى ايضا اصدار ملحق عن الانتفاضة لصحيفة طريق الشعب وساهمت صحف أخرى مثل المدى والحقيقة والزمان والصباح والتآخي وغيرهما في تغطية يوميات الانتفاضة، وأقامت مجلة الثقافة الجديدة ندوة لها عن الانتفاضة في الخيمة العراقية في ساحة التحرير .
وكان للمسرح دوره في حياة المنتفضين من خلال مسرح ساحة التحرير والذي عرض العديد من المشاهد المسرحية، حيث شارك في عرضها وتمثيلها الشابات والشباب المنتفضون بإمكاناتهم البسيطة دون ماكياج او ديكور وخشبة مسرح وأشترك فيها العديد من الفنانين الشباب الهواة الذين وقفوا لأول مرة على مسرح الانتفاضة، ولعبت خيمة الفنانين دورا فعالا في تشجيع المواهب الشابة وتوفير أجواء العمل الفني. وأقيمت عروض مسرحية في محافظة بابل مسرحية (إلى أين)، وقدم في البصرة عرض للإطلاق النار للمخرج علي عصام، وشهدت ساحة الناصرية مسرحية حول مجزرة الناصرية.
ولم يبخل الفنانون التشكيليون بجهودهم فقد كانت لهم مساهماتهم البارزة على جدران نفق التحرير والمطعم التركي وفي ساحات المدن العراقية الاخرى، وجرت إقامة العديد من المعارض الشخصية التي استوحت مواضيعها من يوميات الانتفاضة ومآثر شهدائها وجرحها وإبطالها الذين واجهوا العنف الدموي ومجازر السنك والناصرية والنجف والحلة والبصرة وكربلاء بصدور عارية، وشارك في هذه الاعمال طلاب وأساتذة كليات ومعاهد الفنون الجميلة وبعض الموهوبين والمحترفين من الفنانين التشكيليين.
واستطاع المنتفضون ان يبثوا بياناتهم وأهازيجهم الوطنية والثورية عبر إذاعة ساحة التحرير التي تم صنعها بأدواتهم المتواضعة، وبث العديد من الفضائيات العراقية والعربية برامج تناولت الفعاليات الفنية والثقافية داخل ساحات الاحتجاج وقدمت الشاشة الصغيرة العديد من الاعمال التلفزيونية مثل (كما مات وطن)، (ولاية بطيخ) (البشير شو).
وشارك العديد من الفنانين والمطربين الشباب والمحترفين عبر الأغاني والأناشيد الوطنية والثورية التي أعادت للأغنية السياسية بريقها السبعيني، والتي مجدت بطولات ثوار انتفاضة تشرين و ابطالها الشباب وعبرت عن تضحياتهم الجسام وتضامنها مع المغيبين والجرحى والمعتقلين وشدت من ازرهم وعضدت من صمودهم ، مثل أغنية الفنانة رحمة رياض أحمد (نازل اخذ حقي) وحسام الرسام( العراق لنا)، و(عراق الهيبة) لمحمد السالم وأحمد السلطان، و( أحنة البيكيسي ) لجلال الزين وغزوان الفهد، و حسام الرسام (أبو التكتك)، وشاركت المطربة العراقية المغتربة سيتا هوكبيان في أغنية (الحب يجري) و إسراء الأصيل بأغنية (سلاماً على العراق)، وجوان حسين بأغنية (يا كاع ترابك كافوري) ، وحازم فارس أغنية (رفعة راس).
وأنشد المنشد احمد الشمري (عكالك للدكات)، وشارك العديد من الفنانين والممثلين في أوبريت (أشتم غاز)، وأغنية راح نظل بالتحرير لفرقة محمد القاسم، كما كانت هناك مشاركات عديدة لمطربين وفنانين منهم جعفر المطيري وجعفر الغزال وحكيم وفهد نوري، وعلي بدر، وكاظم الساهر، وقاسم سلطان، وجرى غناء لون الراب في مساهمة للشابة غيد في أغنية (أنت وين).
وبرزت في الانتفاضة العديد من المواهب الشعرية الشابة من امثال الشاعرات والشعراء، نور درويش، ميثم عبد الجبار، سما حسين، علي رضا، هادي الدراجي، اياد القلعي، ايوب الشريفي، أحمد رافع، وعامر الطيب، صفاء السراي، ميثم العتابي، وألاء عادل، ونورس الجابري، وصفاء سالم اسكندر، رياض الركابي، حازم جبار، بشير العبودي، كاظم خنجر، هيثم راضي، مؤيد نرجس، سراج محمد، عباس ثائر وغيرهما من الأسماء التي ساهمت الانتفاضة في تشكيل مواهبهم.
لقد كان للمكتبة والكتاب حضورهم في ساحة التحرير لتشجيع الشباب على القراءة، وللسينما حضورها أيضا عبر الافلام التسجيلية الهادفة، وهي محاولة لإعادة دور السينما في الحياة الثقافية العراقية بعد أن جرى تحطيم وإهمال دور السينما في جميع مدن العراق، لقد كانت تلك المحاولات والفعاليات والنشاطات الادبية والفنية ثورة على الواقع الثقافي المتردي ومحاولة جادة لإعادة صياغة الذائقة الفنية والأدبية للجيل الجديد، إن هذه الطاقات والإمكانات الثقافية والفنية والأدبية التي افرزتها انتفاضة تشرين المجيدة تستمد جذورها من تاريخ الشعب العراقي الحي وموروثة الثقافي التقدمي وحضارته الانسانية التي تمتد جذورها إلى آلاف السنين، وتشكل رصيدا لا يستهان به للثقافة الوطنية الديمقراطية العراقية.