تعتبر القرية في نظامها الاجتماعي والعقائدي في العبادة وفي نمط العيش داخل القرية الواحدة لبساطته كونها من مكون واحد وأكثرها من قبيلة أو عشيرة واحدة يتحكم بها رئيس العشيرة في أدارة شؤونها كونها بعيدة عن مصدر القرار الحكومي وسلطة الدولة وقوانينها لهذا أوجدت هذه القرى وعلى امتداد الوطن كيانا خاصا بها يقوده شيخ العشيرة وبعض رجال الدين الذين يتمتعون بالتأثير والقبول على أبناء القرية وهكذا بقيت عبر العصور حتى ظهور عصر المدينة ونظامها ومدنيتها الذي يقوده القانون الحكومي وفرض سلطة الدولة على البلاد وهذا النظام تأثر بمراحل قوة وأفول في أزمنة مختلفة بتأثيرات خارجية وداخلية فكلما كانت القرية بعيدة عن عين سلطة الدولة زادت هيمنة رؤساء العشائر وسطوتهم على مصدر القرار في فض كثير من النزاعات البسيطة والمعقدة نتيجة للظروف التي تحدث وتؤثر على حياة البلد فقد ازدهرت الحضارة والمدينة في ربوع العراق واستطاعت المدينة تؤثر على أسلوب حياة المجتمع القبلي والحضري من خلال دخول الكثير من الأنظمة التي ساهمت في زيادة الوعي الثقافي والمعرفي والتعليمي للمواطن بجهود الدولة المركزية ولو كان في بعض الأحيان بصعوبة وخصوصا ما قبل عام 2000 ميلادية من القرن الماضي فقد كانت المدينة والمدنية هي التي تقود المجتمع وأفراده وكان للمثقف والموظف والعسكر وخصوصا التعليم مؤسساته الدور الريادي ومحط أنظار المجتمع وشرائحه المحترمة حيث كان يُحسب لهم في نفوس العراقيين فقد كانوا هم النخبة في المجتمع وبالمقابل كان دور القرية ومجالسها وشخوصها ضمن رقعتها الجغرافية مدارس يتعلم منها الفرد الثوابت الاجتماعية الأصيلة كونها الامتداد المعرفي والاجتماعي والتاريخي للأجداد العظام والرابط بين الماضي والحاضر .
أما المدينة فهي نظام متعدد في الديانات والمذاهب والأفكار وأسلوب العيش فكان الفرق واضحا بين حياة الريف وحياة المدينة كل له أسلوبه في العيش لكن القاسم المشترك بينهما هو القانون الوضعي للحكومة الذي ينظم ويحكم المواطن فلا أحد فوق القانون ولا يمكن لشريحة مجتمعية لها الحق في التسلط أو فرض أسلوب عيشها في أدارت المجتمع المتعدد. أما بعد التحولات التي حصلت في عام 2000 ميلادية وما بعدها فقد أختلف الأمر وتحولت البوصلة بالاتجاه المعاكس للمراد وخصوصا في ظل غياب القوانين التي أهملتها السلطة وضعفت من تطبيقها للسيطرة على أدارت شؤون المجتمع الجديد في تحصين المواطن وبقي المواطن يفتقد الحماية الكاملة ليعيش في فوضى اجتماعية لحل نزاعاته مع الآخرين ولهذا لجا المواطن إلى طلب الحماية من أقاربه وعشيرته والاستفادة من قوتها وكبرها في حل النزاعات المجتمعية بعدما زادت الهجرة العكسية من القرى والأرياف إلى المدينة حيث أصبح النظام العشائري وقوانينه هو السائد في فض النزاعات وفرض أسلوب عيشه على أسلوب المدينة ومدنيتها فأصبح كل ما لا يوافق القانون العشائري المسمى ب ( السنينه ) وعدم مجاراته في الحياة الاجتماعية ضرب من الخروج عن المألوف والعرف وشق عصا الطاعة للقبيلة أو العشيرة وجعلت من ثقافة المدينة والتمدن غريبة على الواقع الجديد وفي بعض الأحيان يُنتقد هذا النمط من العيش تحت مسميات كثيرة بنظر النظام العشائري ومجتمعه بعد هيمنة القبيلة ونظامها على مرافق الحياة للمدينة حيث جعلت المدينة عبارة عن قرى مصغرة وقبائل تتصدر المشهد الاجتماعي والقانوني المتنوع للبلد في المأكل والمشرب وطريقة التعامل والتصرف الشخصي وأسلوب العيش للفرد وفي الفكر الجمعي للمجتمع وهذا خطر جدا على المجتمعات في المستقبل كونه يسبب كثيرا من المشاكل الاجتماعية التي تخلى عنها المجتمع منذ زمن طويل نتيجة للتطور الحاصل للمجتمع الحديث وخصوصا في العراق وبعد غياب أو إهمال القوانين الرادعة في فض النزاعات الاجتماعية ستكون الحياة والبقاء للأقوى من العشائر والأفراد ومدى نفوذها وتبقى قوة المواطن رهينة عند نفوذ العشيرة بدل القانون وتطبيقه وهذا سوف يؤثر على النسيج المجتمعي المتعدد للعراق وطوائفه .