إنتشر الجهل والتخلف بشكل كبير في أوساط الشعب العراقي أيام النظام السابق، نتيجة الحرمان من أبسط مقومات الحياة بسبب الحصار القاسي والديكتاتورية. وإتبّع النظام السابق سياسة داخلية قمعية واستبدادية وقاسية عانى العراقيون من جرائها الويلات وكثرت الانقسامات وزاد الفساد الذي نعيش نتائجه إلى اليوم. وبعد سقوط النظام ، بدأ الارهاب وكل وسائل التدمير للقضاء على ماتبقى.. تقوية الدولة والجيش والأمن يبدأ بإلغاء الفساد الذي تتمّثل أولى مظاهره في جانبه الرسمي والعلني والقانوني. إن القضاء على الفساد يتمّ بإصلاح سمعة القيادات والمسؤولين وأعضاء البرلمان وكبار موظفي الدولة، بدءاً بتقليل رواتبهم وامتيازاتهم التي تفوق حتى مستويات الدول الكبرى، أن المشكلة الحقيقية لكل الأطراف السياسية في العراق هي غياب المشروع الحقيقي لبناء الدولة، حتى أنهم لا يمتلكون مشروعا أصلا. و قيمة المشروع السياسي تكمن بأن هناك آيديولوجية معينة قائمة على مباديء واضحة في بناء الدولة، و مشروع بناء الدولة ينبغي ان ينطلق من الواقع، بل يعتمد على الرؤية المستقبلية لما يجب أن يكون عليه شكل الدولة ومؤسساتها وكيف يمكن للمجتمع التواصل مع تلك المؤسسات. لا شك أن السلطة البعثية الصدامية التي حكمت لفترة طويلة أستمد منها البعض فكرها وقناعاتها وحتى المباديء فهي نتيجة تجهيل وتربية حقد وكره نتج عن الفقر والظلم الذي جرى عليه، وهنا نستطيع القول بأنَّ المهمة الأولى والأخيرة لهؤلاء أن تكون صرخة الحق أمام كل الفساد اللإنساني والأبعد من ذلك السعي إلى نشر الوعي فالوعي والإنسان المتعلم لا الجاهل هو وحده من يستطيع أن يكون عقبة في إقامة دولة جائرة وبالطبع هذا الإنسان الحر لن يقف خلف مؤسسة أو دار عبادة فهو يقف دائماً خلف الحقيقة والحق الذي لا يتغير ولا يُستبدل فالإنسان وحرياته والعدل هو أهم ما يمكن العيش من أجله وأن لا يكون الإنسان مجرد وقود يُحرق لتعيش هياكل وهمية هدفها تمكين الاستبداد والظلم وأن لا يكون الإنسان عبد لغيره ولا عبد لرغباته وللرذيلة. وهذا أصعب تحديات الأحرار الذين يهدفون إلى زرع هذه المفاهيم الفكرية التي تحمي الشعب من الجهل والاستبداد. ويمكن القول بأن ضعف الدول، يُقاس في كثير من الأحيان، بمدى قوة الشرعية فيها أو انحلالها، ففي معظم الأقطار العربية نجد الشرعية شبه غائبة ولكن في ظل التغيرات التي تشهدها المنطقة العربية أعطى رؤى جديدة سمحت للقوى الشعبية في أن تظهر لتفرض نفسها من أجل إيجاد وصياغة أنماط شرعية جديدة تدعى بالثورات الشعبية، وذلك من أجل بلوغ شرعية السلطة القائمة. فمصادر الشرعية في الأنظمة السياسية العربية اتسمت بالتقليدية وعدم الثبات الأمر الذي أدى إلى اهتزاز استقرار النظام السياسي فيها إذ نجد أن السلطة في تلك الأنظمة، دائما تسعى لكسب شرعيتها انطلاقاً من شخصيات كاريزمية وزعامات سياسية سابقة أو تجعل من اللين كذريعة لتبرير شرعيتها في الوقت نفسه نجد أن هناك غياب شبه كلي للمصدر العقلاني القانوني، الذي يعتبر الأساس في عملية استقرار النسق السياسي وثباته.
والأمر الذي أدى هو الآخر من زيادة حدة مشكلة الشرعية، في الأنظمة السياسية العربية هو الإحتكار و الاستبداد و التسلط الممارس من قبل السلطات ، إذ شكَّل كل هذا عائق أمام عملية البناء المؤسسي في تلك الأنظمة، إذ أصبحت الدول العربية عاجزة أمام هذه المشكلات وأثبتت عدم قدرتها على ترسيخ وتثبيت قيم الشرعية من جهة، وعدم قدرتها على إثبات نفسها باعتبارها مركز الولاء للفرد من جهة ثانية. فمن أخطر الأزمات التي تصيب النظام السياسي هو أزمة الشرعية. وعدم قدرة الدولة لتثبت قيم الشرعية من جهة، وعدم قدرتها على جعل نفسها بؤرة الولاء الأكبر للفرد. وتنامي نفسية وذهنية الولاء الفردي لكيانات ما قبل الدولة مثل الإنتماء الجهوي والطائفي والقبلي عجز الدولة أن تكون وعاء لسياسة تعكس المصالح الوطنية العامة. وعجز الدولة كذلك على إشاعة الدولة الديمقراطية والقانونية كإطار لمفهوم المواطنة وتجاوز كل أصناف الولاء التقليدي، إلى مصاف الولاء للدولة والقانون. إخفاق الدولة في تحقيق الإندماج السياسي والإجتماعي والإقتصادي والعدالة التوزيعية فيما يخص السلطة والثروة.
الشرعية تحمل بعدين أولهما يراعي الشق القانوني أي تكون كل الممارسات التي تقوم بها الدولة تتوافق مع ما نص عليه القانون والدستور والشق الثاني الذي يُفسِر و يعكس لنا البعد القِيَمي، أي أن تكون العلاقة القائمة بين الحاكم و المحكوم مبنية على التوافق ومنه يتحقق التأييد و الرضا العام و بذلك تكتسب السلطة شرعيتها.
إذا عَرَفنا أنَّ الديمقراطية هي مشاركة الشعب في الحكم والسلطة بإختيار ممثليه في مؤسسات هذه السلطة لإيصال صوته ومطالبه إليها ومن هنا نعرف ما لذلك من أهمية لحضور تأثير الشعب في صنع القرار ولكن هذا التأثير يحتاج إلى حالة من الأمن والاستقرار تجعل المواطن واثق من نفسه مطمئن عندما يُبدي حقه السياسي وإبداء رأيه وبناءً على ذلك يكون هذا المجلس أو تلك المؤسسة الديمقراطية تجسيداً للمشاركة الشعبية فالإستقرار إذن هو استقرار سياسي اجتماعي يضمن للجميع التأثير السياسي والمشاركة الديمقراطية. نجد أن هناك تصوراً مشوهاً لمفهوم الديمقراطية والحرية والمساواة وما تعني المواطنة ومن هو الآخر وما هي الهويات الفرعية وكيف يمكن الحفاظ عليها، إذ نجد أن هناك خلطاً بين الدين والسياسة ولاتوجد حدود فاصلة بينهما ليعرف المتدين والسياسي حدودهما فيتحركان ضمن الأطر المرسومة في الدستور. ونتيجة لذلك أتجهت تلك التيارات الإسلامية للمشاريع الطائفية لتحشيد القاعدة الجماهيرية لها.
إن تجربة السنوات ما بعد سقوط الديكتاتورية أثبتت فشل نظام المحاصصة الطائفية والقومية في قيادة الدولة العراقية، لأنه مخالف للديمقراطية ولا يعترف بقيمة المواطن ومؤهلاته،بل يهتم بانتمائه الطائفي والجهوي. لقد أدت المحاصصة إلى شلل البرلمان وضعف الدولة وانتشار الفساد والمحسوبية، لأن المسؤول لا يشعر بالانتماء للدولة وللشعب بل للطائفة والقومية والحزب. إن قيام بعض الأحزاب والجماعات والقيادات بالدعوة إلى مشروع وطني لا يكفي أبداً، ما لم يقترن بالإعلان رسمياً عن تغييرات في النظم الداخلية لهذه الأحزاب وتغيير أنظمتها الداخلية وبرامجها ومعتقداتها الطائفية والقومية العنصرية المغلقة. العراق يعتبر من أكثر البلدان التي تتمتع بانسجام قومي وثقافي وديني، مشكلة العراق الحقيقية ليست بتنوعه القومي أو الديني لان هذا التنوع يعتبر قوة للدولة كما هو الحال بالنسبة لأمريكا نفسها، بل أن ضعفه يكمن في الانقسام الطائفي. لهذا فأن إلغاء هذا الانقسام الطائفي يُعد المهمة الأولى والكبرى والأساسية من أجل بناء (هوية وطنية) ودولة مستقرة وطنية تاريخية، وثقافة وطنية عراقية، تعتبر الوطن هو الأساس وليس الطائفة. والدستور العراقي يحوي على الكثير من الثغرات ، ويحتاج الى تشريع الكثير من القوانين من اجل شرح وتوضيح العديد من قوانينه ، وقد تدخلت في صياغته ايادي ارادت له أن يبقى مثار جدل بين اطياف العملية السياسية ، وهذا ما نلاحظه اليوم في التفسيرات المتقاطعة للكثير من بنوده.
أسهم الاحتلال الأمريكي في تغيير موازين القيادة داخل العراق بعد سقوط النظام، حيث أدى إلى بروز تيار الإسلام السياسي كقوة فاعلة في العراق، تزامناً مع فشل المشروع القومي، وتعثر اليسار العراقي والعربي بشكل عام. فأصبح العراق تحت قيادة احزاب اسلامية انعكس ذلك سلباً على الداخل السياسي العراقي، من حيث تعامل الحركات السياسية الطائفية مع بعضها بعضا دون الاعتماد على النهج الديمقراطي في تسيير عجلة العملية السياسية. دور العراق في المشروع الأمريكي فيما بعد الانسحاب حددته الأطراف الرئيسية في العملية السياسية ، ويتحدد ذلك من خلال المفاوضات بين الجانبين على أسس وطنية تسهم في تصحيح مسار العملية السياسية، وذلك بإلغاء المحاصصة الطائفية في تشكيل الحكومة الوطنية، وتفعيل دور المصالحة الوطنية، واستيعاب كافة الأطراف في بناء مركز الدولة. كل ذلك من شأنه أن يدفع باتجاه بناء عراق قوي يستعيد مركزه وقوته الداخلية والإقليمية، وإفشال مؤامرات المشروع الأمريكي التي تسعى إلى إعادة المشروع من الخارج للتأثير فى الداخل العراقي، بعد استغلال الضعف الداخلي. تكمن ازمة الدولة في المنطقة بشكل عام وفي العراق بشكل خاص انها كانت نتيجة طبيعية للإستعمار الكولنيالي، فهي لم تكن نتاجاً طبيعياً للبيئة المحلية ولا تعبيراً عن رغبات الجماعات السكانية المتنوعة او تمثيلاً طبقيا للمجتمع، بل انها كانت نتاجاً فوقياً.
و الازمة الأمنية، التي تولدت من الازمة السياسية، ووقوف النخب السياسية وراء طوائفهم. وقد استفحلت هذه الازمة بسبب انشغال الساسة بمشاكلهم، والعمل على تصفية الحسابات فيما بينهم، ما جعل الباب مفتوحاً امام الجماعات المسلحة، المدعومة من دول عربية واقليمية ، بتثبيت موطأ قدم لها في العراق، والعمل بفعالية كبيرة، جعلت من العراق مرتكزا للارهاب العالمي الذي مهَّد للحرب الطائفية في السنوات الماضية وبعدها دخول تنظيم داعش . هذا بدوره نتج عنه تدخلات من دول اخرى خلقت اوضاعا سياسية جديدة ترتبط بشكل أوبآخر بها وتتوافق معها في رسم سياستها العامة، خصوصاً في القضايا الدولية، وهذه الدول هي التي ادامت الصراع من خلال الدعم المالي واللوجستي لبعض الاطراف السياسية العراقية، ودفعت بالوضع الى حالة عدم الاستقرار السياسي الدائم، وبات البلد مرتكزاً لتصفية الحسابات بين هذه الدولة وتلك، ما اجاز بالضرورة محاولة كل هذه الدول الى التدخل حتى في موضوع المصالحة الوطنية، بل محاولة ادارتها بنفسها، وفرض شروطاً معينة من اجل تمرير بعض النقاط التي تخدم مصالحها ووجودها في المنطقة.