في مثل هذه الايام اي في يوم 14 آب تمر الذكرى السادسة والستون على وفاة الكاتب والمخرج المسرحي والشاعر الألماني بريتولد بريخت ، هذا المخرج المسرحي الفذ ابتكر مدرسة حديثة في الإخراج المسرحي ، فقد اشرك الجمهور في البحث عن فهم ما يُعرض له ، إذ ترك مساحة معينة من خشبة المسرح للمشاهدين ان يُحللوا ويتأملوا ويُفكروا ويستنبطوا ما لم يتم توضيحه ليس كما هو دارج في المسارح التقليدية ... واسمى هذا بالجدار الرابع ، أي جدار المشاهدين ، وهذه التسمية مجازية ، إذ ان المسرح له ثلاثة جدران ، اما الجهة الرابعة المفتوحة فهي التي تُقابل جمهور المشاهدين.
كتب بريخت مسرحية (الأم شجاعة وابناؤها) عام 1939، وهو لاجئ في السويد هرباً من نازية هتلر، وتم عرضها لأول مرة عام 1941، واستمرت تُعرض حتى عام 1952.
لقد اعتُبرت هذه المسرحية افضل عمل مسرحي في القرن العشرين، وافضل عمل مسرحي مناهض للحروب في كل العصور. كتبها بريخت عشية غزو هتلر لبولندا وبدء الحرب العالمية الثانية ... ورغم قوة وشهرة هذه المسرحية والتي اعتُبرت افضل عمل مسرحي من ناحية المضمون والدقة والتكنيك فان هذا العمل المذهل قد تم كتابته في شهر واحد وكان حسب وصف النقاد والقرّاء له أنه الهام استثنائي.
اختار بريخت احداث هذه المسرحية من حروب الاديان التي حدثت في القرن السابع عشر ودامت ثلاثين عاما بين البروتستانت والكاثوليك والتي هلك فيها ما يقارب نصف سكان المانيا واسقطها على واقع ما يجري في منتصف القرن العشرين، هذا الاسقاط الذي بقي صالحا الى يومنا هذا والذي سوف يستمر في الاعوام القادمة.
فالمرأة الأم وابناها الذكور وابنتها كانوا يمتلكون عربة مملوءة بالطعام والخمور، يرافقون بها جيش البروتستانت المحارب، يبيعون على الجنود بضاعتهم.
استمال القائد ابنها البكر والحقه بجنده وصنع منه سفّاحاً يقتل المزارعين من الفلاحين ثم يلاقي حتفه في النهاية، اما ابنها الاوسط فقد اصبح هو الآخر محاسبا لجيش البروتستانت وحافظاً لخزائنهم، وحين القى جيش الكاثوليك المعادي القبض عليه وأرادوا منه معرفة مكان الخزائن، رفض ان يكون دليلاً، وتلقّى نتيجة اخلاصه احدى عشرة طلقة في الصدر. أما البنت فقد اغتصبها الجنود وشوّهوا وجهها، وفي النهاية وحين دخل الأعداء والناس نيام صعدت الى السطح وقرعت طبلاً لتحذير الناس من وقوع مذبحة، فما كان من جنود الأعداء إلّا وأطلقوا النار عليها وقتلوها، وحينها قالت الأم قولتها المشهورة:
ما فائدة قرع الطبول إذا لم تكن هناك آذان صاغية
وحين هلك الملك الذي اشعل الحروب حلّ السلام الذي لم تكن الأم بحاجة له، إذ قطع هذا السلام لها رزقها.
لقد خلع بريخت صفة (شجاعة) على هذه المرأة التي ارادت التكسّب في الحروب فانتهت بمأساة شخصية لها، وبهذا اشار بريخت الى ان الشجاعة ليست دائماً ملازمة للفروسية والشرف، وحين تمّ عرض هذه المسرحية لأول مرة عام 1941 في سويسرا أشاد النقٌاد وتعاطفوا مع شخصية هذه المرأة، وهذا ما جعل بريخت يختلف معهم ويقول ... ان النقّاد أساؤوا فهم المسرحية، وانه أراد ان يُظهرها كمخطئة لعدم ادراكها الأوضاع التي كانوا يمرون بها، أوضاع الحرب تلك.
ما أراد بريخت قوله ان بشاعة الحروب لا يضاهيها أي عمل شنيع آخر، ففيها يسود الدمار والخراب والجوع في كل مكان، وفيها تتشوّه جميع المشاعر الانسانية، ويسود الفساد وتغيب الفضيلة..
وإذا ما أدرنا الوجه نحو عراقنا الغالي وما يحدث فيه من ارهاصات تحمل نفس
سمات مسرحية بريخت التي كانت قد حذّرت في بدايتها بالقول ... حافظوا على الشيئ
الغالي العزيز ولا تتنازعوا عليه فتمزقوه... فان فيها اكثر من عبرة، فقد ذكر بريخت ... عندما تمنحك الحرب مكسباً فسيأتي اليوم الذي تُطالبك بشيئ مقابله ...
وبهذا أوجز ان الحرب لا مكسب فيها وإن بدت للآخرين الحصول عليه، فليس هناك أيّة نزاهة في الاقتتال. وحين وضع بريخت مومساً داخل المعسكر فانه كان يُشير الى قذارة الاقتتال والحروب، مع ان قناعة العسكريين ومحرّضي الاقتتال ان الأخلاق لا يتم حفظها إلا بالعنف والدم والحروب، ولكن ماذا يحدث بعدها، ستضيع الأوطان وتُزهق الأنفس ويعم الخراب، وفي النهاية وحسب ما ذكره بريخت في مسرحيته:
ان الجميع سوف يستسلم عاجلاً ام آجلاً
بعد ان مات الابن الأول لتهوّره في الاقدام والقتل، ومات الثاني لنزاهته، وماتت الثالثة لعطفها على الناس.
وفي يومنا هذا وما نراه يحدث في المنطقة الخضراء وساحة الفردوس وباقي المحافظات العراقية ... ماذا لو فلتت الأمور، وتحمّس البعض للاقتتال واندفعوا مثلما اندفع ابن امرأة بريخت البكر وقتل خلقاً كثيراً، ثم دارت عليه الدوائر وأُعدم بسبب اسرافه في القتل، وسوف يُقتل الابن الثاني حتى لو كان نزيها ومخلصاً وطيّباً، وسوف تُستباح الابنة ويُشوّه وجهها وجسدها، ثم بعد ذلك تُقتل رمياً بالرصاص ... بعدها يُلاحق القتل حتى مَن وقف على التل، فإذا كان الجبل لم يأو ابن نوح من الغرق فان التل لا يستطيع إيقاف اطلاق الرصاص على اجساد الناس.
أما الذين لم يذكرهم بريخت في مسرحيته هو سهولة وقوّة وتدمير ووجود العامل الخارجي الذي سوف يمد البروتستانت بالمال والسلاح والعتاد والدعاية، ومثله لعدوّه الكاثوليكي، وكلما اشتدّ الصراع بينهما أصبحا رهينتين لمن يُحرّضهم ويمدهم بوسائل
الاقتتال ... هذا العامل الخارجي الذي كان في السابق يعمل تحت الطاولة اصبح الآن
يُمارس تآمره علانية، وحينها لا يعود تحقيق السلام الى موت ملك، حتى لو أراد البروتستانت والكاثوليك التصالح فيما بينهما، إذ ان القرار اصبح في يد الهراطقة الذين لا دين لهم.
وهذا ما سوف ينتظرنا إن استمرّت الاطراف في تنمّرها وشحذ سلاح الكراهية، فإذا ما وقع الاقتتال فان استمراره سيكون بيد الأعداء، وحينها سوف يكون السلام بعيداً ... بعيداً جدّا، حيث يستسلم الجميع إن عاجلاً او آجلاً، ولكن ليس لإرادة الخير إنما لإرادة الأعداء ... ومثلما ذكر بريخت في مسرحيته الخالدة فان الضرر سوف لن يستثني حتى المنتفعين من الحروب من أصحاب المكاسب وإن كانوا من صغار الناس مثلما كانت الأم وعربتها.
فهل تضيع اصوات العقلاء في التحذير من قادم الايام المظلمة هباء، مثلما ذكره الشاعر:
لقد أسمعت لو نادَيت حيّاً ولكن لا حياة لمن تُنادي
وقبل هذا الشاعر كان الله سبحانه وتعالى قد قال:
(قل هل أُنبّئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يُحسنون صنعا)
وقال سبحانه ايضا:
(أَلم ترَ الى الذين بدّلوا نعمة الله كُفراً وأحلّوا قومهم دار البوار)