إشكاليتان هامتان ومترابطتان
البيئة والصحة إشكاليتان هامتان وحيويتان في حياة البشر، وهما مترابطتان عضوياً. وقد أولتهما وتوليهما الدول المتحضرة المعتمدة لحقوق الإنسان والملتزمة بها أهمية خاصة وكبيرة، إدراكاً منها لأهميتهما الحيوية للمجتمع وللأسرة و للمواطن الفرد..
تُعرفُ البيئة بأنها الطبيعة، بما فيها من أحياء وغير أحياء. وهي الوسط الذي يحيى به الإنسان مع غيره من الكائنات الحية، ويحصل منه على مقومات حياته من مأكل وملبس ومسكن، ويمارس فيه مختلف علاقاته مع بني جنسه. والبيئة، التي تشمل: الهواء والماء والتربة والمعادن والمناخ والكائنات نفسها، ليست مجرد موارد يتجه إليها الإنسان ليستمد منها مقومات حياته، وإنما تتضمن أيضاً علاقة الإنسان بالإنسان التي تنظمها المؤسسات الإجتماعية، والعادات، والتقاليد، والقيم الوطنية.
وتُعرفُ الصحة بأنها حالة من المعافاة الكاملة بدنياً ونفسياً واجتماعياً وروحياً. وقد تبنت الأمم المتحدة الحق في الصحة في المادة الثانية عشر من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، والذي نص:" تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة البدنية والعقلية يمكن بلوغه".
وقد أدركت الدول المتحضرة ان بلوغ الصحة المطلوبة لمواطنيها لا يتم إلا في ظل بيئة نظيفة وصحية. ولن يتحقق توفير الرعاية الصحية الحديثة المطلوبة والعيش في بيئة صحية محمية ، من دون مراعاة حقوق الأنسان وإحترامها حقاً وفعلا، بوصفها حقوقاً أصلية في طبيعتها لا يستطيع البشر ان يعيشوا بدونها، ولن يكون لوجودهم كبشر قيمة ومعنى بدونها، وهي حقوق مستحقة لكل شخص بوصفه إنسان.
ووفقاً لما تتطلبه الاستجابة لتحديات التنمية في المجال الصحي يُفترضُ تقديم خدمات الوقاية، وتحسين صحة الأسرة، ومكافحة الأمراض، مع اعتبار هذه الأمور مُكوّناً رئيساً في رسم السياسة الصحية بطريقة تجعلها منسجمة مع الاستراتيجيات الوطنية في التخفيف من وطأة الفقر.
صحة الأنسان مرتبطة بصحة النظام البيئي
أكدت الحياة يومياً وبإضطراد الإرتباط الوثيق بين حق الإنسان في الحياة والصحة وحقه في الحصول على بيئة نظيفة، سليمة، ومتوازنة. وإلا فان هذا الحق ينتهك، وتتعرض حياة الإنسان للخطر. وفي هذا الشأن فان أي استراتيجيات بيئية لا تأخذ منظور الصحة بعين الاعتبار تعتبر استراتيجيات مبتورة. وهكذا الأمر بالنسبة للاستراتيجيات الصحية، التي يجب أن تأخذ المنظور البيئي بعين الاعتبار، وإلا تصبح مبتورة أيضا.
وقد أكدت دراسات لمنظمة الصحة العالمية WHO منذ فترة طويلة ان صحة الانسان مرتبطة بقوة بصحة النظام البيئي الذي يلبي الكثير من احتياجاتنا الاساسية، فتؤدي زيادة عدد السكان، والتطور الاقتصادي الى حدوث تغييرات سريعة في النظام البيئي العالمي، ويؤثر هذا على صحة البشر.
ونبهت الى إمكانية التغلب على المشكلات البيئية، التي تتسبب بحوالي ربع الامراض والوفيات التي تحدث في عمر مبكر. وقالت دراسة بعنوان "تفادي الامراض من خلال الحرص على بيئة صحية " انه يمكن سنويا انقاذ حياة 4 ملايين إنساناً اذا ما تم تفادي المشكلات الصحية المرتبطة بالمكونات البيئية كالهواء والماء والتربة والاشعاعات والضجيج والحقول الكهرومغنطيسية والانشاءات والزراعة والسلوكيات الصحية والنظافة. وأوضحت بان عوامل الخطر البيئية تشهد تحولا كبيرا مع التنمية.
وحذرت WHO مراراً من ان الضغط على البيئة يمكن أن يكون له نتائج غير متوقعة وربما خطيرة على الصحة في المستقبل.
ودعت ماريا نيرا مديرة قسم الصحة العامة والبيئة في WHO ان تتخذ على الفور سلسلة من الاجراءات لتخفيف العبء الذي تفرضه الامراض الناجمة عن البيئة.
وفي هذا السياق، كُرس المؤتمر الدولـي Eco Health 2008 الذي عقد في ميريدا بالمكسيك، للتدهور البيئي الناجم عـن النشاطات البشرية، وانعكاساته الصحية علـى البشر. وعرضت فيه مئات الأبحاث حول تأثيرات تلوث الهواء والماء والتربة وتغير المناخ وخسارة التنوع البيولوجي والصناعة والزراعة والطاقة، وغير ذلك من مشاكل ايكولوجية تمكن مقاربة حلول لها بمشاريع تربط بين تعزيز الادارة البيئية وتحسين الصحة البشرية.
وفي اَذار 2019 نُشر تقرير أنجزته الأمم المتحدة حول حالة البيئة العالمية في السنوات الخمس الأخيرة، تضمن تقييماً أكثر شمولية ودقة. وحذر من أن الأضرار التي تلحق بالكوكب بالغة الخطورة والتي تعرض صحة الناس للخطر بشكل متزايد ما لم يتم اتخاذ إجراء عاجل.
وأشار التقرير، الذي ألفه 250 عالما من أكثر من 70 دولة:" إننا إما أن نزيد من حماية البيئة، أو أن المدن والمناطق في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا قد تشهد ملايين الوفيات المبكرة بحلول منتصف القرن". كما حذر من أن الملوثات في نظم المياه العذبة لدينا ستشهد مقاومة مضادة للميكروبات تصبح السبب الرئيسي للوفاة بحلول عام 2050 ويؤثر اضطراب الغدد الصماء على خصوبة الذكور والأناث، وكذلك النمو العصبي للطفل.
مجلس حقوق الإسان يقر بحق الإنسان ببيئة صحية
بعد نضال طويل، تبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في قراره المرقم 10/19،الذي إعتمده في 22/3/2012،تعيين خبير مستقل يُعنى بمسألة إلتزامات حقوق الإنسان المتعلقة بالتمتع ببيئة اَمنة ونظيفة وصحية ومستدامة، تكون من ضمن واجباته إجراء دراسة بشأن إلتزامات حقوق الإنسان، بما في ذلك الإلتزامات بعدم التمييز فيما يتعلق بضمان التمتع ببيئة اَمنة ونظيفة وصحية ومستدامة.
وإستكمالآ لهذه الخطوة، أعلن المجلس في 8/10/ 2021 أن التمتع ببيئة نظيفة وصحية ومستدامة يعتبر حق من حقوق الإنسان. ودعا في قراره رقم 13/ 48.الدول في جميع أنحاء العالم، إلى العمل معا ومع شركاء آخرين لتنفيذ هذا الحق المعترف به حديثا.ودعا الجمعية العامة للأمم المتحدة للنظر في الموضوع ولإتخاذ قرار مماثل.
ودعت المفوضة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشليت الدول الأعضاء إلى اتخاذ إجراءات جريئة "لضمان أن يكون هذا القرار بمثابة نقطة انطلاق للضغط من أجل سياسات اقتصادية واجتماعية وبيئية تحويلية من شأنها حماية الناس والطبيعة. ونوهت بان القرار" يعترف بوضوح بالتدهور البيئي وتغير المناخ كأزمتين مترابطتين مع حقوق الإنسان".
من جهته،أعلن المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان والبيئة ديفيد بويد:" نحن بحاجة لأن تتحرك الحكومات والجميع بإحساس يعكس إلحاح المسألة. أعني، نحن نعيش في خضم أزمة مناخ وتنوع بيولوجي وأزمة تلوث وأيضا أزمة من هذه الأمراض الناشئة مثل كوفيد-19، التي لها أسباب بيئية جذرية. ولهذا فإن هذا القرار مهم للغاية لأنه يقول لكل حكومة في العالم ’يجب وضع حقوق الإنسان في صلب العمل المناخي، والحفاظ على الطبيعة والتصدي للتلوث ومنع الأوبئة في المستقبل:وأكد: "هناك مليار شخص لا يمكنهم مجرد فتح الصنبور والحصول على مياه آمنة ونظيفة".
وأكدت مديرة قسم الصحة العامة والبيئة في WHO بان للقرار تداعيات مهمة وتأثير على عملية التعبئة .وستكون الخطوة التالية هي كيفية ترجمة ذلك فيما يتعلق بالحق في الهواء النظيف وما إذا كان بإمكاننا الدفع، على سبيل المثال، من أجل الاعتراف بأرشادات حودة الهواء العالمية لمنظمة الصحة العالمية ومستويات التعرض لبعض الملوثات على مستوى الدولة. كما أنه سيساعدنا على نقل تشريعات ومعايير معينة على المستوى الوطني."ونبهت بان تلوث الهواء، الناتج في المقام الأول عن حرق الوقود الأحفوري، يتسبب في تغير المناخ، وفي 13 حالة وفاة في الدقيقة في جميع أنحاء العالم. ودعت إلى إنهاء هذه "المعركة العبثية" ضد النظم البيئية والبيئة.يجب أن تكون جميع الاستثمارات على ضمان الوصول إلى المياه المأمونة والصرف الصحي والتأكد من توفير الكهرباء باستخدام الطاقة المتجددة وأن نكون نظمنا الغذائية مستدامة
قرار تاريخي للجمعية العامة للأمم المتحدة
لقد أكد برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، بإن الاعتراف بالحق في بيئة صحية على المستوى العالمي سيدعم الجهود المبذولة لمعالجة الأزمات البيئية بطريقة أكثر تنسيقا وفعالية وغير تمييزية، ويساعد في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتوفير حماية أقوى للحقوق والأشخاص الذين يدافعون عن البيئة، ويساعد في إنشاء عالم يمكن للناس فيه العيش في انسجام مع الطبيعة.
وأعرب خبراء حقوقيون ومقررون خاصون آخرون، ورئيسة برنامج الأمم المتحدة للبيئة، إنغر أندرسون، ومفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت، والكثير غيرهم، عن دعمهم للاعتراف بالحق في بيئة صحية. كما وأوصى. "مؤتمر ستوكهولم +50" في حزيران 2022، بأن "تعترف الدول بالحق في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة وتنفيذية ."
ولعب علماء وأكاديميون وباحثون ومسؤولون إداريون حريصون، دورهم المشهود في تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة ، في 28/7/2022، قرارها التاريخي، الذي إعتبر الوصول إلى بيئة نظيفة وصحية ومستدامة حقاً عالميا من حقوق الإنسان. ودعا القرار،، الذي إستند إلى قرار مجلس حقوق الإنسان المذكور ، كافة الدول والمنظمات الدولية والشركات التجارية إلى تكثيف الجهود لضمان بيئة صحية للجميع.
وقد رحب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بالقرار التاريخي وقال إنه يبرهن على إمكانية أن تتحد الدول الأعضاء في النضال الجماعي ضد أزمة الكوكب الثلاثية المتمثلة في تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث.وإن القرار "سيساعد في الحد من المظالم البيئية، وسد فجوات الحماية، وتمكين الناس والأشخاص المعرضين للخطر في الأوضاع الهشة على وجه الخصوص بما في ذلك المدافعون عن حقوق الإنسان البيئية، الأطفال، الشباب، النساء، والشعوب الأصلية".وأضاف أن القرار سيساعد الدول أيضا على تسريع تنفيذ التزاماتها وتعهداتها المتعلقة بالبيئة وحقوق الإنسان..وشدد على أن اعتماد القرار "ليس سوى بداية"، وحث الدول على جعل هذا الحق المعترف به حديثا "حقيقة للجميع في كل مكان".
من جهته،إعتبر مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان والبيئة إن قرار الجمعية العامة سيغير طبيعة القانون الدولي لحقوق الإنسان نفسه.وقال إن الحكومات قطعت وعودا بتنظيف البيئة والتصدي لحالة الطوارئ المناخية لعقود من الزمن، لكن امتلاك الحق في بيئة صحية يغير منظور الناس من "استجداء" الحكومات إلى مطالبتها بالتصرف.
وفي هذا المضمار، فان العراق معني جداً بهذا القرار التأريخي، وبيئته بحاجة ماسة لتنظيفها من الملوثات الخطرة وتداعياتها، وجعلها صحية.. فمتى ستتحرك حكومته وتتصرف لتحقيق هذا الحق ؟