تسعى الأحزاب الشيوعية منذ عام 1847 الى تحقيق هدفها الستراتيجي في الغاء الاستغلال الطبقي على الكرة الأرضية عبر بناء النظام الاشتراكي الدولي وصولا الى الشيوعية، بخوض ثلاثة اشكال من الصراع؛ الصراع السياسي و الاقتصادي و الفكري.

  لقد خاض الحزب الشيوعي العراقي منذ عام 1934 كفاحه السياسي باشكاله المختلفة " البسيطة والعالية " من اجل " الانعتاق والتحرر من العبودية " والتبعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعبأ اعضاءه واصدقاءه والحركة الوطنية وجماهير الشعب لخوض معارك طبقية كبرى في لحظات حاسمة من تاريخ العراق المعاصر تكللت بانتفاضات كبيرة قبل وبعد ثورة 14 تموز. كما خاض الحزب كفاحه الاقتصادي من اجل انعتاق العراق من ربقة التخلف الاقتصادي والاجتماعي بالتنسيق والتعاون مع الأحزاب الوطنية والنقابات و منظمات المجتمع المدني الأخرى وحقق الكثير من المنجزات للطبقة العاملة والفلاحين وبقية شرائح وفئات المجتمع العراقي .

الصراع الفكري في الحزب الشيوعي العراقي

من المعروف ان الصراع الفكري " يسبق عادة الصراع السياسي والاقتصادي ويرافقهما في جميع مراحلهما  حتى النصرالنهائي وبناء المجتمع الحر " . وواجه الحزب الشيوعي العراقي في هذا المجال صراعا محتدما مع ثلاث مجموعات :

المجموعة الأولى : هي دول وقوى وتيارات معادية للشيوعية مثل الاستعمار واجهزته الايديولوجة الضخمة وقوى وتيارات دينية وقوى وتيارات شوفينية متنوعة .

والمجموعة الثانية : هي اتجاهات داخل الحزب تتياسر تارة وتتيامن تارة أخرى وتجلت اما بانشقاقات صغيرة او كبيرة لمجموعات متفرقة بين فترة وأخرى ، او تظهر باطروحات شخصية وحلقات صغيرة من الأعضاء تتناول بعض الموضوعات والمظاهر داخل الحزب .

 والمجموعة الثالثة : هي مجاميع من الرفاق الذين يتابعون التطورات الفكرية في العالم ويحاولون الاجابة على أسئلة كثيرة تطرحها المتغيرات في العراق او العالم .

الصراع الفكري مع المجموعة الأولى :

تراكمت خبرة طويلة لدى الحزب الشيوعي العراقي في تعامله مع المنظومات الفكرية المناهضة للشيوعية بشكل عام او المعادية للحزب الشيوعي العراقي بشكل خاص سواء ماكنة الامبريالية الفكرية ام المنظومات الفكرية للاسلام السياسي ام الحركات القومية ذات الطابع الشوفيني . واستندت تلك المنظومات الفكرية على مبادئ واسس مشتركة لعبت فيها الأيديولوجيا دورا كبيرا في التعمية وحجب الحقائق واخفاء طبيعة الصراعات الجارية في المجتمع البشري ، وكان للمنظومات القانونية والتربوية والإعلامية والفلسفية والدينية في الأبنية الفوقية القول الفصل في تضليل الاذهان وتزييف الوعي لدى الجماهير بهدف عزل الحزب الشيوعي عن تلك الجماهير. ومن تلك المبادئ والاسس التي اعتمدتها تلك الاجهزة الأيديولوجية هي:

  • الشيوعية تتقاطع مع الفطرة التي جبل عليها الانسان وهي حب التملك ، فالشيوعية تسعى الى الغاء التملك وبذلك لن تجد لها قبولا بين المجتمعات . وجوهر التعمية هنا هو الخلط المتعمد بين الملكية الشخصية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وهي مصدر استغلال الانسان للإنسان ، متناسين ان المجتمع البشري عاش اكثر من 900 الف سنة وهو لا يعرف الملكية الخاصة التي ظهرت بظهور المجتمع الطبقي .
  • الشيوعية تتقاطع مع الفطرة أيضا لانها تدعو الى الغاء الفوارق بين الناس الذين خلقوا متمايزين مختلفين . وجوهر التعمية في هذا الادعاء هو الخلط بين الفوارق الطبقية التي تقسم المجتمع الى اغنياء وفقراء وبين الفوارق الطبيعية بين الناس المتعلقة بالذكاء والمهارات والقابليات الخ متناسين بقصدية ان الفوارق الطبقية حديثة العهد في المجتمع البشري ارتباطا بظهور المجتمع الطبقي .
  • الشيوعية تدعو الى الاجهاز على الأديان وبث الالحاد بين الناس، وتدمير المنظومات القيمية التي اوصت بها الأديان وتراث الأمم الخ .متناسين عن عمد أيضا حقيقة ان الذي وجه ضربات قاصمة للدين هو البرجوازية نفسها اثناء كفاحها ضد الاقطاعية التي اعتمدت الأيديولوجيا الدينية سلاحا لها ، ففصلت الدين عن الدولة واستولت على أملاك الكنائس واعتبرت المؤسسة الدينية احدى مؤسسات المجتمع المدني لا يحق لها التدخل في الشؤون السياسية ، وقد حصل هذا عام 1648 في معاهدة ويستفاليا التي ارست مبادئ العلمانية واسست الدولة القومية الحديثة أي قبل ظهور الشيوعية ب 200 عام . فلجوء تلك المنظومات الفكرية الى الدين لتشويه الشيوعية كجزء من أساليب التضليل الفكري الذي كرست له دور نشر شهيرة وفضائيات ووسائل اعلام أخرى لتعميق الفجوة بين الجماهير والشيوعية .
  • الشيوعية تدعو الى الأممية وتكوين مجتمع كوزموبوليتي تمحي فيه الفوارق الثقافية بين الشعوب وتخلق نوعا من الانفصال بين ماضي الشعوب وحاضرها . التجربة المعاشة بعد ثورة أكتوبر اثبتت ان الشيوعيين يحرصون على تطوير ثقافات الشعوب وتراثها التقدمي ، وتبنت طروحات لينين في حق تقرير المصير للشعوب التابعة للكولونيالية ، وتجربة الاتحاد السوفييتي في معالجة القضية القومية كانت دليلا على حرص الشيوعيين على احترام الاستقلال والتنوع .
  • هناك طروحات خاصة بالإسلام السياسي في معاداة الشيوعية حيث يدعون انها معركة الكفر مع الالحاد ، وأخرى خاصة بالحركات القومية الشوفينية على انها معركة العروبة مع الشعوبية .

الصراع الفكري مع المجموعة الثانية

منذ تأسيس الحزب عام 1934 واجه الحزب حلقات من الرفاق والأصدقاء ، تتنوع وتختلف في حجمها وتاثيرها ، فمن طروحات شخصية سرعان ما تتلاشى ،  الى انشقاقات صغيرة او انشقاقات كبيرة تتوزع آراؤها ذات اليمين وذات الشمال ، ساهمت جميعها في التاثير سلبا على عمل الحزب في الحقول السياسية والاجتماعية والجماهيرية  ، ويمكن تقسيم أسباب ظهور تلك الاطروحات الى عاملين أساسيين : عوامل داخلية تتعلق بالحزب وعوامل خارجية تتعلق بتاثير العامل الدولي والإقليمي وتاثير البيئة الجيوسياسية المحيطة بعمل الحزب .

     الحزب مثل أي ظاهرة اجتماعية تبدأ بسيطة ثم تتطور بفعل الصراعات اليومية التي يخوضها الحزب مع اعدائه، فقيادة الحزب الأولى التي أعلنت تأسيس الحزب لم تكن من النضج بحيث تستطيع مواجهة المهمات الكبيرة الملقاة على عاتق حزب شيوعي صغير في ظل دولة شبه اقطاعية شبه رأسمالية استبدادية تخضع لأوامر الاستعمار البريطاني، فلا المستوى الفكري لبعض أعضائها يؤهلهم لمثل هذه المهمة ولا ولاء بعضهم للفكر الماركسي كان صادقا كما اثبتت تجارب ما بعد التأسيس. فلم يكن لبعضهم من الماركسية الا الاسم، اذ اعلنوا انشقاقهم بحج واهية تتقاطع تماما مع الماركسية. ولعبت عوامل " الأنا " وطموح التسلط الشخصي دورا في انشقاقات أخرى . خاض الرفيق فهد صراعا مقداما مع هؤلاء بعد عودته من دراسته في الاتحاد السوفييتي ونجح في فضحهم وكشف نواياهم الدفينة ، والف كراس " حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية " ليضع حدا لطروحات هؤلاء وغيرهم ووضع أسس بناء الحزب الشيوعي على المبادئ اللينينية التي تساعد الحزب على خوض معارك طبقية شرسة مع أعداء الحزب والشعب في ظل ظروف الاربعينيات من القرن الماضي .

اما العوامل الدولية التي ساعدت على ظهور هذه النزعات فهي في المقام الأول طبيعة الصراع الأساسي في التشكيلة الاقتصادية الراسمالية بين الطبيعة الاجتماعية للعمل والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وما يتبعها من توظيف إمكانيات الراسمالية الهائلة لحرف الصراع وتزييف الوعي الذي اثر كثيرا على حركة الطبقة العاملة وحركة التحرر الوطني في موقفها من الفكر الماركسي وترك تاثيرات كبيرة على موقف الجماهير من الفكر الاشتراكي بشكل عام . كما لعبت الانشقاقات داخل الحركة الاشتراكية العالمية من أدوار سلبية على الصراعات داخل الأحزاب الشيوعية في البلدان الاشتراكية نفسها و في أوروبا او الأحزاب الشيوعية في بلدان الأطراف . و الدور السلبي الذي لعبته الحرب العالمية الأولى والثانية في تنمية النزعات القومية والشوفينية الضيقة ، والدور الذي لعبه صعود الفاشية في عدد من البلدان الأوروبية وانعكاس تلك النزعات الفاشية على بعض الحركات القومية في العالم وعلى بعض اجنحة الأحزاب الشيوعية في بلدان الأطراف التي تبنت شعار " عدو عدوي صديقي " الذي منح الفاشيين تاييدا بين أوساط معينة تطرح معاداة بريطانيا معيارا احاديا للثورية والوطنية .

اما البيئة الجيوسياسية المحيطة بعمل الحزب الشيوعي العراقي فهي عامل مهم آخر يضعف من رسوخ الفكر التنويري في المجتمع ويساعد على تغلغل الأفكار الغريبة ، فالامية والجهل السائدان في المجتمع العراقي وارتفاع نسبة الفقر ، وتغلغل الخرافة والغيبيات بين صفوف الشباب وخصوصا النساء تضع الحواجز امام تبني الفكر الماركسي لهؤلاء من جهة وتجعل من السهولة أيضا اختراق من تبنى منهم هذا الفكر .

الصراع الفكري مع المجموعة الثالثة

التعددية الفكرية والاختلاف في التحليل ظاهرة طبيعية في عالمنا الذي تتسع فيه يوما بعد يوم الفوارق الطبقية، وتتعدد المكونات الاجتماعية وتتنوع المناهح والتوجهات الثقافية والفكرية. ولا يقتصر الاختلاف على المدارس المصطرعة في ما بينها طبقيا وايديولوجيا، وانما نجد هذا الاختلاف جليا وواضحا بين أبناء المدرسة الواحدة ذات المصادر الفكرية المشتركة.

لم تكن امام حركة الطبقة العاملة من وسيلة لمعرفة أي من تلك النظريات والأفكار المختلفة تمتلك او تقترب من الحقيقة سوى الممارسة والنضال اليومي، وما تفرزه الصراعات وعمليات التطور الاجتماعي المتواصلة، و تؤكد الماركسية ان الصراع هو مصدر التطور، وصراع الأفكار داخل الحركة الاشتراكية ليس استثناء، فهو يحفز الفكر على تحليل المتغيرات واستنباط الحلول التي تواجه الحركة الاشتراكية.

ابرزت لوحة الصراع الفكري في تاريخ حزبنا مجموعة من الرفاق الباحثين والمحللين الذين ادلوا باراء انتجت محطات تحول مهمة في دراسة تطور سياسة الحزب في مجاليها النظري والتطبيقي، ولكن للأسف لم تلق تلك الطروحات والاراء الاهتمام الكافي والتحليل المعمق، ما افقدنا فرصا لاعادة النظر في التحليلات السائدة على المستويين النظري والتطبيقي. وكان التعامل مع مثل تلك الطروحات يستند على الدوام على مواد في النظام الداخلي تتعلق باحتفاظ الأقلية بآرائهم واعتماد راي الأغلبية المقر في المؤتمرات والكونفرنسات الحزبية، واعتماد مبدا " وحدة الإرادة والعمل”، وسببت هذه الطريقة في معالجة قضايا فكرية معقدة جدا خسارات كبيرة للحزب سواء بابتعاد مناضلين في المجالين النظري والممارسة السياسية عن الحزب، و خسارات في الوقت والجهد بعد ان اثبتت الكثير من الوقائع صحة الكثير من الآراء التي طرحت في فترات مختلفة من تاريخ الحزب.

       ما يهمنا الان هو دراسة مجموعة من المبادئ والاسس التي تكونت عبر الخبرة المتراكمة في العمل ومنها :

  • ان إدارة الصراع الفكري لا تنفصل عن إدارة السياسة والتنظيم والاعلام ، ويصبح من الضروري إعادة النظر باساليب إدارة العمل الحزبي ، فالظروف الراهنة هي غيرها التي كانت في الاربعينيات والخمسينيات .
  • العمل على خلق بيئة حزبية تسمح بتعدد الاتجاهات الفكرية والسياسية في اطار الرؤية الماركسية ، فالظروف الراهنة هي غير الظروف التي مر بها الحزب في زمن الرفيق فهد . وهذا لا يمثل تشجيعا للتكتلات داخل الحزب بقدر ما يمثل طريقة معاصرة في إدارة الصراع الفكري التي تعتمد على توسيع المشاركة باتخاذ القرار وتعزيز الديمقراطية في جميع مفاصل الحياة الحزبية والابتعاد عن المراتبية والمركزية الشديدة التي سببت الكثير من الأخطاء على المستوى النظري والممارسة السياسية .

 

عرض مقالات: