على الرغم من ان مفهوم المجتمع المدني مفهوماً غربياً بالأساس، الاّ انه يمكن القول ان هذا المفهوم لا يُعَد حكراً على فكر او منطقة جغرافية بذاتها بقدر ما يُعد مشترك حضاري يشير الى رغبة الافراد عندما يصل وعيهم الى مستوى معين لإقامة مجتمع يسعى لتحقيق مصالحهم. وبصفة عامة يمكن القول بان مفهوم المجتمع المدني قد استند الى مجموعه من القيم والمعايير من ابرزها الجماعية. فالفرد اذا كان عنصرا اساسياً من عناصر المجتمع فانه لا وجود له بمفرده الاّ باعتباره عنصراً مكوناً للجماعة، في حين تُرَكِّز الخبرة الغربية على الفردية، حيث يُعد الفرد الوحدة الاساسية. وفكرة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني وما شهدته هذه العلاقة من تطور من مرحلة الإشراف والتنظيم، إلى مرحلة الرقابة والتوظيف، إلى مرحلة الرقابة والإشراف، وما أضفته هذه العلاقة المتداخلة من ضعف وهشاشة على أجزاء كبيرة من المجتمع المدني على مستوى القيم والدور، بسبب طبيعة العلاقة المتأزمة ما بين المجتمع المدني العراقي، والحكومة.                         

للتحولات الهائلة في الفكر السياسي الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد الإطاحة بالنظام القديم والتخلص من فكر أزمنة العصور الوسطى ، دور بالغ الأهمية في ظهور نظام جديد أبرزت فيه على وجه الخصوص نظريات العقد الاجتماعي من خلال أفكار روادها هوبز و روسو و جون لوك  مما أدى الى ما  يعرف بالمجتمع المدني والذي كان يُقصد به تلك المؤسسات الاجتماعية التي تقف على المسافة الفاصلة بين الفرد بصفته عضواً في الأسرة والدولة ، حتى وإن اختلفت المفاهيم التي تناولت ذلك بين ما كان سائداً وما عرفه مفهوم المجتمع المدني في القرنين التاسع عشر والعشرين من تطور أدى  به أحياناً في اتجاه المغايرة والاختلاف ، ولا يعدو ذلك كونه نوعاً من التلخيص التجريدي لما عرفته كل من الدولة(بمؤسساتها ) و المجتمع( الشعب القاطن في إقليم الدولة)  من تحوّل وتطور سواءً من حيث البناء الداخلي أو الذاتي لكل منهما ، أو من حيث العلاقة التي تقوم بينهما فتكون هنالك  للدولة إرادة في السيطرة أو في الاحتواء ويكون من المجتمع نزوعاً نحو المزيد من الاستقلال والتمايز عن الدولة ودعوة إلى التقليل من ثقل حضورها.       

إن الاختلافات قائمة حول مفهوم المجتمع المدني كما هي غالباً بين العلماء والمفكرين عندما يتعلق الأمر بالمفاهيم والمصطلحات الإنسانية حيث تؤثر العَديد من العوامل الذاتية والموضوعية في ذلك ، والاختلاف الذي يصل في بعض الأحيان إلى التناقض ما هو إلا إثراء للموضوع ، ويتضح ذلك في تعدد التسميات التي تشير إلى مفهوم المجتمع المدني حيث يذهب البعض إلى إطلاق المجتمع الأهلي عليه وهناك من يشير إلى ذلك باسم التنظيم غير الرسمي ، وقد توجد اختلافات حول مفهوم المجتمع المدني ولكن يمكن أن نعتمد على شكل مبسط من المفاهيم الذي يصبح فيه المجتمع المدني عبارة عن مجموعة من التنظيمات التطوعية المستقلة نسبياً والتي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح الأفراد أو تحقيق منفعة جماعية للمجتمع ككل، وهي في ذلك ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والإرادة السلمية للتنوع والخلاف. وإضــافة إلــى الظــروف البيئــية، فــإن ممارسـات مؤسسات المجتمع المدني نفسها وطــريقة تنظــيمها تؤثــر هي الأخـرى في قــدرة المجــتمع المدني علـى استقرار وزيادة الاقتصـاد العـالمي.               

وعند تحليل البعد البنيوي لدور مؤسسات المجتمع المدني في سياق العملية الديمقراطية، يمكننا ان نستنتج دور تربوي ثقافي لمنظمات المجتمع المدني عبر استكمال حلقات وفرص التنشئة السياسية ذات المضمون الديمقراطي للمواطنين. والتدريب العملي على الأسس الديمقراطية في الحياة الداخلية لمؤسسات المجتمع المدني. ودور تعبوي يتحقق من خلال توسيع آفاق المشاركة السياسية ورفد المجتمع بكوادر وقيادات سياسية واعدة. ودور الرقابة والنقد والضغط على الحكومة اذا ما تجاوزت حدود مشروعيتها الدستورية. فعلى المستوى الأول، لابد من التسليم بفرضية مفادها "أن البناء الديمقراطي لا يأتي إلاّ من خلال التنشئة السياسية السليمة التي تعتمد قيم الديمقراطية مرتكزا أساسيا لها". وبما إن التنشئة السياسية هي عملية تأهيلية وتعليمية وتثقيفية يخضع لها الفرد من أجل تفعيل دوره في المجتمع، لذا ينبغي أن تتحمل مسؤولية التنشئة السياسية للفرد مؤسسات المجتمع المدني، لكونها مؤسسات مستقلة ؛ ولكونها الأقدر على ممارسة الدور التربوي / التثقيفي في المجتمع على العملية الديمقراطية من خلال العلاقات الداخلية لكل مؤسسة والتي تنظمها لائحة داخلية أو نظام أساسي يُحدد حقوق وواجبات الأعضاء وأسس إدارتها من خلال مجلس إدارة منتخب وهيئة عامة تضم كل الأعضاء وتعتبر أعلى سلطة في المؤسسة تنتخب مجلس الإدارة وتراقب أداءه وتحاسبه على ما يحققه من نتائج. أمّا التربية المدنية هي عملية تثقيفية توعوية تهدف إلى إكساب الأفراد ثقافة حديثة تتمحور حول طبيعة المواطنة المرتكزة على منظومة الحقوق المد نية والسياسية، وتتحقق التربية المدنية من خلال عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية ضمن مؤسسات رسمية أو أهلية. والتربية المدنية هي العملية التي تُشكل البعد الرئيسي في ترسيخ المواطنة وحقوق الإنسان وبناء المجتمع المدني. ويمكن تعريف عملية التنشئة السياسية والاجتماعية بأنها : عملية تهدف إلى إكساب الأفراد وعياً سياسياً جديداً يُمَكِّنهم من تحقيق مشاركة إيجابية وفعَّالة أي يمكنهم من الوعي بطبيعة المجال السياسي الذي ينبغي عليهم المشاركة فيه ، بمعنى آخر يمكن القول أنها عملية تهدف إلى رفع مستوى وعي الأفراد السياسي والاجتماعي وإكسابهم قيماً وأفكاراً وتصورات واتجاهات سياسية ومعرفية حديثة تُبلور وعيهم وتخلق لديهم قناعات قيميه وثقافية بأهمية الثقافة المدنية حتى تترسخ لديهم كسلوك ممارس وهنا تصبح ليس فقط منهجاً للحكم بل وأسلوب للحياة بعبارة أخرى نقول إن مهمة التنشئة السياسية تعميق المفاهيم الجديدة في وعي الأفراد والمجتمع من أجل تحقيق تكامل بين البناء السياسي الحديث ومنظومة القيم الثقافية الداعمة له ..ومن أهم مؤسسات التنشئة السياسية : مؤسسات المجتمع المدني ( نقابات / جمعيات /منظمات / أندية / مراكز/ أحزاب/ جامعات ) وسائل الإعلام المختلفة ( مسموعة / مرئية / مقروءة ) إضافة إلى مؤسسات التعليم العام . وكل منها تقوم بأدوارها في مجال تنمية الوعي السياسي والاجتماعي حتى يمكن خلق ثقافة سياسية حديثة وخلق وعي جمعي ينتشر في أوساط كل أفراد المجتمع.

    فهل حقاً أننا نحتاج إلى تبني الأنموذج الديمقراطي الغربي، بكل منطلقاته الفكرية وبكل ممارساته في الواقع، واعتباره الأنموذج الأفضل لكل مجتمعات البشر، وذلك بالرغم من أنه كان حصيلة صيرورة تاريخية سياسية اقتصادية اجتماعية تأسست وتطورت حسب حاجات وظروف مجتمعات الغرب المختلفة عبر أربعة قرون من الحروب والثورات والصراعات الدينية والطبقية وبممارسات الاستعمار والعبودية لمجتمعات الغير وبشرها، إنَّ دليل خصوصيتها الغربية هو ربط البعض للديمقراطية بقيم الحداثة الليبرالية الكلاسيكية، التي هي تحت المراجعة حالياً، واشتراط البعض الآخر تعايشها مع الرأسمالية، التي هي في أزمة، التي تمثل خطرا على مستقبل الديمقراطية نفسها.. عبر التاريخ الطويل من التقلبات والمراجعات، تُجرى الآن في الغرب مراجعة للموضوع الديمقراطي برمته، خصوصا بشأن فصله التاريخي الخاطئ عن موضوع العدالة الاجتماعية الإنسانية.                                    

والجانــب الآخر مــن الأســباب التي تعــوِّق المجـتمع المدنـي عـن أن يُقـدِّم المزيد مـن أجل تحريك إدارة الاقتصاد العالمي يـتعلق بظـروف المجـتمع المدنـي الذى تعمل في إطــاره تلــك المؤسســات فحـتى أكثر المـنظمات تحمسـاً للديمقراطـية والـتزاماً بها لا تستطيع البيـئة المحـيطة غـير حاضـنة للأنشطة أن تقـدم إسهامات محدودة إذا ما كانت الضرورية المؤدية لهذا الهدف. فعلى سـبيل المـثال، إذا كـان الفقـر متفشـياً بدرجة تجعـل قطاعات عريضة مــن الشعب مُستَوعَبَة بصــورة تامة في معـركة يومــية لكســب لقمة العــيش، فـإنهم لن يكون لديهم الوقت الكافي للانخـراط في أنشطة المجتمع المدني ولا الموارد اللازمة لمسـاندة حملاتـه.  مــن جانـب آخـر فـإن وجــود أو غــياب شـبكات داعمـة للمجتمع المدني عادةً ما تحـدث فـرقاً كبـيراً. إضـافة إلى هذا، فـإن قـدرة مؤسسات المجتمع المدني على التأثـير في الدفع بقضـية الديمقراطـية تعـتمد إلى حد كبير على الســلطات بالمجـتمع المدني أو توجهـات الدوائـر الرسمية. فمدى جهل معرفـتهم بـه وإلـى أي حـد تكون درجة تقـبّلَها أو عدائهـا لأنشـطته يحدث فرقاً. وينبغي أن نؤكـد أنـه ليس أن المجتمع المدني هو الحل الأوحد، أو الأكمـل، أو الـتلقائي، أو بالضرورة الأفضل للمشـاكل المؤسسـية والهيكلـية. فهناك بعض مؤسســات المجــتمع المدني (مــثل الجماعـات العنصـرية) التي تعتـبر في صـميمها ضد الديمقراطية. في حين أن كــيانات أخــرى في المجــتمع المدني تدعـم الديمقراطـية مـن حيث المبدأ إلاّ أنهــا فــي واقــع الممارســة العملــية لا تولـي دفع الديمقراطية إلاّ مركزاً متأخراً فـي أولوياتهـا. هـذا الـتجاهل النسـبي عـادةً مـا يُمـيز المـنظمات التي تدعـم مصالح قوية ومتجذرة، فإذا نحيـنا هـذا جانـباً، نجد أن أنشطة المجــتمع المدنــي مـن المؤكــد أنهـا تساعد الناس في مناسبات عدة أخرى علـى تحقـيق وعي أكـثر وانخـراط أكبر وتَحكُّـم أعلى في ضبط وتنظيم العولمة الاقتصـادية. هـذه الفوائـد تكـون واضحة في حالـــة بعـــض مكونـات الحـــيوية للديمقراطـية مـثل الـثقافة الجماهيرية، الحوار الجماهيري، المشـاركة الجماهيرية، الشفافية والمسائلة.  فقـد أسـهمت مؤسسـات المجـتمع المدني بالفعل في تفعـيل قـدر أكـبر مـن الديمقراطـية في الاقتصاد العالمي في كل من هذه المجالات. على الجانــب الآخــر، ما زال يمكـن لجماعـات المجـتمع المدني أن تحقـق أكثر مما حققت في كل مجال من هذه المجالات. فما يمكن جنيه من ثمار جهــود المجتمع المدني المُوَجـَّـه نحــو إدارة ديمقراطـية للاقتصاد العالمي أكثر بكثـير ممـا تحقـق بـالفعل حـتى الـيوم، فمـا زال هـناك الكثـير مـن الجهـد الذى يجــب بذله.